جاء ميلاد اللجنة الدولية للصليب الأحمر من رحم رهان على المستقبل وضعه خمسة من مواطني مدينة جنيف السويسرية، باجتماعهم في 17 شباط/ فبراير 1863 للنظر في المقترحات التي تقدم بها أحدهم، والمشاركة سويًا في تشكيل “لجنة دولية دائمة”. القصة مشهورة، إلا أن الأسباب التي دفعت هنري دونان وزملاءه إلى اعتبار عملهم عملًا دائمًا بالضرورة أقل شهرة من القصة، ولا سيما الأسباب التي مكنت اللجنة الدولية من المثابرة عبر التقلبات التي واجهتها، وهو ما سنشير إلى بعضه.
نقطة البدء 1863-1864
أخذت اللجنة الدولية شكل جمعية عند مولدها، وهو ما اتفق مع الهيكل التنظيمي الأكثر شيوعًا في ذلك الوقت، وإن كان البعد العالمي للمنظمة هو الابتكار الجديد. وبإعلان اللجنة الدولية صفتها الدولية، وضعت نفسها في مرمى سهام النقد لأن أعضاءها كانوا ينتمون لمجرد مقاطعة سويسرية صغيرة.
ولكن للمفارقة نجحت اللجنة الدولية في أنشطتها على وجه التحديد بسبب تشكيلها المتميز، كما استفادت أيضًا من حقيقة أن المؤسسين الخمسة لم يكونوا فقط من المدينة نفسها بل كانوا ينتمون أيضًا إلى الطبقة نفسها والديانة نفسها. وبسبب اشتراكهم في نظرة عامة للعالم، كونوا فريقًا متماسكًا، فضلًا عن خبراتهم المتنوعة من خلال الجمع بين محامٍ غوستاف مونييه، وخبير نشيط في الشؤون العامة هنري دونان، وجراحيْن تيودور مونوار ولويس آبيا، وشخصية عسكرية غيوم- هنري دوفور. واستفادت اللجنة الدولية، بجانب ذلك، عند إنشائها بشبكات العلاقات الشخصية لدى أعضائها، خاصةً في أثناء الجولة التي قام بها “دونان” لحكومات عدة عواصم أوروبية. وأخيرًا، فإن الجنسية السويسرية لأعضاء اللجنة والحياد المرتبط بها، شكل إضافة في فترة إحياء القومية في أوروبا، عقب حرب العام 1870.
وقد هيأ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظروفًا مواتية لظهور أفكار العمل الخيري المرتبط بالحرب. كما تسبب “التقدم” في تطوير الأسلحة، في عدد أكبر من الإصابات الأكثر خطورة من أي وقت سبق. وأدت “حرب القرم” (1853-1856) ثم الحرب الثانية من أجل استقلال إيطاليا (1859) إلى سقوط آلاف الجرحى، وكشفت المجزرة التي خلفتها الحرب الأهلية في الولايات المتحدة (1861-1865) أن كوارث الحرب لا حدود لها. حرك هذا العنف، الذي لم يشهد العالم له مثيلًا منذ فترة حكم نابليون، الرأي العام بشكل غير مسبوق مع ظهور الطواقم الطبية العسكرية وهي عاجزة عن التعامل مع الإصابات الناجمة عن الحرب.
وبالتالي كان هناك مجال لتدخل أطراف أخرى لمساعدة المرضى والجرحى. أثناء حرب القرم، برهنت الممرضة “فلورنس نايتينغيل” من بريطانيا علاوة على الممرضة الروسية المعاصرة لها الدوقة العظيمة “إلينا بافلوفنا” وفي وقت لاحق “كلارا بارتون” في الولايات المتحدة، على مزايا التدخل الطبي من جانب أطراف أخرى وحشدن تعاطف الطبقة المتوسطة الأوروبية بسهولة على اللجنة الدولية وخططها نتيجة لوعيها بالفعل بضرورة مساعدة الجنود الجرحى عن طريق الدور الرائد لهذه الرموز النسائية للعمل الخيري.
وهكذا تحرك الرأي العام مما جذب اهتمام القادة الأوروبيين، الذين التقى العديد منهم بهنري دونان متخذين بعض الخطوات التي أدت إلى توقيع “اتفاقية جنيف الأولى” في 22 آب/ أغسطس 1864. وأدى إقرار هذا النص- الذي يعد أول نصول القانون الدولي الإنساني الحديث- من جانب عشرات الدول إلى تعزيز هيبة اللجنة الدولية، ومنحها قوة معنوية وربما سياسية. وأدى تأسيس شبكة من الاتصالات ممثلة في جمعيات الصليب الأحمر- ولاحقًا الهلال الأحمر- الوطنية، ودور اللجنة الدولية كحلقة وصل بين شتى المؤسسات إلى تعزيز وضعها حتى عام 1914.
التحول 1914-1923
اجتازت اللجنة الدولية بهدوء السنوات الخمسين الأولى من وجودها دون المرور بتغيرات جذرية. وارتفع عدد الأعضاء ارتفاعًا طفيفًا من خمسة في العام 1863 إلى تسعة عشية الحرب العالمية الأولى، وظل هيكلها قائمًا على التطوع. وإن تعرضت اللجنة الدولية إجمالًا للانتقاد من جانب الحكومة الروسية في المؤتمرات الدولية للصليب الأحمر، حيث كانت تهدف إلى تدويلها، إلا أن المقترحات المقدمة من “سانت بطرسبرغ” لم يقرها المشاركون الآخرون.
وباستثناء الحرب بين فرنسا وبروسيا (1870-1871) والتي عملت بها اللجنة الدولية من خلال “اللجنة الدولية لإغاثة الجرحى” التابعة بها في “بازل”، لم تخرج أنشطة اللجنة الدولية عن تبادل المراسلات، والمناقشات النظرية. وسجل عام 1875 أول بعثة محدودة إلى مسرح نزاع مسلح نتيجة للأزمة الشرقية في منطقة البلقان.
وفي العام 1914، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى وما أعقبها، تضاعفت العضوية باللجنة الدولية اثني عشر ضعفًا. وفي نهاية عام 1914، كان هناك حوالي 1200 شخص يعملون لديها في “الوكالات الدولية لأسرى الحرب”، بل كان البعض موظفين بأجر. وقد أدى هذا إلى تأسيس هياكل وأساليب خاصة للعمل والإدارة وإن ظل العمال المتطوعون يمثلون أغلبية. إلا أن اللجنة الدولية كانت تقوم بعملها عبر “الوكالة الدولية لأسرى الحرب“ التي كانت ترسل بعثات بشكل دوري أثناء الحرب لزيارة معسكرات الأسرى، والعناية بعملية إعادة الأسرى إلى بلدانهم في نهاية النزاع. وهو ما دفع اللجنة الدولية لتأسيس علاقات مع شركاء أجانب وميلاد أولى البعثات، التي قامت بتشغيل موظفين محليين.
وساهمت الحرب العالمية الأولى في تغييرات اجتماعية، كان من بينها شغل النساء أماكن الرجال الذين ذهبوا إلى الجبهة. وهو ما حدث في اللجنة الدولية، إذ كانت النساء يمثلن ثلثي عدد الموظفين المشتغلين لدى “الوكالة الدولية لأسرى الحرب” والبالغ عددهم زهاء 3000 شخص. وامتدت عملية التأنيث إلى القمة، ففي تشرين الثاني/ نوفمبر 1918 انضمت “رينيه مارغريت كريمر” كأول امرأة إلى اللجنة.
وكانت اللجنة الدولية على وعي كامل بالابتكار الذي حققه هذا التعيين “الأول في منظمة دولية”. ورغم تردد بعض أعضائها، فقد قررت أن هذه الخطوة الجديدة كانت نتيجة حتمية “للمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة التي أبرزتها الحرب”. وبتطور الأحداث والعلاقات شهد عام 1923 تعيين أول أعضاء باللجنة الدولية من خارج جنيف.
ثمة تحدٍّ رئيسي آخر كان يتعلق بالضحايا والنزاعات خارج إطار العالمية “النزاعات الكبرى بين القوى الأوروبية الرئيسية”، والقيد المماثل الذي كان يرتبط بالمستفيدين المقتصر على الجرحى من أفراد القوات المسلحة في الميدان، على النحو المنصوص عليه في اتفاقية جنيف الأولى.
فقد دفعت الحرب العالمية الأولى وفترة ما بعد الحرب اللجنة الدولية إلى التعامل مع أساليب قتالية جديدة (استخدام قنابل الغاز)، وسياقات جديدة للعنف (الحروب الأهلية، والثورات وعمليات التمرد)، وفئات جديدة من الضحايا (السجناء السياسيين، والمدنيين في الأراضي المحتلة، والرهائن، والأشخاص المفقودين، والأطفال، واللاجئين). ولتلبية احتياجاتهم الإنسانية، استحدثت المنظمة أنشطة جديدة في مجالات الطب والمساعدات الغذائية، منفردة أو بالاشتراك مع منظمات دولية أخرى. وقد ظهر من رحم هذا العمل التفكير في القانون الدولي الإنساني والإضافات الضرورية لضمان حصول هؤلاء الضحايا “الجدد” على حماية قانونية.
وأخيرًا، اختفت اللجنة الدولية تقريبًا في الفترة التي أعقبت العام 1918، وواجهت تهديدًا حقيقيًا قاده “الصليب الأحمر الأمريكي” القوي بعد تأسيس “اتحاد جمعيات الصليب الأحمر” الذي ضم فقط جمعيات الصليب الأحمر بالدول الخمس الكبرى المنتصرة في الحرب (الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، وفرنسا، واليابان، وإيطاليا). وبدعم من التحالف الذي كانت بريطانيا والولايات المتحدة على رأسه، و”عصبة الأمم”، كان الاتحاد يهدف إلى الإسراع بوتيرة عمل الصليب الأحمر وتحديثه عن طريق معالجة الأنشطة الاجتماعية والرعاية الصحية الوقائية في وقت السلم سعيًا للاستحواذ على كثير من مسؤوليات اللجنة الدولية.
الاندماج 1936-1946
استمر انكماش المنظمة بسبب الوضع المالي الضعيف، ووجود رئيس جديد كان ميالًا للتفكير النظري، والعودة إلى الأنشطة التي تركز على النزاعات الدولية، فضلًا عن انحسار الحروب لصالح الكفاح الداخلي المسلح.
تغير الوضع في الثلاثينيات حيث استؤنفت النزاعات الدولية الكبرى. ففي عام 1932 وبعد احتلال شانغهاي على يد القوات الإمبراطورية اليابانية، استفادت اللجنة الدولية من مندوب أُرسل إلى اليابان وطلبت منه التوقف في المقاطعة الصينية وإرسال تقارير حول الوضع هناك. وأرسلت اللجنة الدولية في العام التالي ومجددًا في عام 1934 بعثات- كانت هي الأولى إلى قارة أمريكا الجنوبية- إلى حرب “غران تشاكو” التي دارت بين بوليفيا وباراغواي. وفي عام 1935 وفي أولى مشاركاتها في أفريقيا جنوب الصحراء، استجابت اللجنة الدولية إلى النزاع الإيطالي- الإثيوبي، وبعدها الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، التي تزامنت مع حدثين رئيسيين، أولهما: المشاركة الأولى في دعم ضحايا حرب أهلية بهذا الحجم. وثانيهما: أنه بدءًا من عام 1936، أصبح “المندوب” عملًا احترافيًا، وبات العمل الإنساني مهنة حقيقية.
كانت الفترة من 1939-1945 بالنسبة للجنة الدولية تكرارًا للفترة من 1914-1918، وأدى حجم وتنوع العمل الذي واجهته إلى تغييرات في عملياتها. جاوزت الأنشطة في كافة المجالات السجلات التي حققتها الأنشطة أثناء الحرب العالمية الأولى بما في ذلك زيارات المعسكرات (أكثرمن 11000) والمساعدات الموزعة وعدد السجلات الشخصية للوكالة المركزية لأسرى الحرب. وكانت هذه الأنشطة أيضًا انعكاسًا للموارد المالية الضخمة للغاية التي أنفقتها اللجنة الدولية في سبيل تحقيق مهمتها الإنسانية. فقد أُنفقت الأموال على سبيل المثال في شراء أول أسطول للسفن تابع للجنة الدولية ثم شاحنات في وقت لاحق وعمليات شراء لتحديث خطوات اللجنة الدولية. ولم تتوقف الحداثة عند هذا الحد، واستخدمت الوكالة المركزية لأسرى الحرب أول “أجهزة حاسب آلي” للمعالجة السريعة لملفات الأشخاص.
وتأثرت المنظمة تأثرًا مباشرًا بأهوال الحرب. وعرفت اللجنة الدولية أولى حالات احتجاز رهائن لها عندما اختُطف أعضاء بعثة برلين من جانب القوات السوفيتية عقب الاستيلاء على المدينة. كما أن الكثير من موظفيها قضوا في حوادث عنيفة كان من بينها قتل كونراد أوتو أندريج، سكرتير البعثة في باتافيا، على بد مجموعة من السكان الأصليين في عام 1946. ارتبطت حالة الوفاة الأخيرة هذه بظهور شكل جديد للنزاع حشدت اللجنة الدولية جهودها له على مدار عقود وهو حروب القضاء على الاستعمار.
وكانت اللجنة الدولية قد تجاهلت، وسط مشاغلها الإنسانية، الحروب الاستعمارية تمامًا رغم أن إنشاء اللجنة الدولية تزامن مع تزايد الاستعمار الأوروبي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. ولم تتحرك بسبب محنة الشعوب الأصلية الخاضعة لنير البيض أو بسبب المذابح التي ارتكبها الاستعمار. وبعد عام 1945 عندما تحول إنهاء الاستعمار إلى مسألة أهم من ذي قبل في العلاقات الدولية من ظاهرة الاستعمار نفسها، ركزت اللجنة الدولية على كفاح الشعوب المحتلة ضد المستعمرين وعرضت خدماتها في هذا السياق.
شهدت حقبة الأربعينيات تعرض المنظمة لمرحلة جديدة من النقد. بشكل أعم، كانت أنشطة الإغاثة التي نفذتها لمساعدة المهزومين، خاصةً الألمان، موضع تساؤل وأثارت لغطًا.
وكانت القوات المتحاربة في الوقت ذاته تتحدى القانون الإنساني، وعلى سبيل المثال قيام بعض الجنود الألمان بحبس جنود إيطاليين كأسرى عقب هدنة 8 أيلول/ سبتمبر 1943، كما أسر الحلفاء أفرادًا من الجيشين الألماني والياباني عقب الاستسلام، رافضين منحهم الوضع القانوني لأسرى الحرب.
الجدير بالذكر، أنه بعد عام 1918، ظهرت مجددًا مسألة الجنسية الأحادية للجنة وعلاقاتها “باتحاد جمعيات الصليب الأحمر”. وأثيرت مسألة زيادة سلطة الاتحاد على حساب اللجنة الدولية. بل واقتُرح إدماج الكيانين. وجاءت أشد الانتقادات مجددًا من داخل حركة الصليب الأحمر. وعند استقطاب الصليب الأحمر إلى مواجهات أيديولوجية بين الشرق والغرب، رأى أنه من الضروري الحفاظ على دور اللجنة الدولية بالإضافة إلى شخصيتها السويسرية المحايدة. وأنقذ المؤسسة من ثم اندلاع الحرب الباردة.
إعادة الهيكلة 1967-1974
بنهاية الحرب العالمية الثانية، كانت اللجنة الدولية على وشك الإفلاس ماليًا، مما أدى إلى الاستغناء عن العديد من الموظفين. وانخرطت اللجنة الدولية في الوقت ذاته في سلسلة من النزاعات المحلية أو الدولية الجديدة (اليونان وكوريا، والهند وباكستان، والهند والصين، وإندونيسيا) التي استهلكت معظم ميزانيتها. وكانت استجابات الجهات المانحة للمناشدات محدودة، ولم يتغير حال المنظمة حتى أوائل السبعينيات. كما واجهت المنظمة “فراغًا” في إدارتها في كانون الأول/ ديسمبر 1944، بتنازل الرئيس ماكس هوبر لظروف صحية عن منصبه، إلى كارب ياكوب بوكهارت، الذي تم اختياره فور ترشيحه من جانب المجلس الفيدرالي للعمل سفيرًا لسويسرا لدى باريس، وجرت الأمور بصورة تسببت في ضعف المنظمة وخفوت صوتها.
وانقضى عقدان شهدت اللجنة الدولية خلالهما لحظات مهمة مثل توقيع “اتفاقيات جنيف الأربع” في أغسطس/ آب 1949، والتي توجت عملية طويلة من المفاوضات. ولم تكن المنظمة خاملة على المستوى الميداني: فمن ألمانيا إلى فلسطين مرورًا بكوريا والمجر والجزائر والكونغو واليمن على سبيل المثال لا الحصر لمناطق النزاع، كانت اللجنة الدولية حاضرة عادةً بدرجة كبيرة في كافة الأزمات الكبرى وفي كافة القارات. وكان التوسع الإقليمي لأنشطة اللجنة الدولية والذي بدأ إبان الحرب العالمية الأولى متأصلًا في ذلك الوقت في الميدان حيث افتُتحت بعثات عامة في أفريقيا (سالسبيري وداكار) والشرق الأوسط (بيروت) وآسيا (بنوم بنه). وشهدت بداية حقبة السبعينيات تكثيفًا لعولمة اللجنة الدولية من جديد مع افتتاح البعثات الإقليمية والتي انتشر منها المندوبون إلى البلدان المجاورة سواء في السلم أو الحرب، إلا أن المنظمة لم تغير أسلوب عملها.
حدثت نقطة التحول الفعلية مع المشاركة المتزامنة للجنة الدولية في نزاعين مسلحين رئيسيين في عام 1967 وهما “حرب الأيام الستة” و”حرب بيافرا”. وأثار النزاع العربي- الإسرائيلي الثالث (5-10 حزيران/ يونيو 1967) تحولًا جذريًا في سلوك المنظمة، إذ كانت في ذلك الوقت تستشرف مبادراتها المحتملة. وكما أكد التقرير السنوي لعام 1967: “إذ تدرك اللجنة الدولية التوتر المتنامي الذي ساد منطقة الشرق الأوسط إبان النصف الأول من عام 1967، فقد اتخذت خطوات تحضيرية قبل اندلاع النزاع بعشرة أيام”. وقد أشار هذا إلى وجود تحول في اتجاه اللجنة الدولية نحو النزاعات المسلحة: من رد الفعل بشكل عام إلى التحول إلى الأخذ بزمام المبادرة، والتحضير لإجراءات عملية قبل اندلاع الأزمة. وكان لهذه السياسة الجديدة نتائجها بالنسبة لتعيين المندوبين، إذ نُفذت جنبًا إلى جنب مع التوسع الجغرافي للعمليات الميدانية للجنة الدولية وبالتالي حضورها في عدة نزاعات بشكل متزامن.
كانت فكرة الاستعانة بموارد بشرية “خارجية” أكثر ضرورة من ذي قبل، ولم تكن هذه المشاركة مقتصرة على الشرق الأوسط، إذ إنها طالت قارات أخرى بمرور الوقت (أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا). وتغيرت أنشطة اللجنة الدولية، التي تضمنت إلى جانب المساعدات والرعاية الطبية أنشطة أخرى تستهدف تحسين الظروف المعيشية للأشخاص الذين يعيشون في نزاع.
وكان للعدد المتزايد من المندوبين في ميادين الحروب بالإضافة إلى العدد المتنامي للمهام تأثيرات مترتبة على تمويل المساعدات الإنسانية، الأمر الذي أبرزته الحرب بين نيجيريا وبيافرا (تموز/ يوليو 1967- كانون الثاني/ يناير 1970). وبلغت التكلفة بشكل تقريبي لجهود الإغاثة التي نسقتها اللجنة الدولية في نيجيريا وبيافرا 663 مليون فرنك سويسري. وقد أدى كل هذا باللجنة الدولية إلى إعادة تحديد الطريقة التي تمول بها نفسها. وجاء إنشاء قطاع “جمع الأموال” في عام 1974، ليدعم سعي اللجنة الدولية للحصول على رعاية سياسية ومالية منتظمة، عبر اتفاقات مع السوق الأوروبية المشتركة والحكومة السويسرية. وأدت المراجعات الداخلية النابعة من هذه الخبرة بالإضافة إلى توسيع نطاق أنشطة اللجنة الدولية في جميع أنحاء العالم إلى تغييرات هيكلية، ولا سيما إنشاء المناطق الجغرافية الميدانية في عام 1970.
التوسع 1991-2011
شهدت الفترة بين عامي 1970 و1980 “عملقة النشاط الإنساني” في عمليات اللجنة الدولية، والتي تجلت مع اندلاع الحرب بين الهند وباكستان في كانون الأول/ ديسمبر 1971، التي لم تستمر سوى 13 يومًا فقط، بينما استغرقت عملية إعادة الأسرى إلى بلدانهم عامين ونصف العام. ثمة نزاعات ممتدة أخرى ومنها على سبيل المثال الحروب الأهلية الناتجة عن الكفاح البرتغالي ضد الاستعمار والحرب بين العراق وإيران وغيرها. غير أن المشكلات “الواقعية” التي نجمت عن أنشطة هذه السنوات تمثلت في “كيفية التعامل مع هذا النمو وتبعاته وهذه البيروقراطية المتكاثرة والعدد المتزايد من المجالات التي قررت اللجنة الدولية التدخل فيها”.
وأثيرت تساؤلات أيضًا عن القانون الدولي الإنساني وارتباطه بالنزاعات في حقبة السبعينيات، وبدت غير مواكبة للعصر في مواجهة الحروب الأهلية كالتي اندلعت في أنغولا، وموزمبيق، والسلفادور، ونيكاراغوا، وكذلك حروب التحرير الوطنية في أفريقيا (روديسيا، وناميبيا، وإريتريا وغيرها) وآسيا (تيمور الشرقية). ولذا كان منطقيًا أن يشهد عام 1977 اعتماد بروتوكولين إضافيين إلى اتفاقيات جنيف، ثانيهما ينطبق على “النزاعات المسلحة غير الدولية”.
كما شهد العام 1979 تصدي أحد المؤرخين المستقلين لتحليل موقف اللجنة الدولية من معسكرات الاعتقال والإبادة النازية، وما تلاه من دراسات وما جرى من تحقيقات داخلية، لتقرر اللجنة الدولية في عام 1996 فتح جزء من سجلاتها للجمهور بما في ذلك الفترة من عام 1939 حتى 1945. ومكن القرار المتخذ في عام 1996، والذي تجدد في عام 2004 لفترة إضافية تبلغ خمسة عشر عامًا، المنظمة من التخلص من الجدل الدائر حول ماضيها.
وشهدت السبعينيات والثمانينيات استحواذ الإدارة على بعض أدوار اللجنة والرئاسة على المستوى المؤسسي. وأدى إلى هذا “التغيير” في الأدوار وتجديد شباب المنظمة في الوقت ذاته كونه رؤساء اللجنة الدولية المتعاقبين لم يشغلوا المنصب سوى فترات قصيرة تبلغ أربع سنوات في المتوسط. وحدث تحول كبير في عام 1987 مع وصول “كورنيليو سوماروغا” رئيسًا للمنظمة، مؤكدًا عودة الرئاسة طويلة الأجل. وكان التغيير الأبرز والذي حدث في أيار/ مايو 1991 هو دمج مجلس الإدارة- الذي كان يجري مداولاته بشكل منفصل- في مجلس تنفيذي ضم في عضويته أعضاء اللجنة والإدارة.
وكان على اللجنة بدءًا من عام 1991 التعامل في الوقت نفسه مع حرب تضم تحالفًا دوليًا (حرب الخليج الثانية) وحرب أهلية في بلد بلا دولة (الصومال) وحرب أهلية ثم دولية لاحقًا (يوغوسلافيا السابقة) بالإضافة إلى المزيد من النزاعات المسلحة التقليدية (في أنغولا على سبيل المثال) والتي أضيفت إليها “نزاعات جديدة” أو “نزاعات فوضوية” في أفريقيا والإمبراطورية السوفيتية السابقة. وشهدت التسعينيات دخول اللجنة الدولية مناطق جغرافية جديدة منها على سبيل المثال البلدان المنتمية إلى الاتحاد السوفيتي السابق والتي لم تمارس اللجنة الدولية بها أي نشاط منذ عام 1938، وإلى عصر جديد من العنف غير المسبوق في الحروب. وقضى أكثر من ثلاثين موظفًا باللجنة الدولية في حوادث عنيفة منذ العام 1991، فضلًا عن عشرات إن لم تكن مئات الحوادث الأمنية.
ظهرت أساليب عمل كانت هي الأولى في تاريخ المنظمة ومنها على سبيل المثال الاستعانة بحراسة مسلحة في الصومال، كما تم إنشاء أول مطابخ جماعية في عام 1992 لتلافي المشكلات المتعلقة بتخزين وسرقة الطعام في البلد نفسه. وكان على المنظمة أيضًا التعامل مع العنف المحتمل للحرب بجانب العنف الواقعي. ففي 17 كانون الثاني/ يناير 1991، ناشدت اللجنة الدولية صراحةً في مذكرة شفوية الفصائل المتحاربة بالامتناع عن استخدام الأسلحة الذرية.
وعايشت اللجنة الدولية لأول مرة في تاريخها عملية إبادة جماعية في رواندا في عام 1994، وذلك في ضوء الطبيعة المحدودة لاستجابتها خاصةً مع الأخذ في الاعتبار حجم المذابح.
إلا أن السمة الأبرز التي بدأت في عام 1991 هي النمو الهائل للمنظمة من حيث عدد موظفيها خاصةً في الميدان بالإضافة إلى ميزانيتها ومصروفاتها المالية المتزايدة حيث يتجاوز الإنفاق السنوي مليار فرنك منذ عام 2007.
وكان من الثوابت التي ترسخت على مدار تاريخ اللجنة الدولية أن اللفتة الإنسانية كانت دائمًا تسبق تقنينها. ودعمت هذه “الأعمال المتقدمة” كلًا من الأنشطة الخارجية- التي كانت تستلزم استجابة فورية من المندوبين بدون استغراق أي وقت لاستشارة جنيف- وأيضًا البنية الهرمية الأولية التي منحت حرية أكبر في العمل والمبادرة لموظفيها حتى وإن تعرضت للرفض في ما بعد بمجرد علم المقر الرئيسي بها!
ألم يكن هذا الأداء المزدوج الذي يتمتع بخصوصية شديدة يمثل في النهاية تفسيرًا لكيفية قدرة اللجنة الدولية على التغلب على الأزمات العديدة على مدار المائة والخمسين عامًا من تاريخها؟ وألا يجب على المنظمة أن تسأل نفسها عن مستقبلها الخاص عندما يمثل حجمها وتشكيلها وإدارتها وأساليب عملها التي تخضع لإشراف عن كثب أكثر من أي وقت مضى والطريقة التي تقدم بها نفسها، انشقاقًا عن ماضيها.
نُشر هذا الموضوع في العدد 56 من مجلة «الإنساني»، ومحوره مرور مئة وخمسين عامًا على إنشاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر. انقر هنا للاطلاع على محتويات هذا العدد.
نشرنا في السنوات الأخيرة عدة مساهمات حول تاريخ اللجنة الدولية للصليب الأحمر ودورها في التخفيف من آلام المدنيين وقت الحرب وكذلك في تطوير منظومة القواعد التي تحكم سير الأعمال القتالية، انظر مثلا:
دانيال بالمييري، أرشيف اللجنة الدولية (1947 إلى 1975): العمل الإنساني في قلب صراعات الشرق الأوسط
أرشيف الصور دليلًا: الإنسانية حاضرة في حرب تشرين/ أكتوبر 1973
مائة وخمسون عامًا على إعلان بطرسبورغ… أول اتفاقية دولية تنظم استخدام الأسلحة زمن الحرب
شهادة: السويسري جيرار بترينييه و35 عامًا من العمل الإنساني حول العالم
صفحة من تاريخ العمل الإنساني في اليمن: تأسيس جسور الثقة
عرض كتاب: تاريخ اللجنة الدولية للصليب الأحمر في خمسة مجلدات
تعزيز قواعد الحرب في زمن الاضطرابات…ماذا أضاف البروتوكولان الإضافيان لعام 1977 للقانون الدولي الإنساني؟
ماهو الموقف من الضحايا المدنيين في حرب الجزائر ضد المستعمر الفرنسي