في أحياء تعز، التي كانت تُعرف يومًا بمدينة الثقافة، تمتد طوابير طويلة من الأطفال والنساء أمام صهاريج المياه كخيط طويل من الصبر للحصول على أبسط مقومات الحياة: الماء. فالمدينة التي تقع جنوب غرب اليمن صارت تعيش على إيقاع انتظار الماء، كأن العطش جزء من جدولها اليومي، مثل الفجر والليل.
يُكافح أكثر من نصف مليون إنسان يوميًا للحصول على الماء في تعز. ويتنقل الأهالي بين الأحياء حاملين عبوات فارغة، على أمل ملئها ببعض القطرات. فقد أصبحت المياه في تعز حلمًا مؤجلًا، وأزمة متجذّرة تكشف حجم الكارثة الإنسانية التي تعانيها المدينة المنكوبة.
وبحسب مصادر محلية، تشهد المدينة مؤخرًا نقصًا حادًا في مياه الشرب. وقد بلغ سعر صهريج بسعة 6 آلاف لتر أكثر من 60 ألف ريال (حوالي 40 دولار). ويأتي ذلك في ظل توقف تنفيذ المشروع الحكومي للمياه منذ بداية النزاع. وتشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 17 مليون شخص في اليمن يفتقرون إلى كميات مياه كافية وآمنة لاستخداماتهم الأساسية، بما في ذلك الشرب والطهي والصرف الصحي.
حرب قضت على مشاهد الحياة
تفاقمت المشكلة في تعز نتيجة النزاع المستمر منذ عام 2015. تحولت المدينة إلى مسرح لصراع شرس رافقه حرب شوارع وقنص عشوائي وحصار خانق أحكم على مداخلها. هذا الحصار أعاق وصول الوقود والإمدادات، بما في ذلك المواد اللازمة لتشغيل محطات المياه. كما تعرضت البنية التحتية لشبكات المياه لتدمير جزئي أو كلي. وتوقفت العديد من الآبار عن العمل خلال العمليات القتالية، أو بسبب انقطاع الطاقة التشغيلية. وتضررت مرافق المياه نتيجة القتال والحصار المستمرين مما أسفر عن توقف الكثير من الآبار ومحطات ضخ المياه عن العمل.
وبحسب منظمة «هيومن رايتس ووتش»، كان هناك 543 ألف شخص متصلين بشبكة إمدادات المياه العامة في 2014. أي ما يعادل 83 في المئة من سكان المدينة. في ذلك الوقت، كانت الشبكة توفر 6 ملايين و430 ألف متر مكعب من المياه سنويًا. وقد غطى ذلك 61 في المئة من الاحتياجات الفعلية للسكان، وفقا للمؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي في تعز.
وتعود أسباب تفاقم الأزمة إلى تدهور البنية التحتية وارتفاع تكاليف الوقود. كما توقف ضخ المياه من الآبار الرئيسية بعد فترة الحصار على المدينة. أدى ذلك إلى انخفاض مستويات المياه الجوفية الأساسية ومحاصرة أحواض المياه الرئيسية. وتضررت دمار شبكات المياه ومحطات توليد الكهرباء الازمة لتشغيل محطات الضخ. كما ساهم تأخر هطول الأمطار والجفاف الأخير في تفاقم الأزمة.
أزمة إنسانية بصمت
ونظرًا لنقص المياه، ارتفعت أسعارها بشكل كبير. وتضطر العديد من الأسر لشرائها من صهاريج أو آبار خاصة بأسعار مرتفعة. ويقضي المواطنون ساعات طويلة في طوابير الزحام، أو على طرق وعرة محفوفة بالمخاطر: يتعرضون لنيران القناصة والألغام الأرضية المزروعة بعشوائية دون خرائط. وفي الوقت نفسه، يواجه كثيرون مخاطر العنف القائم على النوع الاجتماعي.
ولا تتوقف معاناة الأهالي عند حدود الجهد البدني أو التكلفة الاقتصادية. بل تمتد إلى تبعات صحية وبيئية خطيرة. كثير من السكان مضطرون لاستخدام مياه ملوثة أو غير معالجة. وقد أدى ذلك إلى انتشار أمراض قاتلة مثل الكوليرا والتيفوئيد وغيرها. كما تتحمل النساء العبء الأكبر في هذه الأزمة. تقف الفتيات لساعات في طوابير أمام صهاريج المياه، تحت أشعة الشمس. وغالبا ما تفتقر هذه البيئات للخصوصية أو الأمان.
تقول فاطمة، وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها: «أشعر بالذل كلما خرجتُ لجلب المياه». بينما تضيف أم خالد، وهي أم لخمسة أطفال، إنهم يحصلون على الماء في تعز مرة واحدة كل عشرة أيام. وتضطر لغليه قبل استخدامه للشرب أو الطهي. وتستطرد: «أحيانًا نضطر لتقليل الاستحمام أو غسل الملابس حتى لا ينفد الماء».

طفل نازح يغتسل بمياه غير نظيفة في حوض بلاستيكي بمخيم “الملكة” شرق تعز – 24 نيسان/أبريل 2019 (تصوير: أحمد الباشا/اللجنة الدولية للصليب الأحمر)
وما زالت الجهود المحلية والدولية خجولة ومحدودة لحل هذه المشكلة. فهي تعاني من ضعف التمويل وانعدام الاستقرار الأمني، ما يجعل أزمة المياه إحدى أبرز مظاهر المعاناة الإنسانية في واحدة من المدن الأشد تضررا خلال الحرب. ومن العوامل التي زادت الوضع سوءًا غياب التنسيق المؤسسي بين الجهات الرسمية، والانقسام الإداري بين السلطات في المدينة. كما تفتقر المؤسسة المحلية للمياه إلى الإمكانيات الفنية والمالية لإعادة تشغيل نظام التوزيع.
تبعات أزمة الماء في تعز
وسط غضب شعبي وصل إلى مرحلة الانهيار، خرجت جموع عن صمتها في تظاهرات ووقفات احتجاجية نظمها حقوقيون ونشطاء وسياسيون أمام مقر السلطة المحلية وسط مدينة تعز. وجاء الاحتجاج رفضًا لاستمرار تدهور الأوضاع المعيشية وتردي الخدمات وسط أزمة مياه خانقة، وبلغت الأزمة ذروتها خلال الشهر الأخير، حيث ندد المشاركون بشح مياه الشرب. كما رددوا هتافات غاضبة استنكرت تدهور الخدمات الأساسية والإنسانية.
وتعبيرًا عن استيائهم من تدهور الخدمات الاساسية، وفي مقدمتها المياه، أقدم المواطنون الغاضبون على إغلاق الشوارع الرئيسة وإشعال إطارات السيارات. . وطالب المحتجون السلطات المحلية بحلول جذرية لتحسين مستوى الخدمات وتخفيف الأعباء المعيشية. وشملت المطالب إنهاء أزمة المياه في مدينة تعز ووقف تدهور الأوضاع فيها. ووفق وسائل إعلام محلية، عكست هتافات المحتجين حجم الغضب الشعبي من استمرار تدني الخدمات. كما عبرت عن استياء من تجاهل الحكومة والسلطة المحلية في معالجة أسباب معاناة سكان المدينة التي بلغت مستويات مرتفعة.
عبّر أحد المحتجين، أحمد علي، عن غضبه قائلًا: «لم يعد لدينا ماء لنشربه أو نطهو به طعامنا. أطفالنا يمرضون بسبب المياه الملوثة، ولا أحد يهتم بذلك». وأضاف: «وعدونا مرارًا وتكرارًا بحل المشكلة، ولكن لم نرَ شيئًا حتى الآن». فيما عبرت فاطمة محمد بأسى: «أضطر إلى شراء صهريج مياه كل أسبوع، وهذا يكلفني الكثير من المال. كيف يمكننا أن نعيش بهذه الطريقة؟»
الاستجابة والتحركات
وفي تطورات أخيرة، أقدمت السلطة المحلية في منطقة الحوبان، الخاضعة لسيطرة «أنصار الله» الحوثيين، على إرسال ناقلات مياه إلى داخل مدينة تعز. وصلت الناقلات عبر منفذ جولة القصر، وهو المنفذ الوحيد الرابط بين وسط المدينة، الخاضع لسيطرة الحكومة، وشمالها الخاضع لسيطرة الحوثيين. واعتبر مراقبون هذه الخطوة وسيله إسعافية وتحركًا إجابيًا.
في المقابل، توصلت الأمم المتحدة لاتفاق مع السلطتين في تعز، وذلك لأول مره منذ عقد من النزاع. يهدف الاتفاق إلى إدارة وتنسيق وصول المياه بشكل مشترك عبر خطوط التماس.
وبحسب بيان فريق الأمم المتحدة في اليمن، الصادر الشهر الماضي: فإن «الاتفاق الفني بين المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي في مدينة تعز والحوبان يعد خطوة مهمة نحو استعادة الخدمات الأساسية في واحدة من أكثر المحافظات اليمنية معاناة من شح المياه. الأمر الذي سيخفف من معاناة مئات الآلاف من السكان. ومن المتوقع أن يسهم هذا الاتفاق في إعادة ربط شبكات المياه والصرف الصحي في محافظة تعز، واستعادة خدمات أساسية كانت معطلة منذ ما يقرب من عقد من الزمان نتيجة النزاع والانقسام المؤسسي».
ماذا بعد؟
أزمة الماء في تعز ليست مجرد مشكلة خدمية. بل هي قضية إنسانية تتطلب تحركًا سريعًا. هناك حاجة إلى تدخل من المنظمات الإنسانية، ومشاريع استراتيجية لإعادة تأهيل شبكة المياه وتشغيل الآبار. وربما يشمل الحل التفكير في بدائل، مثل محطات تحلية صغيرة أو مشاريع لحصاد مياه الأمطار.
أما الأهم، فهو أن تنتهي الحرب ويتوقف الحصارعن مدينة تعز، إحدى المدن الأشد تضررًا خلال الحرب في اليمن. فلا يمكن لأي مشروع إنساني أن يستمر أو ينهض في ظل النزاع القائم وانعدام الاستقرار. فتعز لا تطلب المستحيل، فقط أن تشرب وأن تستعيد حقها في الحياة في وطن يواجه أزمات متواصلة. أزمة المياه هنا ليست مجرد أزمة خدمات، بل انعكاس لانهيار شامل يعانيه الملايين بصمت.


تعليقات