لا تلمس، لا تقترب، بلغ عنها: معركة سورية صعبة ضد مخلفات الحرب

قضايا إنسانية / من الميدان

لا تلمس، لا تقترب، بلغ عنها: معركة سورية صعبة ضد مخلفات الحرب

في اليوم العالمي للتوعية بمخاطر الألغام أنتجت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سورية بودكاست يسلط الضوء على واحدة من أخطر المشكلات التي تواجه السوريين بعد 14 عاماً من النزاع وهي الألغام ومخلفات الحرب غير المنفجرة التي تهدد حياة الملايين يومياً. واستضاف عمّار صبّوح كلّاً من عمر العصَورة ونور نصرة من قسم التلوث بالأسلحة باللجنة الدولية للصليب الأحمر في سورية، لمناقشة قضية التلوث بالأسلحة المنتشرة على نطاق واسع في البلاد والجهود المستمرة التي تبذلها اللجنة الدولية للتعامل مع آثارها المدمرة.

حجم المشكلة كارثي والتوعية هي الحل

وفقاً للإحصائيات التي قدمها عمر، الذي يعمل مع اللجنة الدولية منذ خمس سنوات، تعتبر سورية من أكثر الدول تلوثاً بمخلفات الحرب، حيث سجلت في نهاية عام 2013 أكبر عدد من الضحايا للمرة الثالثة على التوالي. ووفق إحصائيات الأمم المتحدة، يعيش حوالي 14 مليون شخص في سورية في مناطق معرضة لخطر مخلفات الحرب.

وأشار البودكاست إلى أن الكثير من الإصابات تحدث بسبب قلة الوعي والاستخفاف بالمخاطر، حيث ينتشر بعض المفاهيم الخاطئة مثل الاعتقاد بأن الألغام لا تنفجر فور الدوس عليها، أو أن الخبرة العسكرية البسيطة تكفي للتعامل مع المخلفات المتفجرة.

روى عمر تجربة مؤثرة عن زيارته لمستشفى حيث شاهد أماً تبكي ابنها البالغ من العمر 15 عاماً الذي قُتل بسبب انفجار لغم أثناء رعيه للأغنام في منطقة كانت العائلة تعتقد أنها آمنة حيث اعتادوا الرعي فيها دون حوادث سابقة. كما تحدثت نور عن تجربتها كإحدى أوائل النساء السوريات المتخصصات في إزالة الألغام، وكيف أن عملها يمنحها شعوراً بالفخر والإنجاز رغم الخطورة والتحديات.

أوضحت نور التي تمتلك خبرة 14 عاماً في هذا المجال، أن اللجنة الدولية والهلال الأحمر يركزان على التوعية كخط دفاع أول لحماية المدنيين. إذ تستهدف جلسات التوعية جميع الفئات من الأطفال إلى الرجال والنساء والبالغين والمراهقين، كما تستهدف فئات مهنية معينة مثل السائقين وجامعي الخردة والموظفين.

وتتنوع طرق التوعية حسب الفئة المستهدفة، فيتم استخدام الفيديوهات والألعاب والأنشطة الحركية لتوعية الأطفال، بينما تصمم برامج خاصة للفئات المهنية المعرضة للخطر مثل عمال الكهرباء وفرق الإطفاء.

التحديات والصعوبات التي تواجه عمليات مكافحة الألغام

تناول البودكاست الصعوبات التي تواجه عمليات إزالة الألغام ومخلفات الحرب، حيث أكدت نور أن فرق الإزالة تخضع لتدريبات متخصصة ومكثفة، ويعملون وفق معايير سلامة صارمة جداً. وشددت على أن عملية الإزالة ليست بالبساطة التي تظهر في الأفلام، بل هي عملية طويلة ومعقدة وتختلف طريقة التعامل مع كل نوع من المخلفات، وتتطلب خبرة عالية وتجهيزات خاصة.

كما تشكل مكافحة مخلفات الحرب في سورية تحدياً مركباً يتخطى القدرات الحالية للمنظمات العاملة في هذا المجال. فحجم التلوث الهائل الذي خلفه 14 عاماً من النزاع يقف أمام جهود محدودة تبذلها المنظمات المحلية والدولية، وكما أوضح عمر: “هذا العمل ليس كافٍ أبداً بالمقارنة بحجم المشكلة: 14 مليون شخص معرضين للخطر”.

وتزداد الصعوبات تعقيداً مع الضغوط الاقتصادية التي تدفع المدنيين للعودة إلى مناطق يعلمون أنها ملوثة. فالعائلات التي فقدت منازلها أو لم تعد قادرة على دفع إيجار بديل تجد نفسها مضطرة للمخاطرة بالعودة إلى بيوتها المتضررة دون التأكد من سلامتها. وبالمثل، يضطر المزارعون لفلاحة أراضٍ يعرفون أنها قد تحتوي على ألغام أو ذخائر غير منفجرة، لأن هذه الأراضي هي مصدر رزقهم الوحيد في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.

إزالة الألغام في ريف دمشق- تصوير: عمار صبوح/ اللجنة الدولية

كما يمثل تلوث البنى التحتية الأساسية عائقاً كبيراً أمام عودة الحياة الطبيعية، فالمدارس المدمرة والمستشفيات والطرقات تحتاج أولاً إلى تطهيرها من المخلفات قبل إعادة تأهيلها، وهو ما يؤخر عمليات إعادة الإعمار ويضاعف تكلفتها.

وتشير نور إلى تحدٍ آخر يتمثل في نقص الوعي لدى بعض فئات المجتمع، خاصة الرجال من ذوي الخبرة العسكرية السابقة، الذين يظنون أنهم قادرون على التعامل مع المخلفات المتفجرة، ما يؤدي إلى حوادث مأساوية. كما أن انتشار معلومات مغلوطة عن الألغام، مستقاة من أفلام ومصادر غير موثوقة، يزيد من انتشار سلوكيات خاطئة قد تكون قاتلة.

 

ويزداد الوضع تعقيداً مع التأثيرات النفسية والاجتماعية الطويلة الأمد للإصابات الناجمة عن المخلفات المتفجرة. فالأشخاص الذين يعانون من فقدان أطرافهم أو حواسهم يفقدون قدرتهم على العمل، مما يزيد الضغط الاقتصادي على أسرهم. كما أن الصدمات النفسية التي يعاني منها ضحايا الانفجارات والشهود عليها تستمر لفترات طويلة، مما يشكل عبئاً إضافياً على النظام الصحي المنهك أصلاً.

وسط هذه التحديات، تبرز الحاجة الملحة إلى وجود مركز وطني يتولى تنسيق الجهود المبذولة في مجال مكافحة الألغام، كما يؤكد عمر، وإلى تضافر جهود محلية ودولية أكبر بكثير مما هو متاح حالياً لمواجهة هذه المشكلة الضخمة.

في ختام البودكاست، أكدت نور على الأهمية القصوى لجلسات التوعية، داعية المستمعين إلى عدم تفويت أي فرصة للمشاركة فيها. كما شددت على ضرورة الالتزام بإرشادات السلامة الأساسية الثلاث التي يمكن أن تنقذ الحياة: “لا تلمس، لا تقترب، وأبلغ الجهات المعنية.”

من جانبه، وجّه عمر رسالته إلى المنظمات التي بدأت بالمشاركة في جهود إعادة الإعمار في سورية، مؤكداً أن السلامة يجب أن تكون على رأس الأولويات. “ضروري جداً خلال عملية إعادة الإعمار والتعافي التركيز على أهمية السلامة أولاً، سلامة المتطوعين وسلامة المنظمات وسلامة العاملين،” مشدداً على ضرورة وجود تنسيق فعال بين جميع الجهات العاملة في هذا المجال لتجنب هدر الجهود والموارد.

في النهاية، من غير الممكن تخليص سورية من مخلفات الحرب بين ليلة وضحاها، بل هي مهمة تتطلب جهداً جماعياً طويل الأمد يشارك فيه الجميع – من المواطن العادي الذي يتبنى السلوكيات الآمنة وينشر الوعي بين أفراد عائلته ومجتمعه، إلى المنظمات المحلية والدولية التي تعمل في مجال الإزالة والتوعية، وصولاً إلى الجهات الرسمية التي يقع على عاتقها تنسيق هذه الجهود وتوجيهها.

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا