في قلب الأزمات المتلاحقة التي اجتاحت لبنان خلال السنوات الأخيرة، بقي الصليب الأحمر اللبناني خط الدفاع الأول في مواجهة التداعيات الإنسانية. وتحولت هذه الجمعية الوطنية العريقة، التي تأسست في العام 1945، إلى عمود فقري للاستجابة الإنسانية في بلد يغرق تحت وطأة أزمات متراكمة. وبمناسبة اليوم العالمي للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، يستعرض أمين عام الصليب الأحمر اللبناني الأستاذ جورج الكتاني بعضًا من التحديات التي تواجهها الجمعية الوطنية اليوم مع توالي الأزمات الإنسانية والاقتصادية منذ العام 2019 ويطرح رؤيته لأولويات الجمعية التي من شأنها تأمين صمودها وتطورها واستمرارها في تأدية دورها الإنساني في السنوات المقبلة.
على مدار تاريخه، ظل الصليب الأحمر اللبناني لاعبًا أساسيًا في المشهد الإنساني في لبنان حيث جسد المبادئ الأساسية للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر. فمنذ تأسيسه بعد الاستقلال الناجز في العام 1945 بذل الصليب الأحمر اللبناني جهودًا حثيثة لخدمة المجتمعات في لبنان، والاستجابة للأزمات، وتعزيز الصمود، وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى من هم بحاجة، في بلد شهد مآسي عدة من صنع الإنسان أو من صنع الطبيعة على حد سواء.
فخلال الحرب الأهلية (1975-1990)، سمحت له حياديّته بتقديم الإسعافات الأولية وخدمات الإسعاف والرعاية لجميع المحتاجين، مما جعله كيانًا موثوقًا في خِضم النزاع. وفي كل نزاع وكارثة وأزمة محلية كان لمتطوعيه والمنتمين إليه الدور الأول في الإغاثة وتقديم العون والمساعدة لمن هم بحاجة مع تطبيق فعلي للمبادئ الاساسية للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر والمحافظة على المتطوعين وحمايتهم من أجل الوصول الآمن إلى المحتاجين. ولطالما سطّر متطوعوه ملاحم إنسانية حظيت بالاحترام والتقدير وطنيًا ودوليًا كمثال إنساني يحتذى.
واليوم، يُعتبر الصليب الأحمر اللبناني المزوّد الرئيسي لخدمات الإسعاف والرعاية الصحية الأولية ما قبل الوصول الى المستشفى في جميع أنحاء لبنان، حيث يضم أكثر من 5000 متطوع ويشغل أسطولاً يضم أكثر من 350 سيارة إسعاف موزعة في مراكز في كافة أنحاء البلاد.
إلى جانب ذلك، تقدّم الجمعية خدمات نقل الدم وهي رائدة في هذه الخدمة، بالإضافة إلى برامج تعزيز التوعية الصحية والاستعداد للكوارث وإدارتها والحد من مخاطرها، والخدمات الطبية والرعاية الصحية الأولية، وتقديم المساعدات الأساسية خلال الكوارث والأزمات لا سيّما في السنوات الأخيرة، فقد استجاب الصليب الأحمر اللبناني لأزمة النازحين السوريين حيث جرى تقديم الدعم الحيوي للسكان النازحين، مع استمرار حشد الموارد خلال الطوارئ الوطنية، مثل انفجار مرفأ بيروت في العام 2020من خلال التنسيق مع الجهات الفاعلة الإنسانية. ويعمل الصليب الأحمر اللبناني بشكل وثيق مع شركائه من الحركة الدولية للصليب الاحمر والهلال الاحمر، وتُمكّن هذه الشراكات الصليب الأحمر اللبناني من تخصيص الموارد بشكل صحيح وتبادل الخبرات لضمان أن تكون جهود الإغاثة متّسقة وفعّالة. ويتعاون الصليب الأحمر اللبناني مع الهيئات الوطنية والمنظمات الدولية، بما في ذلك الجهات الحكومية ووكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية والجهات المانحة الدولية لتحقيق رسالته. ويتمتع الصليب الأحمر اللبناني بموقع فريد للعمل كشريك أساسي في العمليات الوطنية الإنسانية وتقديم خدماته في جميع أنحاء لبنان لما لديه من شفافية متميزة.
أزمات وتحديات متتالية
يواجه الصليب الأحمر اللبناني اليوم تحديات هائلة في ظل الانهيار الاقتصادي غير المسبوق الذي تعيشه البلاد. فبعد أكثر من 10 سنوات على بداية الأزمة السورية التي أدّت إلى تدفّق مفاجئ للنازحين إلى لبنان، لا يزال البلد عالقاً في أزمة طويلة الأمد حيث يواجه جزءاً كبيراً من السكان أخطاراً متزايدة من الموت والمرض وانهيار سبل العيش في حالة طوارئ دائمة تتسم بدورة متتالية من الأزمات: من أزمة اقتصادية واجتماعية بدأت في أواخر العام 2019 إلى جائحة كوفيد، ثم انفجار مرفأ بيروت في العام 2020 وصولا إلى حرب العام 2024، كلها فرضت على الجمعية الوطنية تحديات لوجستية ومالية غير مسبوقة.
فالتقديرات الأخيرة تشير إلى أن أكثر من 80 في المئة من سكان لبنان يعيشون الآن تحت خط الفقر. ومع استمرار ارتفاع التضخم، تآكلت القدرة الشرائية وفقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90 في المئة من قيمتها منذ العام 2019، كما تآكلت أيضاً الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم، التي كانت تعاني مسبقاً من نقص في التمويل وعدم الكفاية قبل عام 2019. كما يتزايد انعدام الأمن الغذائي، حيث يُصنَّف أكثر من 23 في المئة من السكان كغير آمنين غذائياً. كما أن التحديات البيئية تُضيف طبقة أخرى إلى صعوبات لبنان. فتدهور البنية التحتية للمرافق، وتأثير تغيّر المناخ على ندرة المياه والزراعة، ومشاكل البيئة تسهم جميعها في تدهور ظروف المعيشة وتؤثّر سلباً على الأمن الغذائي.
بالإضافة إلى ذلك، أدّى الانهيار الاقتصادي إلى مغادرة آلاف المهنيين إلى خارج البلاد بحثاً عن فرص أفضل وخصوصاً في القطاعات الحيوية مثل الرعاية الصحية. هذا النزوح لا يستنزف رأس المال البشري في لبنان فحسب، بل يُعيق أيضاً جهود التعافي في وقت يعتمد الصليب الأحمر اللبناني بشكل كبير على المتطوعين الذين تأثروا أيضًا بالأزمة. ومن المتوقع أن تستمر مرحلة التعافي لسنوات طويلة قادمة في أعقاب حرب 2024 وتبعاتها على سبل عيش السكان المتضررين، بالإضافة إلى تأثيرها على البنية التحتية والبيئة في المناطق المتأثرة.
العمل وفق أولويات
ومع ذلك فإن الصليب الأحمر اللبناني جمعية لها تقدير وطني وتتضامن معها جميع شرائح المجتمع وتوليها اهتمامها وتثق بها. وهذا يلقي علينا كجمعية وطنية مسؤولية كبيرة في أن نحافظ على هذه السمعة الطيبة وهذا الحب والتقدير. وتكونت هذه الصورة النقية عبر الزمن من خلال مساهمات الصليب الأحمر اللبناني في كل ميدان وفي كل أزمة. فقد كان متطوعوه في الصفوف الأولى بجهوزية واندفاع وتفاني تخطت الواجب، وهو ما شهده الجميع وعرفوا عن كثب كيف تكون صورة العمل الإنساني. وقد قدّمت الجمعية في مسيرتها الإنسانية 15 شهيداً وعدداً من المصابين. ففي حرب 2024، أصيب 18 مسعفًا، منهم ثلاثة مسعفين أصيبوا مرتين في مهمتين مختلفتين، وهذا يعطي صورة واضحة عن السلوك الأخلاقي والواجب الإنساني التطوعي المتفاني لهؤلاء الأبطال في خضم الحروب ومهما اشتدت الأزمات.
استجابة لهذه التحديات، طور الصليب الأحمر اللبناني استراتيجية متكاملة تركز على أربعة محاور أساسية للمساهمة في مؤازرة الفئات الضعيفة معتمداً على شركائه من مختلف الجهات، وهذه الأولويات هي التالية:
أولاً: الصحة
يولي الصليب الأحمر اللبناني اهتماماً رئيساً بالصحة، حيث يعطي الأولوية للرعاية الطارئة والمنقذة للحياة قبل الوصول إلى المستشفى من خلال دعم خدمات الإسعاف والطوارئ التي يقدمها باعتبارها ركيزة أساسية في استراتيجيته الصحية، وذلك من خلال شبكة وطنية من مراكز الإسعاف وسيارات كاملة التجهيز مدعومة بطاقم من المتطوعين مدربين تدريباً ذو مهارة عالية لتوفير خدمات مجانية. هذه الفرق متاحة على مدار الساعة، حيث تقدم تدخلات طبية سريعة، وتعمل على استقرار المرضى في الحالات الحرجة، وتضمن نقلهم الآمن إلى المرافق الصحية لتلقي العلاج.
كما ويؤدي الصليب الأحمر اللبناني دورًا محوريًا على المستوى الوطني في تأمين مشتقات دم ذات جودة عالية وآمنة وفق الإمكانيات من خلال خدمات نقل الدم. وسيعمل الصليب الأحمر اللبناني على توفير الموارد ليتولى قطاع خدمات نقل الدم مسؤولية إدارة العملية الكاملة للتبرعات بالدم، بما في ذلك استقطاب المتبرعين الطوعيين، وإجراء الفحوصات الدقيقة، وتخزين الدم بشكل آمن، وتوزيعه في الوقت المناسب على المستشفيات والمرضى المحتاجين.
وإذ يساهم الصليب الأحمر اللبناني من خلال قطاع الخدمات الطبية والاجتماعية، في توفير خدمات طبيه واجتماعية ودعم نفسي من خلال شبكة مراكز على كامل خارطة لبنان، فإنه في ظل ما تشهده البلاد من أزمات، تضاعف عدد زوار مراكز الخدمات الطبية والاجتماعية، لذا فقد وضع الصليب الأحمر اللبناني هذا القطاع في سلم أولوياته لتوفير الدعم المناسب لكي يستمر في تقديم خدمات الرعاية الصحية الأولية للفئات الضعيفة. وتشمل هذه الخدمات الاستشارات الصحية العامة، أدوية الأمراض المزمنة، اللقاحات، والتوعية الصحية مدعومة بالخدمات الاجتماعية لضمان الوصول العادل إلى الرعاية. علاوةً على ذلك، يوفر مركز إعادة التأهيل البدني خدمات إعادة التأهيل الأساسية، مثل العلاج الفيزيائي، والأطراف الاصطناعية والأجهزة التقويمية، مما يساعد الأفراد على استعادة وظائفهم الجسدية وتحسين حركتهم واندماجهم المجتمعي. كما ولدى الصليب الأحمر اللبناني مركز ناشط للتلقيح يوفر اللقاحات وفق البرنامج الوطني للتحصين، كما يهتم الصليب الأحمر اللبناني بتعليم التمريض من خلال كلية جامعية ومدارس مهنية تعمل على إعداد الممرضين والممرضات وفق مناهج معترف بها من وزارة التربية الوطنية.
ثانياً: المرونة
من الأولويات التي سيعمل عليها الصليب الأحمر اللبناني هي تعزيز المرونة من خلال برامج تشاركية لضمان حق الوصول إلى المياه الآمنة والنظيفة، والعيش في بيئة نظيفة مستدامة ومرنة، والمساهمة الفعالة في تعزيز التماسك الاجتماعي الشامل وأن يكون مستعدًا للتعامل مع الكوارث والأزمات.
وسيتابع الصليب الأحمر اللبناني خطواته الأساسية من أجل ضمان استمرار حمايته للمجتمعات في جميع أنحاء لبنان من خلال تنفيذ نظام شامل لإدارة الكوارث عبر قطاعاته العملانية الرئيسة: قطاع إدارة الكوارث، قطاع الناشئين والشباب، ووحدة الحد من مخاطر الكوارث. من شأن ذلك الحد من تأثير الكوارث على الفئات الضعيفة وتعزيز استعداد المجتمع لضمان استجابة طارئة في الوقت المناسب، ودعم جهود التعافي الطويلة الأمد، وبناء مجتمعات مرنة وآمنة.
ثالثاً: الاستدامة المالية
سيعمل الصليب الأحمر اللبناني أيضاً على تنويع موارده المالية من خلال المحافظة على شراكاته القائمة وتعزيزها من أجل استمرار خدماته الأساسية كما في جمع التبرعات بتوسيع المبادرات القائمة حالياً والتي تشمل الأفراد والشركات، بالإضافة إلى تنفيذ طرق مبتكرة. علاوة على ذلك، سيعمل الصليب الأحمر اللبناني على تحسين استخدام الموارد وتعزيز الشفافية والمساءلة وسيشجع على مشاركة الخدمات بين المكونات العاملة محلياً لتجنب تكرار الجهود.
رابعاً: ثقافة التطوع
يولي الصليب الأحمر اللبناني اهتماما بالغا بالمتطوعين، فهم عصب عمله ويضع حمايتهم وتوفير بيئة عملانية سليمة لهم في أعلى الأولويات وذلك لتقديم أفضل خدمة بروحية إنسانية عالية وسلوك يعكس الصورة الإنسانية الإيجابية ليس فقط للصليب الأحمر اللبناني، بل أيضًا للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر. لذا سيعمل الصليب الأحمر اللبناني على تطوير وتنفيذ برنامج تقدير ومكافآت معنوية غير نقدية لتقدير مساهمات المتطوعين. كما سيضع المتطوعين في جوهر التنفيذ أثناء تصميم برامجه وتعزيز مبادراته لدعم الرفاهية الجسدية والنفسية لمتطوعيه وتحسين أنظمته من أجل إدارة المتطوعين بطريقة أفضل وزيادة نسبة استبقائهم، بالإضافة الى استقطاب متطوعين لبناء مجموعة من الأفراد المدربين تدريباً جيداً والمكرسين لعملهم، والجاهزين لدعم الأعمال الميدانية بفعالية.
كما سيحافظ الصليب الأحمر اللبناني على الآليات المعتمدة في الاستقطاب لناحية حيادية الأشخاص المستقطبين وتطبيقهم الفعلي للمبادئ الأساسية السامية للمحافظة على المسار الآمن للوصول إلى المحتاجين، على كامل الأراضي اللبنانية، كما سيتخذ كافة الإجراءات لحمايتهم في كل الظروف في أثناء تأدية الواجب الإنساني لا سيما خلال النزاعات والحروب.
في الختام، اليوم العالمي للصليب الأحمر والهلال الأحمر هو محطة تأمل لهذه المسيرة الإنسانية العظيمة التي عمّت الجهات الأربع للكرة الأرضية. إن الصليب الأحمر اللبناني يعتمد على شركائه في الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر لمواجهة الأزمات والتحديات ولمواصلة المسيرة. ووجودهم إلى جانبه في كل الظروف التي مرت على لبنان مكنته من القيام بواجبه الإنساني، لتشكل شبكة حركتنا ومكوناتها أسمى صور التضامن وأرقى جهود الوحدة والتكاتف. بالعودة إلى هذه الحركة، فإن وجودها وحضورها الفاعل رمز أمل ونجاة وتطلع دائم نحو الأمان من قبل كل مستغيث، وكلما كان التضامن أقوى كلما كانت النتائج أفضل.
جميعنا هدفنا الإنسان في كل أرض ومكان، وسيبقى سعينا جميعاً كحركة واحدة، موحدة بصوتها، ومتكاتفة من أجل التخفيف من معاناة المتضررين أينما كانوا وفي كل الظروف. وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي نواجهها، يجب أن نبقى جميعنا مثالاً للتفاني في خدمة الانسانية. فإن التحديات مهما عظمت كانت وما تزال تشكّل دافعاً مستمراً للابتكار والتكيّف مع المحافظة الدائمة على الالتزام الرّاسخ بالمبادئ الإنسانية، وروحية التطوع، لنبقى دائماً في صف الإنسانية.
تعليقات