ما بين الفاشينيستا والهيومانيستا: لنبنِ معًا عالمًا أفضل

العدد 70

ما بين الفاشينيستا والهيومانيستا: لنبنِ معًا عالمًا أفضل

AFP)

في سالف الأزمان كانت المآسي تنتشر بشكل أسرع من المعلومة. وفي حينها وبينما اقتصرت الوسائط على الصحف ثم المذياع ومن بعدهما التلفزيون، كانت المعلومة مقننة، تتحكم بها السلطات، السياسية منها والتجارية. كان الحاكم في تلك الأوقات ينام قرير العين، كيف لا، وهو على دراية كاملة بعناوين أخبار الصباح وتفاصيلها.

وبينما كان مقص الرقيب فاعلًا في الماضي ويحدد كمية ونوع المعلومة المسموح بتمريرها بالإعلام المرئي والمسموع والمقروء، لم يعد هناك حصر للمعلومات في حاضرنا، فقفزنا من القليل القليل إلى الكثير الكثير الذي لا حصر له.

قفزنا إلى مرحلة، أصبحت خلالها المعلومات تنتشر بشكل أسرع من المآسي، فعكستها بواقعية في كثير من الأحيان وبالغت بوصفها وضخمتها في حالات أخرى. هذا التغير وضَعَنا كصحفيين أمام تحدٍّ كبير استدعى تقييمًا جديًّا لطبيعة المعلومة وأهميتها في تشكيل رأي عام «متعطش بطبيعته للمعلومة» قادر على استخدامها في تحويل العالم إلى مكان أفضل، تطغى عليه الإنسانية. أصبح جليًّا أن ما نشهده من تحول في وسائط نقل المعلومة، لا يشكل حدثًا تكنولوجيًّا عابرًا بل سلطة جديدة تشكل المجتمع كما تتشكل به.

تحول دور الصحفي من ناقل للمعلومة عن بعد، إلى جزء لا يتجزأ من التفاعل المحيط به وهنا نتحدث عن تفاعل آني وتواصل مباشر وحدود توسعت لتصبح إقليمية في قليل من الأحيان وعالمية في كثير منها، ولا سيما الإنسانية منها، وهذا ما يدفعنا إلى إعادة تشكيل العلاقة مع المشاهد/القارئ/المستمع، باختصار المتابع الذي أصبح جزءًا فاعلًا في العمل الصحفي، وليس متلقيًا فحسب.

الصحفي التقليدي بحلة جديدة

يمكن للمتابع لهذا التحول رصد التغير الذي طرأ على تغطية الأخبار من حيث أنسنتها، فبعد أن كان الإعلام يتحدث عن اللجوء بصورة عامة، أصبح «يؤنسن الخبر» لتصبح القصص في طيات الخبر وأسماء أبطالها/ضحاياها هي العنوان الرئيس. وهذا ما أعتقد أنه ميز العمل الصحفي في حلته الجديدة، وهنا أدعو إلى سن قواعد جديدة وإدراجها في المناهج الدراسية والدورات التدريبة بعنوان، أحب أن ألقبه «الإعلام الإنساني». أصبحنا نلاحظ وجود عديد من الصحفيين، وحتى المؤسسات الصحفية التي خرجت من حدود الخبر إلى إنسانيته، بعد أن وجدت أن تأثيرها في ظل وجود الوسائط المتعددة فاعلٌ وقادرٌ على إحداث تغيير يغير من شكل البشرية. عملت هذه الجهات جاهدة في توسيع نطاق تفاعلها مع المتابعين ليتعدى تقديم النشرات، ليصل إلى مرحلة من الشراكة الإنسانية، وظفت لها تقنيات منصاتها كاملة لتصبح مسرحًا لإثراء المحتوى الإنساني.

نقطة نظام

لا يمكن أن نتأكد إن كان ما ذكرته من تأثير مجتمعي هو الذي حرك تلك الجهات، فلربما شعر بعضها بتهديد العامة لها ولوجودها، بعد أن انتشر عمل الصحفي المدني في ميادين الحروب، وبعد أن أصبح صاحب القصة هو نفسه ناقلها، وحتى قبل أن تعرف عنها وعنه وسائل الإعلام. ولكن دعونا نأمل أن العامل الإنساني والأخلاقي كان المحرك وكان الله بالسر عليمًا.

الخامسة

إثراء المحتوى الإنساني بالنسبة لي وفي حدود مجال عملي، تجلى بالجهود التي بذلت لإطلاق نشرة، يمكنني أن أزعم أنها الوحيدة في العالم العربي التي تُعنى في خطها التحريري بالجانب الإنساني وبشكل يومي. على مدار خمس سنوات نجحت نشرة الخامسة في إيصال صوت من لا صوت لهم، فقد نقلت مآسيهم وتطرقت إلى مواضيع إشكالية تعرضوا لها، دون أن تغفل الخامسة أبدًا عن قصص نجاحاتهم. وأفتخر أننا نجحنا في حل عدد منها. أذكر هنا عبد الله، الطفل السوري الذي اضطر لترك دراسته، كي يساعد في توفير الدعم المالي لعائلته. وعندما نقل فريقنا قصة معاناته أمام المشاهدين وفي تصرف اليونسيف، تبنت المنظمة الطفل وها هو الآن وعائلته في الولايات المتحدة الأميركية يكمل دراسته.

وإيمانًا منا، بأهمية التفاعل مع المشاهدين، أطلقنا وبشكل يومي سؤالًا تفاعليًّا على تويتر وعرضنا الرد على الشاشة، وبهذا لم نوفر في الخامسة فقط أرضية خصبة وجميلة لتلاقي المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، بقصص إنسانية، بل استطعنا إشراك المتابعين من خلال تحكيم عقلهم في قضايا إنسانية ومنها إشكالية..
وقعت وفريق العمل في إدمان العمل الإنساني فخرجنا من حدود الاستديو لنصل إلى مصدره مباشرة. وهكذا بدأنا في رحلة إلى مخيمات اللجوء السورية في الأردن ومخيمات النزوح في اليمن. بدأنا مرحلة جديدة في إيصال الرسالة الإنسانية، فبالإضافة إلى التغطية التقليدية للحدث، بدأنا باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي في حوارات مباشرة مع اللاجئين وتغطية مكثفة وعن قرب لحياتهم داخل المخيم بحلوها ومرها.

نقطة التحول

كان لهذا التواصل المباشر مع المتابعين الأثر الكبير عليَّ شخصيًّا، جعلني ألجأ إلى منصتي الخاصة على السوشيال ميديا لإثراء المحتوى الإنساني، إذ وجدت أن الوضع الإنساني يتعدى المنصة الواحدة، وأن دوري كصحفية في ظل التكنولوجيا الحديثة يوجب عليَّ أن أعمل على نشر ثفافة فعل الخير ودعم الأعمال الإنسانية بكافة أشكالها. وما أجمل أن تشعر بأن منصتك قد استطاعت أن تقدم ولو القليل، فالدال على الخير كفاعله. وما أجمل أن تستمع إلى ردود فعل المتابعين وفرحتهم، فيكون العمل الإنساني بهذه الحالة متكاملًا حيث يكون الكل رابحًا.

التحديات

– تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي ظاهرة ما تعرف بالفاشينيستا، بهدف الترفيه والتسلية في معظمها وكسب المال أيضًا، وقد أصبحت الفاشينيستا وظيفة تجذب الكثيرين وتُبرز معظمهم بغض النظر عن خلفياتهم، وأخلاقياتهم والمحتوى الذي يقدمون. من المهم الآن، في ظل المآسي التي يعيشها عالمنا العربي، أن ندفع بظاهرة جديدة سأطلق عليها اسم «الهيومانيستا»، وهدفها الأساس إنساني ومردودها مجتمعي توعوي نحن في أمس الحاجة إليه.

– حاول عديد من المنظمات الدولية التوجه إلى وجوه مؤثرة كي تشارك في حملات إنسانية أو تبرعات إلا أن غياب الوعي الحقوقي للإنسان والقوانين التي تحمي الأقل حظًّا بين هؤلاء مثَّل برأيي التحدي الأبرز، وهذا ما يعيدني إلى ما ذكرته سابقًا حول أهمية تهيئة الصحفي والمؤثر لقوانين الإعلام الإنساني التي يجب أن تتطور لتتماشى مع التكنولوجيا الحديثة. هناك صورة لمؤثر يمكن لها أن تحرك قلوب العالم أجمع، وهناك ما يمكن أن يكون مبتذلًا ورخيصًا، بما ينهي صورته والمنظمة التي يمثلها، ناهيكم عن التأثير السلبي للأقل حظًّا.

– التعاون بين المنظمات الدولية والمؤسسات الإعلامية ما زال بشكله التقليدي ما يستدعي خلق بيئة جديدة من التعاون للتأكد من أن المساحة الإنسانية متوفرة وبصورة صحيحة ومؤثرة أيضًا.

– ليس هناك من دعم كافٍ للمبادرات الفردية ولا أعلم إن كان ذلك تقصيرًا من المنظمات أو من المؤثرين.

– بعض المعلومات منها الكاذبة ومنها الصادقة، أثرت على مصداقية المنظمات الإنسانية، وبالتالي وجب العمل على تحسين صورتها.

– معظم المنصات تعرض الإنجازات أو حملات التبرعات، لكنها تغفل عن أهمية التواصل مع المتابعين خاصة من يحتاج منهم إلى الدعم.

المطلوب

استطاعت التكنولوجيا توفير وسائل تجعلنا قادرين على التغيير، ويبقى القرار لنا، عن شكل التغيير الذي نريده والتأثير الذي نصبو إليه، ومن هنا على المنظمات الإنسانية أن تحدد من خلال رصد الملفات الشخصية للمؤثرين، من منهم يحمل راية إنسانية وبالتالي يحق له أن يُكرَّم بلقب الهيومانيستا.

نُشر هذا المقال في العدد 70 من مجلة «الإنساني» ضمن ملف العدد عن «أنسنة الإعلام». للاطلاع على محتويات العدد، انقر هنا. للاطلاع على العدد كاملًا، انقر هنا

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

اكتب تعليقا