جوع مقنّع: مأزق الأمن الغذائي في أوقات الحرب

قضايا إنسانية

جوع مقنّع: مأزق الأمن الغذائي في أوقات الحرب

داخل مركز نزوح يديره اتحاد بلديات منطقة صور في جنوب لبنان؛ تصوير: خضر حسان

تترافق الحروب مع تردّي الأوضاع الإنسانية للمدنيين الذين يتحملون وحدهم وزرها الأكبر. فيضطرّ كثيرون للنزوح نحو مناطق أكثر أمانًا، ما يضاعف أعباءهم الاقتصادية والاجتماعية والصحية كلّما طال أمد الحرب. وبالرغم من مسارعة المنظّمات الإنسانية، المحلية والدولية، لتقديم مساعدات غذائية وإغاثية، ضرورية لصمودهم، فإنها لا تضمن في أغلب الأحيان الأمن الغذائي الكامل. ويشتد خطر النزوح عندما يضيق أطراف النزاع الخناق على وصول المساعدات إلى المدنيين، ما يتناقض مع القانون الدولي الإنساني.

وانطلاقًا من ذلك، سجلت الحرب الأخيرة في لبنان، بالتزامن مع الحرب المستمرة في قطاع غزة، وقبلهما النزاع في سوريا، غيابًا تامًا للأمن الغذائي بالرغم من المساعدات الإنسانية التي قُدمت للنازحين. وهو ما يجعل من الأمن الغذائي قضية ملحّة يجب بحثها على مستوى المنظمات الدولية، لتحقيق نتائج أفضل فيما يخصّ ضمان الكرامة الإنسانية لمتضرري الحروب على المدى الطويل، وتكريس الجانب الإنساني في القوانين الدولية التي تحمي المدنيين.

مساعدات غذائية أم نقدية؟

إثر الحرب الإسرائيلية الأخيرة على جنوب لبنان، انهمرت المساعدات الإغاثية على النازحين الذين نزحوا قسرًا من قراهم. وعلى ثلاث مراحل، كانت الحصص الغذائية تصل إليهم بتفاوت كبير في الكمية والنوعية، لكن القاسم المشترك بينها أنها لم تحقق شروط الأمن الغذائي. وهذا ألمر حددته منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (FAO) بأربع شروط: التوافر (الغذاء) بكميات كافية؛ والوصول أي قدرة الأفراد على الحصول على الغذاء؛ والاستخدام أي ضمان ظروف صحية وآمنة لاستخدام المواد الغذائية؛ والاستقرار أي أن يكون الغذاء متاحًا باستمرار من دون انقطاع.

في المرحلة الأولى من الحرب، التي امتدت من 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023 حتى 23 أيلول/سبتمبر 2024، اقتصر النزوح على سكان القرى الحدودية، حيث استقرّ بعضهم في مراكز نزوح تديرها الجهات الرسمية اللبنانية، منها مدارس ومعاهد رسمية، بينما تمكّن آخرون من استئجار منازل في القرى التي بقيت آمنة في ذلك الوقت. أما المرحلة الثانية، التي امتدت من صباح 23 أيلول/سبتمبر حتى 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، فشهدت نزوح السكان من مناطق كانت تُعدّ آمنة إلى أخرى شمال نهر الليطاني. وفي المرحلتين لم تضمن المساعدات الغذائية الأمن الغذائي للنازحين الذين عانوا ظروف نزوح صعبة جدًا.

أما المرحلة الثالثة، وهي مرحلة دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، فتمتد من 27 تشرين الثاني/نوفمبر إلى اليوم. في هذه المرحلة تراجعت المساعدات الإغاثية، بما فيها الحصص الغذائية، مع عودة أغلب النازحين إلى بيوتهم، باستثناء سكان المناطق الحدودية، إذ مازالت عودتهم مرتبطة بالانتهاء التام للعمليات العسكرية من الجانب الإسرائيلي ضد أهداف في لبنان، وبالتوازي، بإعادة إعمار الأبنية المهدّمة.

تعبيراً عن هذا الواقع، أكّد سامي الشعبة، الذي نزح “تحت القصف” مع زوجته وطفلتيه في تشرين الأول/ اكتوبر 2023، من بلدة الناقورة الحدودية إلى مركز إيواء تابع لاتحاد بلديات قضاء صور (منطقة جنوبية غير حدودية) أنه، لصعوبة الموقف حينها، لم يكن لتخطر في باله أمور كنوعية الطعام الذي سيحصل عليه، ولا إذا كان سيحصل أساساً على طعام أم لا، “فكل ما كان مهمّاً يومها، هو الابتعاد عن الخطر. ولم نهتم يومها بما يمكن أن يعطونا -المؤسسات الإغاثية- إيّاه، سواء طعام أو مال”.

بعد أيام من رحلة النزوح خارج دائرة الخطر، بدأت الأمور تتكشف. يضيف سامي الشعبة: «بعد أن كنت أصطاد السمك وأزرع ما أريد أكله من خضروات وفواكه وحبوب، بات علينا أن نأكل يوميًا الحمص والأرز والمعكرونة». وتساءل: «كيف يمكن إقناع الأطفال بتناول هذا الطعام يوميًا؟ فإذا كان الكبار يأكلون أي شيء إدراكًا منهم للظرف الصعب، فهل نستطيع إقناع الأطفال بتناول هذا الأكل المسلوق يوميًا؟».

لم تسجل مراكز إيواء النازحين حالات سوء تغذية خلال المراحل الثلاثة للحرب، لكنها لا تزال تسجل حالات فقدان وزن، ورفض الأطفال تناول كثير من الطعام المقدم للنازحين. يوضح سامي أن ما يُقدَّم من حصص غذائية لا يمتّ بصلة إلى الأمن الغذائي، قائلًا: «الكثير من الطعام يُرمى اليوم، فبعضه لا يمكن أكله إطلاقًا، لأن الوجبات الغذائية الجاهزة تصل باردة وبلا طعم. والحبوب والأرز التي تتضمنها الحصص لا يمكن طبخها لعدم توافر الغاز ولغياب عناصر أخرى ضرورية تضاف إليها، مثل اللحم أو الدجاج أو الخضار والمنكّهات. لا أحد يستطيع أن يسلق الأرز ويأكله إلا في حالات استثنائية أشدّ صعوبة».

يرجح سامي استمرار هذا الواقع «طالما أننا لا نزال نازحين ولا نعرف متى سنعود إلى قرانا». ويضيف: «ما يثير القلق هو تراجع مستوى المساعدات الإغاثية، إذ تعتبر كثير من المنظمات أن الحرب انتهت، فأوقفت تأمين الحصص الغذائية وحصص النظافة الشخصية». وفي رؤيته للحل، يقول: «على منظمات الإغاثة أن تغيّر مفهومها للمساعدات، كي تضمن تحقيق الأمن الغذائي للنازحين، وتضمن أيضًا عدم هدر أموالها في شراء المعلّبات والحاجيات التي لا يأكلها النازحون. يمكن اعتماد صيغة جديدة لتأمين اللحوم أو منح النازحين مبالغ مالية تمكّنهم من اختيار الطعام الذي يريدونه، خصوصًا للأطفال».

من سوريا إلى لبنان

ما عاشه النازحون اللبنانيون خلال الحرب الأخيرة، عاشه النازحون السوريون مضاعفًا منذ اندلاع النزاع في سوريا في العام 2011. فهؤلاء فرّوا من العنف المتصاعد  وما رافقه من مجازر وأزمات اقتصادية واجتماعية، لم تتمكن المنظمات الدولية من سدّ الفجوات الناجمة عنها بشكل كامل. فعلى سبيل المثال، أعلن منسق الأمم المتحدة المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية في سوريا، آدم عبد المولى، أن «النقص الحاد في السيولة يحد من إيصال المساعدات والوصول إلى الخدمات الأساسية». وأضاف أن «خطة الاستجابة الإنسانية لعام 2024 موّلت بنسبة 35.6 بالمئة فقط، فيما لم تتلقَّ الاستجابة في الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام سوى 11.7 بالمئة من التمويل المطلوب».

ومع استمرار هذا العجز في الاستجابة داخل سوريا، وجد كثير من النازحين أنفسهم مضطرين للعبور إلى لبنان. لتصبح يومياتهم أسيرة مخيمات اللجوء أو، في أحسن الأحوال، غرفة ضيقة في مدخل أحد الأبنية. والمشترك في معظم حالات اللجوء هذه هو افتقار اللاجئين إلى الأمن الغذائي، رغم تلقيهم مساعدات غذائية من المنظمات الدولية.

محمد عبيد هرب من خطر القتل والخطف والضائقة الاقتصادية في سوريا إلى لبنان، ظنًا منه أن الأوضاع ستكون أفضل. وفي عام 2019، وجد نفسه يختبر مع اللبنانيين انهيار سعر صرف الليرة، إثر تفجر الأزمة الاقتصادية في تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام، وما تبعه من تراجع في القدرة الشرائية للأجر الذي يتقاضاه لقاء عمله في قطاع البناء.

يقول محمد لـ«الإنساني» إنه اضطر إلى «التعايش مع الواقع الجديد، ريثما تتحسن الأحوال». لكن الأحوال لم تتحسن كما كان يأمل، بل ازدادت سوءًا، مضيفًا: «أصبح الاعتماد الأكبر لتأمين قوت العائلة على المساعدات الغذائية من جمعيات الإغاثة، وما يمنّ به علينا الجيران». يعيش محمد مع زوجته وطفليه في غرفة ضمن مبنى سكني، حيث يعمل حارساً لقاء السكن والماء والكهرباء وراتب شهري رمزي.

مع بروز بوادر إيجابية لتحسّن سوق العمل، بدأت التوترات على الحدود الجنوبية في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023. ولأن محمد عبيد يعيش في الضاحية الجنوبية لبيروت، كان واضحًا أنه سيتأثر بالحرب إذا انفلتت الأمور. وتحققت مخاوفه في 23 أيلول/سبتمبر 2024، فترك الضاحية الجنوبية شأنه شأن سكانها اللبنانيين، وكانت وجهته مع عائلته شاطئ البحر. لكن يقول محمد: «سرعان ما أخرجت العائلة من لبنان نحو سوريا، حيث ستكون العائلة تحت رعاية أهل زوجتي بالرغم من المصاعب هناك. وإذا كنت أستطيع تحمّل النوم على الشاطئ، إلا أن زوجتي وأطفالي لا يستطيعون».

يضيف محمد عبيد: «خلال الحرب، لم أستطع تأمين الطعام بكميات كافية. حتى إن المساعدات الغذائية لم تصلنا، فلا عنوان سكن لدينا في تلك اللحظة، ولا مراكز إغاثية نعرفها، ولا يمكننا تسجيل أسمائنا في المراكز التي فُتحت للنازحين اللبنانيين، فكان الخيار الوحيد هو الرهان على الوقت». لم يتضمّن هذا الرهان الجوع بمعناه الحرفي، يوضح محمد: «الحصول على وجبة واحدة في اليوم كان ممكنًا، بما أملكه من نقود قليلة، أو بما أشاركه مع بعض الشبّان، أو بما أحصل عليه من مساعدة بسيطة من بعض اللبنانيين الذين أعرفهم. لكن المشكلة كانت في الحصول على طعام جيّد وكافٍ للبقاء بصحة جيّدة وبكامل قوّتي، خصوصًا أن فترة الحرب لم تكن محددة، وربما تمتد لأشهر أو سنوات». استمر النزاع الأخير 66 يومًا فقط، لكنها فترة كانت كفيلة بأن تُضعف جسده: «خسرت الكثير من وزني، وبدا التعب واضحًا عليّ من قلّة الأكل والنوم».

هل يمكن تحقيق الأمن الغذائي

مع وقف الاقتتال الحذر بعد اتفاق وقف إطلاق النار، لا يزال النازحون اللبنانيون قلقين من احتمال تجدّد الحرب في أية لحظة. وينسحب هذا القلق على السوريين والفلسطينيين المقيمين في المناطق الجنوبية، إذ تعني الحرب، إلى جانب خطر الموت بالرصاص والقذائف، الاضطرار إلى تحمّل ظروف معيشية قاسية تتفاقم كلّما ساءت الأوضاع المادية للنازحين، حيث يصبح الحصول على مسكن وغذاء لائق أمرًا بالغ الصعوبة.

يرى رئيس «الهيئة الوطنية الصحية» في لبنان الطبيب المتخصص في أمراض الجهاز الهضمي والمناظير، إسماعيل سكرية، أن ضعف تأثير المساعدات الغذائية في تحقيق الأمن الغذائي خلال الحروب والنزاعات هو «واقع مشترك في معظم الدول التي تشهد حروبًا». وأوضح أن «تحقيق الأمن الغذائي في ظروف الحرب أمر بالغ الصعوبة، فهناك عوامل كثيرة تعيق ذلك، منها صعوبة التأكد من أماكن تخزين المواد الغذائية وضمان سهولة إيصال المساعدات إلى السكان في المناطق الخطرة، إضافة إلى احتمال أن تكون بعض المواد الغذائية متضررة أو تقترب صلاحيتها من انتهاء».

ولتحقيق الأمن الغذائي، يرى الدكتور «سكرية» أنه «يجب التأكد أولًا من جودة المواد الغذائية الواصلة إلى مناطق النزاع، ومن أماكن تخزينها، ثم الأخذ برأي لجنة طبية تراجع صلاحيتها وسلامتها واحتواءها على العناصر الغذائية المطلوبة. أما الاكتفاء بتوزيع المساعدات فقط، فلا يضمن الأمن الغذائي». ويُميّز «سكرية» بين طبيعة الحرب في غزة ولبنان، موضحًا أن «تحقيق الأمن الغذائي في غزة يكاد يكون مستحيلًا، حتى لو احتوت المساعدات على مواد جيدة، لأن تلك المواد تمكث وقتًا طويلًا في المخازن وعلى المعابر، ما يؤثر في جودتها وقيمتها الغذائية، فضلًا عن احتمالات تعرضها للتلف. كما تُثار أحيانًا شكوك حول تعرّض بعض المواد، مثل الطحين، للتلف المتعمد أو التلوث أثناء عبورها».

في موازاة هذا الواقع، تسعى مبادرات محلية لتقديم بدائل أكثر استدامة. ومن بين هذه المبادرات، مشروع بتمويل من هيئة الأمم المتحدة للمرأة، على أرض تابعة للمدرسة المهنية الرسمية في مدينة صور، التي تؤوي نازحين من القرى الحدودية. يهدف المشروع، الذي انطلق مع بداية الحرب، إلى تمكين النساء النازحات من العمل وتأمين أطعمة ذات قيمة غذائية حقيقية. وقد استهدف نحو 250 امرأة تدرّبن على الزراعة العضوية.ومكن «النساء النازحات من الحصول على عمل وطعام مجاني ذي قيمة غذائية حقيقية، لا يمكن الحصول عليه من خلال الحصص الغذائية»، بحسب زينب مهدي، النازحة من منطقة الناقورة والعاملة في المشروع.

وعليه، لا بدّ لمنظمات الإغاثة المحلية والدولية أن تبني مقاربة شاملة لتدخّلها الإنساني خلال الحروب والنزاعات. ينبغي أن تعتمد هذه المقاربة على تقييم ميداني حقيقي لمناطق النزوح واحتياجاتها، يأخذ في الاعتبار أعداد النساء والأطفال وكبار السن، ومتطلباتهم الغذائية والصحية. ويشمل ذلك تحديد مكونات السلة الغذائية المطلوبة، بحيث تتضمن عناصر متوازنة مثل البروتينات والدهون الصحية والمعادن، وغيرها من المواد التي تعزّز المناعة وتحافظ على الصحة الجيدة.

كما يجب ضمان انتظام الإمدادات الغذائية وتخزينها في أماكن مناسبة، إلى جانب توفير قسائم غذائية تمكّن النازحين من شراء أغذية متنوعة من الأسواق المحلية. ويخضع هذا كله لتقدير الظروف الميدانية؛ فكلما اشتدت الحرب، زادت الحاجة إلى المعلّبات التي تحتوي على طعام جاهز لا يحتاج إلى تحضير، وتكون الأولوية حينها للبقاء على قيد الحياة. أمّا في الحالات الأقل خطورة، فمن الضروري تحويل المساعدات الغذائية من وسيلة لتفادي المجاعة إلى وسيلة لضمان الأمن الغذائي والكرامة الإنسانية للنازحين، حتى لا يغرقوا في جوعٍ صامتٍ قوامه طعام بلا فائدة ولا استدامة.​

Share this article

تعليقات

There is no comments for now.

Leave a comment