الإسلام كمرجعية لحماية أسرى الحرب…إسهام الأمير عبد القادر الجزائري في تطوير القانون الدولي الإنساني

قانون الحرب

الإسلام كمرجعية لحماية أسرى الحرب…إسهام الأمير عبد القادر الجزائري في تطوير القانون الدولي الإنساني

دأب عديد الكتاب والباحثين، غربيين ومشارقة حتى، على نسب نشأة تدوين القانون الدولي الإنساني الحديث إلى قانون ليبر الذي وُضع خلال الحرب الأهلية الأميركية في سنة 1863، واتفاقية جنيف الأولى لعام 1864، وهو الأمر الذي يجانب شكلًا ومضمونًا الأسس الموضوعية ويجافي الحقيقة التاريخية.

الادعاء بأنَّ الضمير الإنساني لم يهتز ليهتم بحال الإنسان أثناء القتال والحرب إلَّا خلال هذه الحقبة التاريخية «1863-1864» يعدُّ دون أدنى شك ضربًا من ضروب التقصير التاريخي، وإجحافًا بحق إسهامات الجماعة البشرية جمعاء، وانتقاصًا من الإرث الثقافي الإنساني الغني بالعديد من الشواهد والممارسات التي تدل على تأسيس الكثير من الأمم السابقة والحضارات الغابرة لقواعد حكمت سير العمليات العدائية ومعاملة غير المقاتلين.

وبعيدًا عن أية شوفينية وطنية أو عصبية دينية سالبة للموضوعية الواجبة ومنافية للأمانة العلمية التي لا مناص منها، فإنَّ كثيرًا من الشواهد تتيح الاعتقاد بأنَّ الأمير عبد القادر الجزائري (1808-1883) كان أول من أرسى قواعد القانون الدولي الإنساني الحديث، وأول من بادر بتدوينه، لا سيما في مجال حماية أسرى الحرب.

وفي هذا الصدد، يمكن القول إنَّ المرسوم الذي أصدره في العام 1843 بخصوص القواعد الناظمة لتعاطي جنود وعساكر دولته مع الاحتلال الاستعماري الاستيطاني الفرنسي للجزائر، يشكل بحق أول عتبة للقانون الدولي الإنساني الحديث لما تضمنه من قواعد ومبادئ، فضلًا عن مثل ومقاصد شكلت في ما بعد الأسس التي بنيت عليها الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، لا سيما في مجال أنسنة الحرب وضرورة معاملة الجنود غير القادرين على القتال، أسرى كانوا أم مصابين، معاملة إنسانية دون أي تمييز.

بل إنَّ الرئيس السابق للجنة الدولية للصليب الأحمر، السيِّد جاكوب كيلينبرغر (Jakob Kellenberger)، أكد في شهادة له هذا المعنى حين صرَّح بأنَّ «الأمير عبد القادر أعطى مبكرًا ودون علم مسبق، وصفًا وفيًّا لما يشكل الآن العمل اليومي لمندوبي اللجنة الدولية للقانون الدولي الإنساني: ألا وهي مؤازرة السُّجناء وضمان احترام حقوقهم وكذا طمأنة عائلاتهم».

اختلاف المعتقد ووحدة في الرسالة

على الرُّغم من أنَّهما لم يلتقيا أبدًا في حياتهما، إلاَّ أنَّ الأمير عبد القادر، الجزائري العربي ، وهنري دونان(1828-1910)، السويسري الأوروبي ، جمع بينهما تطلُّعهما الفريد لأنسنة الحروب وتغليب روح الأخوة الإنسانية على فكرة الإبادة زمن الحرب عند التعاطي مع من فقد القدرة على مواصلة القتال بسبب الإصابة أو الأسر. ومن مشيئة الأقدار أن تكون الجزائر، بلد الحرِّية والأحرار، وليس غيرها، المحطة الفاصلة في حياة هذين الرجلين العظيمين اللذين كرَّسا حياتهما في سبيل رسالة سامية تمثل همزة وصل بين الحضارتين الغربية والشرقية وجسرًا للتكامل بين الدينين الإسلامي والمسيحي لإعلاء قيم الإنسانية والحفاظ على كرامة الإنسان في أحلك ظروف التقاتل والاحتراب.

فكما أهدت الجزائر للعالم شخصية عظيمة كالأمير عبد القادر، تجلَّت عظمتها في سمُو ورعه ونبل أخلاقه وجميل فروسيته وكمال إنسانيته وعبقرية قيادته بشكل أثار إعجاب الصديق قبل العدو وثناء البعيد قبل القريب، فإنَّ الجزائر كانت أيضًا مقرًّا ومستقرًّا لذلك الشاب السويسري هنري دونان الذي سيصبح لاحقًا مؤسِّسًا للَّجنة الدولية الصليب الأحمر وأوَّل الداعين لوضع القانون الدولي الإنساني الحديث.

ولقد كانت الأعمال والأنشطة التي يقوم بها هنري دونان في الجزائر السبب المباشر في سفره للقاء الإمبراطور نابليون الثالث في سنة 1859 في سولفرينو ووقوفه بالصدفة شاهدًا على المعاناة الإنسانية الرهيبة لآلاف المرضى والجرحى في المعركة الدامية التي شهدتها المنطقة بين القوات الفرنسية والسردينية من ناحية والقوات النمساوية من ناحية أخرى، إلى درجة أن البعض لم يتورع عن القول بأنه لولا الجزائر لما شهد دونان معركة سولفرينو ولما قُدِّر للجنة الدولية للصليب الأحمر والحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر أن تريا النور غالبًا.

بل إنَّ القواعد التي ناضل من أجلها الشاب السويسري كانت بحكم الربط التاريخي مكرسة في جوهرها في روح ومضمون مرسوم الأمير عبد القادر لسنة 1843، نذكر منها على سبيل المثال والاستدلال لا الحصر تكريس مسؤولية السلطة الآسرة للسجناء والتي جُسدت لاحقًا في المادة 12 من اتفاقية جنيف الثالثة لسنة 1949.**

أنسنة الحرب

إن سمُو السلوكيات الأخلاقية والمنظومة القيمية التي أسَّس لها الأمير عبد القادر لم تتجلَّ في الأساليب النبيلة في التعامل مع أسرى الحروب التي خاضها فحسب، وإنَّما أيضًا في عقيدة جيشه القتالية وطرق تواصله مع خصومه وأعدائه، الذين بقدر ما قارعهم ببسالة القتال وشهامة الفرسان، فإنَّه قارعهم بحجة الأخلاق الرفيعة وقوَّة الخطاب الإنساني الذي لا يعتدي على إنسانية العدو ولا يجرح عقيدته ولا يمس بمقدساته.

لقد سعى الأمير عبد القادر المتشبِّع بأحكام الدين الإسلامي الحنيف والمقتفي للهدي النبوي الشريف، ونجح بالفعل، في التأسيس لفكرة أنسنة الحرب وأخلقة القتال. وتتجلى معالم ذلك في ما يلي:

• بنى الأمير عبد القادر عقيدة جيشه وفقًا للمرجعية الدينية الإسلامية التي ترى في الجهاد في سبيل الله مجهودًا ذاتيًّا يرتقي بالذات المجاهدة إلى مصاف محاسبة النفس كي لا تزوغ ولا تطغى***، وقيمة سامية يستوجب الحفاظ عليها من خلال التوفيق بين الأهداف المشروعة للدفاع عن الأرض والعرض والعقيدة من ناحية، وضرورة احترام ما يجب احترامه في الطبيعة الإنسانية للأعداء سواء زمن الانتصار أو الهزيمة، من ناحية أخرى.

• على الرُّغم من الهزائم والمآسي والنكبات التي عاشها الأمير عبد القادر وجيشه وشعبه، إلَّا أنه لم يرتكب لا هو ولا قادته ما يسيء إلى أخلاق الحرب أو يُشوِّه رمزية قضية الشعب الجزائري العادلة ضد قوَّة مستعمرة غاشمة أرادت فرض هيمنتها عليه بقوة الحديد والنار.

• يسجِّل التاريخ أنَّ الأمير عبد القادر ترفَّع منذ وصوله إلى السلطة عن تقاليد وحشية وممارسات بربرية بائدة سادت في حروب الماضي كتحاشي أسر الجنود وقطع رؤوسهم وآذانهم بدل ذلك واعتبارها غنائم حرب. ولقد أصدر بهذا الخصوص مرسومًا أحادي الجانب يلزم قادة وجنود جيشه بالالتزام باحترام الكرامة الإنسانية للمقاتلين الأعداء بغض النظر عن مدى التزام العدو بذات المبادئ والأخلاق أو لا.

الأمير عبد القادر الجزائري ينقذ كثير من المسيحيين في حرب دمشق الشهيرة بين المسيحيين والدروز في العام 1860. لوحة للرسام الفرنسي جان بابتيست هوسمانز. الصورة مشاع إبداعي.

ريادة في معاملة الأسرى

تبقى مواقف الأمير عبد القادر الإنسانية مع الأسرى علامة فارقة لما كان لها من أثر بالغ في ترسيخ أخلاق الحرب وحقوق الإنسان في التاريخ الحديث. ففي سعيه الدؤوب إلى أنسنة الحرب وتخفيف آلام الأسرى لم يكتفِ الأمير عبد القادر بسنِّ قواعد قانونية ذات صلة فحسب (مرسوم سنة 1843)، لكنه أسَّس لممارسات وأعراف ثابتة في إطار سياسة متكاملة للقانون الإنساني، نجدها اليوم مكرَّسة في اتفاقيات جنيف لعام 1949، لا سيما الاتفاقية الثالثة.

وفضلًا عن احترامه الشديد للقناعات الدينية للأسرى على اختلافه معها، إذ لم يكن يقبل أبدًا أن يُرغَم أسير على تغيير دينه تحت وطأة الخوف والتهديد، فإنَّ الأمير عبد القادر كان سبَّاقًا لسنِّ مبدأ زيارة القسِّ (رجل الدين) للأسرى والمساجين، ليس بغرض تمكينهم من ممارسة صلواتهم وطقوسهم الدينية فحسب، بل وكذلك لتمكينهم من التواصل، من خلال رجل الدين، مع ذويهم وعائلاتهم والحصول على كل ما قد يخفف من وطأة أسرهم من مال وملابس وكتب وغيرها.

لقد سبقت بذلك الرِّسالة الشهيرة التي بعث بها الأمير عبد القادر إلى الأسقف ديبيش سنة 1841 اتفاقيات جنيف بقرن كامل من الزمن في التأكيد على حقوق الأسرى في الزيارة وحرية ممارسة الشعائر الدينية والتواصل مع الأهل وغيرها (حقوق مكـرَّسة في المواد 34، 38، 71 من اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949). كما لا يمكن بأيِّ حال من الأحوال عند التطرُّق إلى فكر الأمير في معاملة الأسرى، إغفال رفضه الشديد لفكرة «مبادلة الأسرى باعتبارهم سلعة في سوق الحرب».

لقد كان الأمير عبد القادر يحرِّر الأسرى احترامًا لإنسانيتهم وصونًا لحقوقهم كبشر، لا باعتبارهم سلعة قابلة لأبشع صور الاستغلال والمساومة، وهو ما تجلى في موقفين للأمير أثارا إعجاب أعدائه قبل أصدقائه، وسجلهما بذلك التاريخ بأحرف من ذهب:

أوَّلهما في العام 1841، عندما أمر الأمير عبد القادر بكل شهامة ومروءة بالاستمرار في إطلاق سراح الأسرى الفرنسيين الذين كانوا بحوزته تنفيذًا لاتفاق مبادلة أسرى مع جيش الاحتلال الفرنسي، على الرُّغم من أنَّ هذا الأخير أخلَّ بتعهداته وتملَّص من الاتفاق برفضه إطلاق سراح الأسرى الجزائريين. وثانيهما عام 1842، حين أمر الأمير عبد القادر بإطلاق سراح الأسرى الفرنسيين بدل قتلهم، بعدما لم يجد من الطعام ما يطعمهم به. وهو الأمر الذي أثار إعجاب السفاح الماريشال سانت أرنو الذي اعترف بأنَّ الأمير عبد القادر أعاد له كل الأسرى الذين كانوا بحوزته من دون شرط وبدون تبادل، على الرُّغم من أنه كان قادرًا على التخلُّص منهم.

ختامًا، ونحن نحتفل بالذكرى السبعين للتوقيع على اتفاقيات جنيف لسنة 1949، فإننا نستحضر في الجزائر وفي الدول العربية والإسلامية بل وفي العالم أجمع، بعز وفخر كبيرين ذكرى الأمير عبد القادر، تلك الشخصية العظيمة التي شرَّفت بأخلاقها الرفيعة وقيمها الإنسانية النبيلة وطنها وأمَّتها وعقيدتها. إننا نستحضر فيه ذلك الرَّجل المتواضع والناكر لذاته الذي امتنع، وهو يسعى لإنقاذ بلده وشعبه من براثن الاستعمار المقيت، عن كلِّ عنف غير مُجدٍ ووحشية لا مبرِّر لها، مدافعًا بذلك عن ضرورة أنسنة الحرب وأخلقة القتال وتغليب روح الأخوَّة الإنسانية في أشدِّ ظروف القتال قساوة وحلكة.

إننا نستحضر فيه أيضًا ذلك الرجل الخيِّر الذي نشر الخير أينما حلَّ وارتحل، ولم يتردَّد بالمجازفة بحياته وحياة عائلته وذويه في الدفاع عن الآلاف من مسيحيي المشرق بدمشق، عندما كانوا يتعرَّضون لخطر الإبادة الجماعية وثار ضدَّ جلاديهم قائلًا مقولته الشهيرة: «لن تنالوا مسيحيًّا واحدًا ما بقي جندي من جنودي حيًّا، إنَّ المسيحيين ضيوفي يا قتلة النساء والأطفال، هيَّا حاولوا أخذهم وسترون كيف يحسن جنود عبد القادر القتال، أقسم بالله بأننا سنجاهد من أجل قضية مقدَّسة قداسة القضية التي جاهدنا في سبيلها من قبل».

هوامش

**كلمة معالي السيد وزير العدل وحافظ الأختام سابقًا محمد شرفي خلال الملتقى الدولي الموسوم : «الأمير عبد القادر والقانون الدولي الإنساني»، الجزائر، أيار/مايو 2013.

*** مداخلة العقيد سليمان مولاي الموسومة: «الأمير عبد القادر بين نزعة الانتصار ومقتضيات خلقنة الحرب وانعكاس ذلك على الجيش الوطني الشعبي»، الملتقى الدولي: «الأمير عبد القادر والقانون الدولي الإنساني»، الجزائر، أيار/مايو 2013.

**** Compte de Vicry, p 215-216.

***** بوطالب عبد القادر، الأمير عبد القادر وبناء الأمة الجزائرية، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، 2009، ص 152.

******ساحلي محمد الشريف، الأمير عبد القادر فارس الإيمان، المؤسسة الوطنية للاتصال والنشر والإشهار، 2008.

نُشر هذا الموضوع في العدد 66 من مجلة «الإنساني»، الصادر في خريف/ شتاء 2019. لتحميل العدد 66 من المجلة، انقر هنا. للاطلاع على محتويات العدد، انقر هنا.

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

اكتب تعليقا