ذاكرة اللجنة الدولية شاهدة: محطات مضيئة للعمل الإنساني في حرب تحرير الجزائر

العدد 69

ذاكرة اللجنة الدولية شاهدة: محطات مضيئة للعمل الإنساني في حرب تحرير الجزائر

في تموز/ يوليو المقبل، يحتفل الجزائريون والعرب والعالم بمرور ستين عامًا على تحرير البلاد من نير الاستعمار. تجربة استقلال الجزائر، تجربة ملهمة، وهي حية ليس في ذاكرة الجزائريين فقط، وإنما في ذاكرة العمل الإنساني أيضًا.

نحن على أبواب الاحتفال بالذكرى الستين لاستقلال الجزائر، وهو حدث يلقي الضوء على محطات مهمة من التجربة الإنسانية التي يحتفظ بها تاريخ الثورة الجزائرية. وكما يقول فرانسوا بنيون (François Bugnion)، الخبير في القانون الدولي الإنساني والمؤرخ في اللجنة الدولية للصليب الأحمر: «إبراز التاريخ والعودة إليه لا يتعلق بالتعامل مع الماضي، بل هو خدمة للحاضر والاستعداد للمستقبل».

ويجهل كثيرون تجربة العمل الإنساني الملهمة التي جرت خلال السبع سنوات من حرب التحرير الوطنية في الجزائر. ولكي نتحدث عن هذه الذاكرة الإنسانية يجدر بنا العودة إلى أرشيف اللجنة الدولية الذي يحوي أكثر من ثلاثين ألف وثيقة وصورة سبق أن نشرتها اللجنة الدولية وأصبحت متاحة بعد انقضاء خمسين عامًا على صدورها. وتشمل تقارير عن زيارات لأماكن الاحتجاز في الجزائر، ومراسلات رسمية مع أطراف النزاع، ووثائق خاصة بإنشاء الهلال الأحمر الجزائري ومساعدة اللاجئين الجزائريين في تونس والمغرب أو النازحين داخليًّا. كما نجد وثائق لزيارة اللجنة للأسرى الفرنسيين التي إحتجزتهم جبهة التحرير الوطني.

تحوي هذه الوثائق والصور قصصًا ووقائع من داخل السجون وخارجها، ونداءات من عائلات للعثور على ذويهم أو مطالب لتحسين ظروف المحتجزين. من الملفات التي أثارت اهتمامي: ملفات لمتابعات شخصية للمحتجزين، منهم شخصيات معروفة كالسيدة جميلة بوحيرد. أين عائلتها ومحاميها كانوا على اتصال متواصل مع اللجنة الدولية من أجل تحسين ظروف احتجازها. وهناك تقرير عن زيارة مندوبي اللجنة لقادة جبهة التحرير الوطني في سجن “la santé” بفرنسا منهم الرؤساء السابقون للجزائر أحمد بن بلا ومحمد بوضياف، علاوة على حسين آيت أحمد (1926 – 2015)، أحد قادة الثورة الجزائرية.

كما نجد أيضًا ملف المساعدات الإنسانية التي قُدمت من بلاد شتى في الشرق والغرب، من الأمريكتين وآسيا وأوروبا، إثر «نداء عاجل إلى العالم» لمد يد العون للاجئين الجزائريين في تونس والمغرب خلال المؤتمر الدولي التاسع عشر للصليب والهلال الأحمر الذي عقد في نيودلهي من 28 تشرين الأول/أكتوبر حتى السابع من تشرين الثاني/نوفمبر1957.

وهناك وثائق تفصل المساعدات المقدمة في إطار حالات الطوارئ على السكان النازحين داخليًّا الذين بلغ عددهم أكثر من مليوني نازح، أغلبهم من النساء والأطفال، ينتشرون بين حوالي ألفي مركز للنازحين في عام 1962. هذا العدد يمثل ربع سكان الجزائر آنذاك.

هناك اسم استوقفني في هذا الكم الهائل من الرسائل والتقارير التي أرسلتها إلى اللجنة الدولية آنذاك هو الدكتور بن تامي، ممثل الهلال الأحمر الجزائري بجنيف. فعلى الرغم من عدم اعتراف اللجنة الدولية بنشأة الهلال الأحمر الجزائري لأنها لا تستوفي الشرط الذي يقضي بأن تمارس الجمعية الوطنية المعنية نشاطها على أرض دولة مستقلة تسري عليها أحكام اتفاقيات جنيف، فإن اللجنة الدولية أقامت علاقة عمل في ما يخص تنفيذ المهام الإنسانية.

كانت الزيارات لأماكن الاحتجاز وإجراء مقابلات على انفراد مع المحتجزين حجر الزاوية في جهود عمل اللجنة. فقد اضطلع المندوبون من العام 1955 إلى غاية الاستقلال في العام 1962 بعشر مهمات، تفقدوا خلالها 490 مركز احتجاز بالجزائر و96 بفرنسا. وترتب على كل زيارة مراسلات مع السلطات الفرنسية بغرض وضع قائمة بأسماء الأماكن التي ينوون زيارتها والإجراءات ذات الصلة بتنقلاتهم. وفور وصولهم إلى مركز الاحتجاز – سواء كان معسكرًا للاحتجاز أو سجنًا – يلتقي المندوبون مع القائد وبعدئذ يزورون المرافق: الزنازين والمطابخ والمرافق الصحية وزنازين الحبس الانفرادي، إلخ. ويجرون مقابلات على انفراد مع من يختارونهم من المحتجزين.

كانت المقابلات تمثل النقطة المحورية للزيارة، لأن هذه المرحلة هي التي كانت تمكنهم من جمع المعلومات حول معاملة المحتجزين، والتأكد من الحالة الصحية وذلك بمشاركة أطباء اللجنة الدولية. في نهاية الزيارة، يضع المندوبون تقارير مفصلة بما خرجوا من ملاحظات وتوصيات إلى السلطات لاتخاذ إجراءات لتحسين مصير المحتجزين. علاوة على ذلك، يرسل المندوبون بعد الزيارة إمدادات إغاثة إلى المحتجزين وفق احتياجاتهم التي جرى تحديدها. من بين المراكز التي زارها المندوبون: مركز الإيواء برواقية، مركز الإيواء بالجرف، مركز الفرز والعبور ببئر العاتر، قصر الطير، مزرعة الإنجلي.

توثيق الذاكرة سينمائيًّا

أمام هذا الكم الهائل من الوثائق الثمينة، والعمل التاريخي حول هذا الملف، توجب علينا نفض الغبار عن هذه الوثائق التي تحتوي على أجزاء مهمة من ذاكرة الأشخاص والأمة، منهم شخصيات معروفة، وآخرون أصبحوا شاهدين على هذه المحطة التاريخية الخاصة بالعمل الإنساني إبان حرب التحرير.

يقول بنيون «على اللجنة الدولية الاهتمام بتاريخها. نعمل في جميع أنحاء العالم في وسط سكان يعانون من صدمات ماضيهم، صدمات تنتج عن الحرب. الحرب لديها جذورها في الماضي وتشكل المستقبل للأفضل، وفي غالب الأحيان للأسوأ».

لهذا عملت اللجنة الدولية مع المخرج الجزائري السعيد عولمي لإنتاج فيلم عن الجهود الإنسانية التي رافقت حرب التحرير الجزائرية. يشتهر هذا المخرج بعدة أفلام وثائقية عن هذه الحقبة التاريخية، إذ اعتمد في عدد من أعماله السابقة على سجلات اللجنة الدولية، بعد إتاحتها للجمهور، لإخراج أفلام تحكي تاريخ الجزائر مثل سلسلة «في المعتقلات إبان الثورة».

في فيلمه الجديد «الإنسانية في قلب حرب التحرير الجزائرية»، يعطي عولمي الكلمة للشهود على هذه الحقبة التاريخية. وفق فى تأريخ هذه الفترة من خلال التوظيف الأمثل لسجلات المعتقلين الموثقين في أرشيف اللجنة الدولية. وقد ترجم ذلك إلى سلسلة من المقابلات الصحفية المفعمة بصدق مشاعر الجزائريين الذين ساهموا بقسط كبير في خلق وتيرة سلسلة وحبكة ممنهجة.

في الشريط الوثائقي الذي جرى من خلاله استقراء الكثير من وثائق أرشيف اللجنة الدولية في أسلوب فني مشوق يبعث اللقطة المصورة بمؤثرات صوتية وتناسق جمالي يسمح بتتبع مجريات الفيلم إلى نهايته. يشرح لنا هذا الفيلم آثار حرب التحرير في تطوير القانون الدولي الإنساني لاحقًا. ذلك القانون الذي يتألف من مجموعة من القواعد تهدف إلى الحد من الآثار السلبية للنزاعات المسلحة.

استغرق إنتاج الفيلم أكثر من ثلاث سنوات تمكنَّا من خلاله من إجراء حوار مع بعض الشخصيات التي كانت شاهدة على هذه الفترة. كانت رحلة البحث عن الشهود كسباق مع الزمن. ومن بين هؤلاء يبرز اسم «بيير غيار» مندوب اللجنة الدولية بالجزائر في أثناء حرب التحرير الذي وافته المنية بعد تصوير الفيلم بقليل.

ويشيد الفيلم أيضًا بعمل الدبلوماسيين والسياسيين الذين تفاوضوا لإيجاد حل دبلوماسي للنزاع، ومن بينهم رضا مالك المتحدث باسم الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية إبان إبرام «اتفاقات إيفيان»، الذي وافته المنية أيضًا بعد الانتهاء من إخراج الفيلم في العام 2017. معظم الشهود الذين ظهروا في الفيلم وافتهم المنية كالدكتور حميدو وليلى مكي وقروج ولمين بشيشي.

وبعد مجهود كبير، خرج الفيلم للعلن، وجرى بثه في التلفزة العمومية الجزائرية وفي قاعات سينما ابن خلدون بالعاصمة وفي بجاية وقاعات أخرى في مؤسسات حكومية وجامعية.

واليوم وبعد مرور 59 عامًا على نهاية الحرب، تواصل اللجنة الدولية زيارة أماكن الاحتجاز في الجزائر، وتتولى بالتعاون مع السلطات الجزائرية أنشطة لتعزيز القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وتواصل أيضًا تعاونها التاريخي مع شريكها الهلال الأحمر الجزائري.

يمكنكم الاطلاع على العديد من الوثائق العامة مثل الصور والأفلام على البوابة الإلكترونية لأرشيف صورة اللجنة الدولية في هذا الرابط: https://avarchives.icrc.org/
جدير بالذكر أن هناك نسخة أرشيف اللجنة الدولية موجود في المديرية العامة للأرشيف الوطني الجزائري، وهو متاح للجمهور.

نٌشر هذا الموضوع في العدد 69 من مجلة «الإنساني» الصادر في خريف/ شتاء 2021. للاطلاع على محتويات العدد، انقر هنا. للاطلاع على العدد كاملًا، انقر هنا.

يمكنكم الحصول على عدد مطبوع من المجلة التي توزع مجانًا من خلال بعثاتنا في المنطقة. انقر هنا لمعرفة عناوين البعثات.

اقرأ أيضا:
مرايمي محمد، الإسلام كمرجعية لحماية أسرى الحرب: إسهام الأمير عبد القادر الجزائري في تطوير القانون الدولي الإنساني

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا