الذاكرة والحرب: هل الزمن كفيل بمداواة الجراح حقًّا؟

قانون الحرب

الذاكرة والحرب: هل الزمن كفيل بمداواة الجراح حقًّا؟

احتفالًا بالذكرى المئوية ليوم الذكرى Remembrance Day الأول، المكرَّس لإحياء ذكرى أفراد القوات المسلحة الذين لقوا حتفهم أثناء تأديتهم واجبهم، أطلقت المجلة الدولية للصليب الأحمر للتو إصدارًا جديدًا بعنوان «الذاكرة والحرب». وبدءًا من الأثر بعيد المدى للعمليات العدائية التي تستهدف المدنيين وأفراد القوات المسلحة، وصولًا إلى الأشخاص المفقودين وآفاق العدالة الانتقالية والمصالحة، يبحث هذا العدد في الطرق التي تؤثر بها الذاكرة الفردية والجماعية للنزاع المسلح على حياة الناس الذين اضطروا للعيش في ظل النزاع.

وبالنسبة للأشخاص الذين اطلعوا على سوءة البشرية في ظل النزاعات المسلحة، فإن القول المأثور القديم «الزمن كفيل بمداواة كل الجراح» قد لا يبدو دائمًا صحيحًا. وموضوع الذاكرة والحرب طرقته المجلة الدولية من قبل، إما بصورة غير مباشرة وإما جزئيًّا: فالعددان بعنوان «المحاكم الجنائية الدولية» و«لجان تقصي الحقائق والمصالحة» تناولا بعمق أسئلة حول المساءلة، والعفو، وآفاق العدالة الانتقالية، بينما استكشف عدد أحدث حول «المفقودين» تجارب مؤلمة وطرق المضي قُدمًا لعائلات المفقودين في أثناء تذكرهم لأحبائهم.

بناءً على هذا التحليل السابق، خُصص العدد الأخير من المجلة بالكامل لدراسة الجراح النفسية للحرب. وكما كتب فينسنت برنارد (Vincent Bernard) في مقالته الافتتاحية، «بالنسبة لأولئك الذين خَبَروا الحرب والعنف في أجسادهم أو في قلوبهم، فإن النسيان أمر مستحيل». وفي المقابلة مع بوريس كيرولنيك (Boris Cyrulnik)، وهو متخصص في الطب النفسي العصبي، وهو نفسه أحد الناجين من الحرب العالمية الثانية، يصف ظاهرة الذاكرة المرتبطة بالألم (traumatic memory) والقدرة على التعافي كآلية للتعامل مع الماضي. وتصور إيلين دوما (Hélène Dumas) ذكريات مرعبة وصادمة للغاية عاشها الناجون من الإبادة الجماعية في رواندا، بناءً على شهادات أطفال التوتسي الناجين. توضح الكاتبة كيف أن ذكريات صدمة الاضطهاد والعنف دفعت الأطفال إلى عالم من الاضطرابات وَسَمَتْ حياتهم بانعدام ثقة كبير تجاه البالغين. 

كما قال خوسيه ناروسكي (José Narosky) ذات مرة: «في الحرب، لا يوجد جنود دون جروح». نادرًا ما يعود الرجال والنساء الذين يقاتلون على الخطوط الأمامية – إن عادوا – من أتون الصراع دون أن يمسسهم ضرر من الواقع القاتم الذي أدوا فيه دورهم. في هذا العدد من المجلة، ناقش ماريين دبليو. كروس (Marijn C. W. Kroes) ورين ليفويجا (Rain Liivoja) التطورات العصبية العلمية في تقنيات تعديل الذاكرة لعلاج اضطراب ما بعد الصدمة لدى أفراد القوات المسلحة، وكذلك الآثار الأخلاقية والقانونية والاجتماعية لهذه التقنيات.

ما الذي يُستدعى إلى الذاكرة؟ 

عندما ينتهي النزاع المسلح، تصبح حاجة المجتمعات إلى تفكيك الخيوط المتشابكة وإدراك معنى الفوضى التي خاضت فيها واضحة للغاية. تتطلب عمليات تخليد الذكرى الاعتراف بالفروق الثقافية والحفاظ عليها. يمكن أن تؤدي الدول دورًا محوريًّا في تخصيص أماكن لإحياء الذكرى مليئة بالخصائص الثقافية ورواية مشتركة عن الماضي.

من خلال هذا التركيز على إحياء الذكرى في مرحلة ما بعد انتهاء النزاع، تستكشف دانييل دروزديسكي (Danielle Drozdzewski) وإيما واترتون (Emma Waterton) وشانتي سومارتوجو (Shanti Sumartojo) العلاقة المركبة بين الذاكرة الثقافية والشواغل السياسية من خلال المواقع الرسمية لإحياء الذكرى. ويكتب آرون وياه (Aaron Weah) عن إستراتيجية «لجنة تقصي الحقائق والمصالحة في ليبيريا» لتعزيز إحياء ذكرى الماضي، ويحلل أمثلة لأنماط ذكرى مثيرة للجدل وبنَّاءة. ويناقش جيرمان بارا غاليغو (Germán Parra Gallego) الروابط بين بناء الذاكرة التاريخية وحرية التعبير، وتُدرس السوابق القضائية لنظام البلدان الأمريكية الخاص بحماية حقوق الإنسان. وتستكشف هيلين والاسك (Helen Walasek) في مقالها معنى إعادة بناء التراث الثقافي الذي دُمِّر في أثناء النزاع المسلح بالنسبة للمجتمعات، ولا سيما بالنسبة للنازحين بسبب العنف.

تتأثر آليات العدالة الانتقالية بذكرى الصراعات تأثرًا جوهريًّا. من خلال التحقيق الذي أجرته «الدوائر الاستثنائية في محاكم كمبوديا» (ECCC) بعد ثلاثين عامًا من نظام الخمير الحمر، يناقش فونج إن. فام (Phuong N. Pham)، وباتريك فينك (Patrick Vinck)، ونيامه غيبونز (Niamh Gibbons)، وميشيل بالتازارد (Mychelle Balthazard) العلاقة بين الذاكرة والصدمة والتسامح. وتوضح جيل ستوكويل (Jill Stockwell) في مقالها الديناميات المتشابكة للسرديات المتعارضة بين المجموعات المختلفة لإحياء الذكرى داخل المجتمع، وتستكشف في مقالها كيف يمكن أن تعرقل الذكريات العاطفية المصالحة، إذا ما أهملتها عملياتُ العدالة الانتقالية.

كيف يُستدعى المقاتلون إلى الذاكرة في أعقاب النزاع المسلح؟ يستكشف جلبرت هوليفر Gilbert Holleufer نظام «ما بعد البطولي» الخاص بالنزاعات المسلحة اليوم ويحاجج بأن الذين تم نشرهم على الخطوط الأمامية اليوم يعانون من عدم الاعتراف الاجتماعي بهم، مثل ما كان يُحتفى بمفهوم البطولة المرتبط برؤية معينة للذكورة (masculinity). 

بينما قد يبدو إحياء الذكرى إلزاميًّا في أعقاب نزاع مسلح، يجادل ديفيد ريف (David Rieff) بأنه في بعض الأحيان قد يتعين على المرء أن يختار بوعي النسيان، عن طريق السماح بدقائق صمت في الأماكن العامة. 

كيف يتم إحياء الذكرى؟

أنشئت متاحف ونُصب تذكارية عديدة «حتى لا ننسى» آثار النزاعات المسلحة. وقد لوحظ أن متاحف الحرب عادة ما «تعرض الأدوات، وليس الدمار الذي أحدثته تلك الأدوات». ليست هذها هيو الحال مع النصب التذكارية للإبادة الجماعية، إذ يصل الأمر أحيانًا إلى حفظ جثث الضحايا وعرضها، كما هيو الحال في النصب التذكارية «كنازي» Kinazi وكيبيهو Kibeho ومورامبي Murambi في رواندا. ويتعزز أثر تجربة زيارة هذه الأماكن بفرصة الالتقاء بالموظفين، الذين غالبًا ما يكونون من بين الناجين من الإبادة.

في مقالاتهم حول هذا الموضوع، تطرح أنيت بيكر (Annette Becker) النقاش بشأن «توارُث» مواقع المعاناة ونمو ثقافة السياحة المظلمة، من خلال التركيز على النصب التذكارية للإبادة الجماعية في رواندا. وتتتبع آنايغ لوفيفر (Annaïg Lefeuvre) تاريخ باريس ودرانسي في مقال عن النصب التذكارية للمحرقة النازية، مع إيلاء اهتمام خاص للمناقشات حول إعادة تأهيل معسكر «لامويت» La Muette وهو معسكر اعتقال سابق، ليكون مبنى سكنيًّا اجتماعيًّا وموقع تراث وطني.

الذاكرة كأداة تشغيلية: تجربة اللجنة الدولية للصليب الأحمر

يُعد البقاء على وعي بتاريخ الديناميات السياسية أداة مهمة للمنظمات الإنسانية. وبالإشارة إلى تركيا وإيران والصين، يجادل مندوب اللجنة الدولية السابق السيد «بيير ريتر» Pierre Ryter بأنه من الأهمية بمكان أن تظل اللجنة الدولية على دراية بالتاريخ من أجل وضع سياق عملياتها في اعتبارها، حتى يتم قبولها في عالم متعدد الأقطاب بصورة متزايدة.

وأخيرًا، يفحص «سيدريك كوتر» Cedric Cotter، وهو باحث في قسم القانون والسياسة في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ذاكرة النزاعات المسلحة من خلال كتابات الرؤساء السابقين للجنة الدولية، ويحلل بدقة كيف نقل هؤلاء الرؤساء رسائل اللجنة الدولية للجمهور والطرق التي أثرت بها رسائلهم في تطور اللجنة الدولية.

رغم التغاضي عن الظاهرة المركَّبة للذاكرة في كثير من الأحيان، فإن فهمها وإيلاء الاهتمام الواجب لها أمر حاسم بالنسبة للعاملين في الإغاثة الإنسانية الذين يتعاملون مع المجتمعات التي عانت من العنف. وعلى أمل مساعدتنا في استيعاب الدروس التي قدمها التاريخ بشأن هذا الموضوع، جمع عدد المجلة بعنوان «الذاكرة والحرب» وجهات نظر للعاملين في المجال الإنساني وممارسي العدالة الانتقالية والمحامين الدوليين والمؤرخين وغيرهم، للنظر في مسألة إحياء ذكرى الكلفة الإنسانية للحرب.

اقرأ أيضا: 

إلين بوليسينيسكي، المجلة الدولية للصليب الأحمر في عامها 150 .. ثوابت ومتغيرات

إلين بوليسينيسكي، «النزاع في سورية»…محورًا للعدد الجديد من المجلة الدولية للصليب الأحمر

المفقودون موضوعًا للعدد الجديد من المجلة الدولية للصليب الأحمر

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

اكتب تعليقا