أما آن لكل هذا أن ينتهي؟قصة متخيلة تفتح نافذة على معاناة المدنيين في أعقاب النزاعات

قانون الحرب

أما آن لكل هذا أن ينتهي؟قصة متخيلة تفتح نافذة على معاناة المدنيين في أعقاب النزاعات

ICRC

«بالنسبة إليَّ وإلى الكثيرين، لن تنتهي الحرب إلا بعد بذل جهود حثيثة لإعادة المدينة وحياتنا فيها إلى المسار الطبيعي». النزاع المسلح لا يعني القانون الدولي الإنساني وكيفية تطبيقه فحسب، فهو يشمل أيضًا الاهتمام بالمدنيين المتضررين ومعاناتهم خلال النزاع وبعده.

يقولون إن القتال انتهى، ووضعت الحرب أوزارها. وهناك رابحون وخاسرون. يقولون إن من بقوا منا هنا «أحرار». ماذا يعني ذلك وما بقي من بيتي كوم تراب، ولا نمرق إلى صباح كل يوم جديد إلا عبر نفق طويل من المعاناة؟ نعم، لم يعد صخب الحرب يطبق على آذاننا، ولم يعد يستولي علينا الرعب من القنابل (الآن على الأقل) لكن أثر الحرب ما زال يحوم في النفوس ويزرع الخوف.

كأن تلك الوقائع لم تبرح الذاكرة. 

كانت أصوات القنابل وقذائف الهاون والرصاص تهدر فوق رؤوسنا. لاذ جميع من في الحي بالفرار. كان الأمر مروعًا.

استولت جماعة متمردة على مدينتنا الصيف الماضي. كان زوجي مسؤولًا حكوميًّا يؤدي عملًا في الجانب الآخر من البلاد. تناهت إلى مسامعي شائعات عن احتجازه، لكن لم أستطع التأكد منها. كان من جيراننا المغادرين موظفون حكوميون أيضًا. ولم نسمع أخبارًا عنهم منذ ذلك الحين. لم أشأ أن أغادر تحسبًا لعودة زوجي.

ابتلع دمار هائل محيط سكننا في الأسبوع الأول. لم يعد لديَّ مطبخ بعدما أصاب انفجار في أحد الصباحات ذلك الجانب من المنزل. يشكو أحد أطفالي من أزيز لا يزال يطن في أذنيه وألم لا يزال يدق في رأسه، لكن لا أملك مالًا لأدفعه للطبيب. بل إن الكهرباء والمياه مقطوعتان أصلًا عند الطبيب، كما هي حالنا جميعًا في الحي. وكانت تنهمر حالات طارئة أشد وطأة من حالتنا على الطبيب.

ثم حلَّ علينا سلام نسبي، فقد توقف القتال فجأة بعد أسبوع مستعر، قبعنا في بيوتنا التماسًا للنجاة من أواره. لم تعد تزحف هجمات جديدة، لكن لم يستقر السلام. انطمر الموتى والمحتضرون – جيراننا ورفاقنا – تحت الأنقاض، استغاثوا أيامًا إلى أن خفت صراخهم ولم نعد نسمع شيئًا. استغرق الأمر من الجنود ومنا نحن الجيران وقتًا طويلًا للبحث عن أماكن رفاقنا والعثور عليهم تحت حطام البيوت المدمرة. نزف الجرحى، الذين حالفهم الحظ وظلوا على قيد الحياة، كثيرًا. كان المستشفى الأقرب إلينا يعاني كذلك من انقطاع الكهرباء والمياه، ويعمل بشق الأنفس.

نتُشلت الجثث في نهاية الأمر، لكن صعبت مهمة الكشف عن هويات أصحابها كما قال الجنود. ولا أعرف أين دُفنت. أتساءل أحيانًا عما إذا كانت أعز رفيقاتي قد استطاعت الخروج والفرار بطفليها، أم أنها ترقد تحت الأنقاض، سؤال ربما لن أعرف إجابته.

أتمنى… أن أرى أطفالي يذهبون إلى المدرسة، أود أن أراهم يلعبون ويلهون كسابق عهدهم.

منعت أطفالي من ارتياد المدرسة في أسبوع القتال. وبعدها انمحت المدرسة من الوجود، إذ انهمرت عليها القنابل. قُتل أحد المعلمين وفرَّ الآخرون. ولم نشأ طوال العام الذي تلا تلك الوقائع أن ندع تعليم الأطفال ينسرب منا، فقرأنا الكتب التي قرأناها مرارًا، بل حاولنا لعب ألعاب. بيد أن طاقتي نضبت بنهاية العام. والأطفال الآن يركضون في الشوارع.

استُعملت القنابل العنقودية في النزاع – ينكر الطرفان ذلك، لكني رأيت ذلك بأم عيني – التقط ابن إحدى صديقاتي، وهو بمثابة أحد صغاري، إحدى تلك القذائف الصفراء الزاهية ورماها ففقد ذراعه. حالفنا الحظ فلم يتأذَّ شخص آخر. ما زلت أخاف كلما خرج أطفالي إلى الشارع، لكن لا أستطيع إبقاءهم في البيت إلى الأبد.

لم أشأ أن ألجأ إلى السلطات أو أسأل عن أي شيء، لئلا يلحق أذى بزوجي إن فعلت ذلك. أحسن ما أتى به هذا السلام القلق أني استلمت رسالة منه، سلمتني إياها جمعية الهلال الأحمر. لا تزيد الرسالة على أنه على قيد الحياة وبخير. عرفت أنها منه لأنه رسم صورة لأسرتنا كلها. فنان موهوب كعهدي به دائمًا.

الناس يأكلون من القمامة لأنهم لا يستطيعون الحصول على الغذاء. رأينا نساءً يقطفن أوراق الشجر ويغلينها ليقدمن لأطفالهن حساءً ساخنًا.

زحفت الدبابات والقنابل بعد مرور عام. هي الآن حرب الحكومة على المتمردين. كنا قد اعتدنا على الهدوء العابر، فعدنا الآن إلى الخوف الذي يصهر الروح كلما ابتعدنا عن البيت تنقيبًا عن الطعام أو التماسًا للمساعدة الطبية. سلوك الجنود المتمردين، وبعضهم ليس أكبر من ابني كثيرًا، عصي على التوقع. قال بعض الناس إنهم رغم ما أقاموه من حكم عادل، لم يعطونا ما تستمر به حياتنا، لم يجلبوا ما تستلزمه إعادة الإعمار، لم يوفروا لنا الغذاء أو الماء. أي حديث عن العدل ونحن نفتقر إلى الخدمات الأساسية؟

عادت المنطقة إلى السيطرة الحكومية بعد أسبوعين من القتال، أسبوعين من الدمار. وبدا أن البلاد بأسرها تستقبل عهدًا من السلام. توقعت في ظل هذا السلام أن يعود الشعور بالأمان، لكن الحكومة لم تنشر في الربوع الجهاز الأمني الطبيعي، بل ألفينا بدلًا من الشرطة جنودًا صغار السن خارجين من المعارك للتو، ولا يتوانون عن دخولها مجددًا، منفلتي العقال بلا حسيب ولا رقيب. لا عدل حلَّ مع أولئك أيضًا.

القنابل العنقودية لا تزال متربصة في الزوايا والأركان انتظارًا لمن يقعون عليها على غفلة. عادت امرأة تسكن شارعنا من مخيم نازحين الأسبوع الماضي، وما إن ولجت باب بيتها حتى وقع انفجار بتر ساقيها. كان شركًا خداعيًّا. يعثر الناس على قنابل غير منفجرة في كل مكان، ولا أحد يأتي لإزالتها.

تعود جموع الناس إلى المدينة، إلى منازلهم المدمرة. والحكومة تنظر إليهم بعين مرتابة، إلى أي جانب يقفون؟ وماذا كانوا يفعلون وقت النزاع؟ لا يحملون أوراقًا رسمية من مخيمات النازحين، أو أنهم لجأوا لأقاربهم بعيدًا ولا مستندات تثبت أين كانوا. أوراق الرواتب التقاعدية، أوراق تسجيل الأطفال في المدارس، بل حتى عقود الإيجار كلها ضاعت. ظننت للوهلة الأولى أنهم أسوأ حالًا منا في جوانب شتَّى.

ثم اتضح أن لا فارق بين أحوالنا وأحوالهم، كلنا فوق أرض مضطربة. ظللت أنتظر رجوع زوجي. احتجزه المتمردون، لكنهم انهزموا الآن ولا بد أن يعود إلى داره. استولت الحكومة على المكان الذي كان محتجزًا فيه، وحتمًا أطلقت سراح كل المحتجزين هناك؟ ما تناهى إليَّ الآن أن الحكومة احتجزت كل السجناء مرة أخرى لارتيابها في تعاونهم مع المتمردين الذين احتجزوهم. ظللنا نحصل على راتب زوجي منذ ذلك الحين، لكنه انقطع مؤخرًا. وصلتني رسالة أخرى من الهلال الأحمر، رسمة صغيرة رسمتها يد مرتعشة. كيف يعاملونه؟ متى سيطلقون سراحه؟ أما انتهى هذا النزاع؟

رأيت بالأمس القريب أحد زعماء التمرد المشهورين بالمنطقة يسير في السوق، بعد أن تفاوض للحصول على عفو. لماذا يعفون عنه، وزوجي الذي لم يرتكب خطأ لا يزال سجينًا؟

كل ما أريده أن أكون بخير. وكيف يكون المرء بخير بعدما انفتحت عيناه على هذه الأهوال؟ رأيت مدينتي تحتضر. رأيت روحي تنكسر. ولا أعلم إن كنت سأكون بخير يومًا ما، لكنني أتمنى ذلك.

انتهت الحرب الآن، ولا زالت الكوابيس تزورني كلما غصت في نومي المضطرب. أريد أن أتحسن، أريد أن يتعافى جسدي وذهني. أريد أن يحيا أطفالي من الآن حياة بلا منغصات. أريد أن أرى زوجي من جديد.

بعض الجروح لا تقبل الالتئام، حتى وإن أردنا ذلك. وبعضها، كالآلام الجسدية والنفسية، يستعصي على الالتئام، لأن الرعاية الطبية لا تتوفر بين أيدينا. ابن صديقتي مبتورة إحدى يديه، لا يجد إلا الجلوس في البيت والتحديق في الجدران، فلا أحد يوفر له ما يحتاج من إعادة تأهيل بدني. كان يومًا طفلًا نشيطًا واعدًا. جارتي التي اغتُصبت في مخيم نازحين تديره الحكومة لا تحصل على خدمات الصحة النفسية والبدنية التي تمس حاجتها إليها في هذه الظروف الخاصة. أمر عليها كل يوم لأتأكد أنها ما زالت على قيد الحياة. أعمى الغضب ابنها حتى إنه انضم إلى صفوف المتمردين. وتدور أقاويل بأن جماعة المتمردين تعيد تنظيم قواها لشن هجمات جديدة.

لا أعلم ما أفعل، ولا أعلم من أصدق، هل ينبغي الآن أن نميل إلى أحد الطرفين بعد أن انتهت الحرب على ما يبدو؟ من ينبغي أن يوفر هذه الخدمات الضرورية؟ من ينبغي أن يتولى إعادة الإعمار؟ من ينبغي أن يزيل القنابل ويعيد الكهرباء والمياه؟ من ينبغي أن يطلق سراح السجناء أو يبحث عنهم؟ الحكومة؟ البلد الذي وردت منه القنابل؟ البلد الذي انطلقت منه الطائرات لتحلق فوق رؤوسنا وتلقي القنابل؟ الصليب الأحمر أو الهلال الأحمر؟ الأمم المتحدة؟

بالنسبة إليَّ وإلى الكثيرين، لن تنتهي الحرب حتى تُبذل جهود كثيرة لإعادة المدينة وحياتنا فيها إلى المسار الطبيعي. ربما يكون مسارًا طبيعيًّا مختلفًا عما عهدناه – فلن تزول بعض الندوب والدمار – لكنه سيكون أفضل مما يجري الآن في أثر النزاع، فالخوف كل الخوف أن تبذر هذه الظروف في الأرض حربًا جديدة.

ملحوظة من المؤلف: أتوجه بالشكر إلى «آنا غريبيل» و«توما دي سان موريس» على طرح المفهوم الأساسي الذي انبنى عليه هذا المنشور. كل الاقتباسات المكتوبة بأحرف مائلة أدلى بها أشخاص حقيقيون في مقابلات سجلتها اللجنة الدولية في تقرير «رأيت مدينتي تحتضر» الصادر في 2017. ولقد رأينا إيراد هذه الاقتباسات للتدليل على أن هذه الأحداث الخيالية تمتد بجذورها في صلب الواقع.

نُشر المقال في الأصل بالإنجليزية في مدونة «القانون الإنساني والسياسات»، وهي منصة معنية بالنقاش حول القانون الدولي الإنساني. وقد نقل أحمد سمير النص إلى اللغة العربية.  

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا