الميراث القاتل: الألغام ومخلفات الحرب تحصد مستقبل اليمن

قضايا إنسانية / من الميدان

الميراث القاتل: الألغام ومخلفات الحرب تحصد مستقبل اليمن

في زمن الحرب، لا تنتهي المآسي بتوقف القتال. فمخلفات الحرب غير المنفجرة بما فيها الألغام تواصل حصد الضحايا في اليمن، حتى بعد ثلاث سنوات من الهدنة. مع أكثر من 9600 ضحية منذ بداية الحرب، معظمهم من النساء والأطفال، تحتل اليمن مرتبة متقدمة عالمياً في عدد ضحايا الألغام. فقد تحولت الأراضي الزراعية والطرقات إلى حقول موت، تنتظر لحظة العبور لتخطف الأرواح أو تترك إعاقات دائمة. وتروي قصص الناجين معاناة مستمرة وتكشف عن جرح غائر لم يلتئم بعد.

تُشكل مخلفات الحرب غير المنفجرة تهديداً مستمراً في اليمن بوصفها شظايا مُميتة من تركة النزاعات. وماجد القباطي كان أحد الضحايا القليلين الذين تجاوزوا محنتهم وانتصروا عليها، بعد تعرضهم لإعاقة. فعند اندلاع أحداث حرب صيف 1994 في اليمن، كان ماجد في السابعة من عمره. لكنه لم يعرف أن تلك الحرب أرجأت له القدر الذي سيغير حياته رأساً على عقب. ففي يوم 11 تشرين الأول/أكتوبر 2006، انفجرت فيه ذخائر من مخلفات الحرب، متسببة بقطع يده واستئصال عينه اليسرى، وجروح متفرقة على جسده بسبب الشظايا.

يقول ماجد أنه كان يعمل في الأرض وعثر على ذخائر مضادة للطيران مدفونة في قريته بمديرية القبيطة التابعة لمحافظة لحج. لم يكن يدرك أنها قابلة للانفجار، لكن الأشياء حدثت بسرعة. شعر بأن حياته انسلخت ودخلت في طريق مسدود، وهو لا يزال في التاسعة عشر من عمره، بعد ان فقد عينه ويده، وتضرر بصره.

خضع ماجد لعمليات جراحية طويلة، بسبب الأضرار البالغة التي تعرض لها جسده. خلافاً للمعاناة النفسية العميقة التي أخذت منه زمناً أطول. بدأ يشعر بأنه لم يعد الشخص نفسه كما أن محيطه أيضاً تغير. ولولا الدعم النفسي الذي تلقاه من عائلته كانت حياته توقفت عند تلك اللحظة.

شجعه إخوانه على مواصلة الحياة رغم الإعاقة، لكن أكثر ما زرع فيه التحدي، كلمات أمه “أنت أقوى وستصل إلى ما تريده”. ومع انتقاله إلى صنعاء انضم إلى “جمعية الناجين من الألغام ومخلفات الحرب غير المنفجرة” في العام 2009، ومن خلال ورش العمل النفسية والتدريبية اكتشف مواهبه الكامنة في مجال الدعم المجتمعي. وفي 2010 حصل على وظيفة في “صندوق رعاية وتأهيل المعاقين” ليترقى إلى منصب مدير إدارة الخدمات والصيانة في الصندوق.

وهو يعمل اليوم مدرباً في مجال التوعية بمخاطر الألغام ضمن “جمعية الناجين من الألغام ومخلفات الحرب غير المنفجرة”، وأصبح أحد الخبراء في ذلك المجال. فبعد أن تخطى ماجد محنته مع الإعاقة بفضل الدعم المجتمعي الذي حصل عليه من محيطه، قرر أيضاً أن يُساهم في مجال الدعم النفسي للمعاقين مثله نتيجة لحروب اليمن أو مخلفاتها.

اللغم الذي سرق حياة دليلة

لكن نسبة كبيرة من ضحايا مخلفات الحرب ليسوا دائما قادرين على تخطي محنة الإعاقة لأسباب كثيرة منها ظروفهم الاجتماعية. فقد خسرت دليلة عبده أحمد كل شيء بعد أن فقدت ساقيها بانفجار لغم في العام 2017.

تسببت الحرب في اليمن بنزوح دليلة وعائلتها من قريتها في منطقة الشقب- جبل صبر إلى دمنة خدير، ضمن محافظة تعز. وقبل زواجها الموعود عادت إلى القرية لتُسلم على بقية أهلها، دون إدراك بأن القدر حاك لها فخاً مأساوياً. وفي الصباح الذي كان فيه موعد زواجها، في العاشرة على وجه التحديد، خرجت لجلب الماء وابنة عمها.

قالت دليلة انها بمجرد ان خطت عدة خطوات خارج منزل عمها، شعرت بجسدها يندفع للأعلى بانفجار مدوي. ففي الليلة التي سبقت صباح الحادثة زُرعت الألغام في محيط منازلهم ومحيط القرية. هرعت قريبتها لتنقذها لكنها أصيبت مثلها بلغم آخر. وفيما هرع أهل القرية مُقدمين على انقاذهما حذرتهم الفتاتان بأن المكان ممتلئ بالألغام. وتطلب الأمر تدخل مقاتلين من أبناء القرية لإخراجهما من المكان، واحتاج إيصالهما إلى المستشفى في تعز ثلاث ساعات، لسببين: وجود الألغام وحصار القناصة. ومن يومها هُجرت القرية عن بكرة أبيها لتصبح حاجزاً غير مسكون يفصل طرفي النزاع.

وبدلاً من أن تحتفل دليلة ذات العشرين عاما بليلة عُرسها رقدت في المستشفى. هي لم تخسر ساقيها فقط، بل كل ما له صلة بحياتها، إذ تخلى عنها الشخص الذي كانت ستتزوجه. تقول بألم “اللغم أخذ مني حاجات كثيرة..” وبصوت مرتعش استمرت “الآن أصبحت معوقة، تحطم شبابي وسُلبت فرحة قلبي. تخلى عني زوجي يوم عُرسي.”

أصبحت دليلة تشعر بالوحدة بسبب الإعاقة. وتقاطعت مأساتها الشخصية مع مأساة جماعية، فعائلتها خسرت مصدر رزقها المتمثل في أرض تملكها في القرية، كما فقدت منزلها الذي أصبح مفخخاً بالألغام.

 

تاريخ طويل مع الموت المدفون

وتُعد اليمن من بين أكثر الدول تضرراً بمخلفات الحرب غير المنفجرة، ويقدر الخبراء أن ما لا يقل عن مليون لُغم زُرعت (معظمها بشكل عشوائي) في اليمن منذ آذار/مارس 2015.

وبوجه عام، تظل مخلفات الحرب من الألغام والذخائر غير المنفجرة، تهديداً قاتلاً لسنوات طويلة. فبعد مرور ثلاث سنوات من الهدنة في اليمن، لا تزال تحصد ضحاياها من الأبرياء، خصوصاً المدنيين. وما يزيد الوضع تعقيداً رفض أطراف النزاع تزويد الجهات المختصة بخرائط للمناطق المُلغمة، بموجب اتفاقية حظر استعمال وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد والتي وقعت عليها اليمن في العام 1998.

ومنذ بداية الحرب بلغ عدد ضحايا الألغام والذخائر العنقودية 9600 ضحية، جُلهم من النساء والأطفال، وفقاً للمركز التنفيذي اليمني لمكافحة الألغام في صنعاء. وهي حصيلة تجعل اليمن من ضمن الدول الأعلى تسجيلا لضحايا الألغام الأرضية.

غير أن مشكلة اليمن مع الألغام والذخائر غير المنفجرة لا تعود إلى الحرب الحالية فقط، إنما إلى حروب عدة سابقة عانت منها اليمن. ففي الفترة ما بين عامي 2000 حتى 2014، بلغ عدد ضحايا الألغام 5500 يمني، بينهم 43 ضحية من العاملين في الفرق الهندسية لنزع الألغام.

وعرفت اليمن استخدام الألغام في حروب المناطق الوسطى في مطلع الثمانينيات من القرن الفائت حيث وصل اليمن ما لا يقل عن مليون لُغم في تلك الفترة بحسب تقارير صحافية. وخلافاً لما كان عليه الوضع منذ بدء استخدام الألغام في الثمانينيات، اعتمدت بعض أطراف النزاع في اليمن على ألغام مُصنعة محلياً، وتفننت في اخفائها بصورة تُحاكي البيئة المزروعة فيها.

خلال ما يزيد عن أربعة عقود عانت اليمن من الألغام والذخائر غير المتفجرة. لكن تلك المشكلة بلغت أقصى مداها بسبب الحرب الأخيرة، إما بسبب اتساع رقعة القتال في اليمن أو بسبب طول فترتها الزمنية.

 

تحديات إزالة الألغام: غياب الخرائط ونقص الموارد

وتحول مخلفات الحرب غير المنفجرة خصوصاً الألغام الأرضية، بين المدنيين والعودة إلى منازلهم، كما تُضر بالسلم الاجتماعي والاقتصادي على نطاق واسع. ولا تتسبب الألغام فقط بقتل وتشويه المدنيين، إنما أيضاً تمنع عنهم الوصول إلى مصادر حياتهم مثل المياه وأراضيهم الزراعية التي تشكل مورد رزق لكثير من الأسر المُتضررة، بخلاف قتل مواشيهم.

تُعد دليلة تجسيداً واضحاً لما تخلفه الألغام، إذ لا تُخفي بأن الموت كان سيريحها أكثر من هذه الحياة، بعد أن خسرت كل شيء. تسبب اللغم بإعاقة دائمة لها، كما خسرت عائلتها سُبل العيش. أما هي فقالت إنها تطيل التفكير بما جارته عليها الحياة.

ومن المتوقع أن لا تكون اليمن قادرة على التخلص من الألغام على المدى القريب. وحتى إن ساد السلام فهي تحتاج إلى سنوات عدة من أجل ذلك. لكن مع افتقار البلد إلى الموارد ربما يطول الأمر لعقود من الزمن.

غير أن هناك جهود تُبذل في ما يتعلق بإزالة الألغام، وتعمل جهات دولية مختلفة، مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وبعض المنظمات غير الحكومية الدولية المعنية بالعمل الإنساني في هذا المجال حاليًا. وتساعد هذه المساهمات في التقليل من مخاطر الكوارث، ودعم الضحايا، والعمل على التوعية بمخاطر مخلفات الحرب غير المنفجرة والألغام الأرضية وإزالتها. كما تساعد اللجنة الوطنية لمكافحة الألغام والمركز اليمني التنفيذي لمكافحة الألغام (ييماك) حتى يتمكنوا من التوعية بمخاطرها ومساعدة الناس على حماية أنفسهم ومجتمعاتهم.

وكان مستشار الأمم المتحدة لمكافحة الألغام قال بأن “اليمن يعاني من كارثة حقيقية مع الألغام والعبوات الناسفة ومخلفات الحرب” لافتاً إلى انه “يجب على الجميع الوقوف مع الشعب اليمني للتخلص منها وإعادة الحياة إلى كافة مناطق البلاد”. كما سبق لبعثة الأمم المتحدة أن دعت في العام 2022 لتسريع جهود إزالة الألغام في اليمن إلى جانب دعوات كثير من المنظمات الدولية وجهات الإغاثة، لما أصبحت تشكله الألغام ومخلفات الحرب غير المنفجرة من خطر على حياة المدنيين.

ويعاني معظم الناجين من مخلفات الحرب غير المُتفجرة من إعاقات دائمة، لكنهم يُتركون لمواجهة مصاعب الحياة دون رعاية أو ضمانات لحقوقهم. ويحتاج المعاقين بسبب الألغام والذخائر غير المتفجرة إلى عناية شاملة ومستدامة، حتى يصبح بإمكانهم العودة إلى ممارسة حياتهم بشكل طبيعي. وهذا ما لم يحصل عليه الناجون في اليمن، على غرار دليلة التي تشكو من صعوبة السير باستخدام أطرافها الاصطناعية الحالية، وبالحاجة إلى أطراف جديدة. كما يفتقر معظم الناجين لأي شكل من أشكال الرعاية أو الدعم النفسي. وهذا حق من حقوقهم، بسبب ما تعرضوا له. وتعاني هذه الشريحة، التي أعاقتها مخلفات الحروب، من أنها تبقى مهملة، في كافة المفاوضات بين أطراف النزاع، وغير مرئية من تلك الأطراف.

ويقول المتحدث الرسمي باسم اللجنة الدولية في اليمن، إسكندر سعيد، بأن “التلوث الهائل من مخلفات الحرب القابلة للانفجار، راكم تهديدات جمة، غالبًا ما تقيد الوصول إلى الأراضي الزراعية، والممتلكات الخاصة. خلافا إلى أنها تحد من قدرة المجتمعات على الوصول إلى الخدمات الأساسية، والطرق الرئيسة المؤدية إلى الأسواق. وتُعد تلك التهديدات تحديًا بالغًا، في بلد يعتمد معظم سكانه على الأنشطة الزراعية، كونها المصدر الرئيسي للدخل وإنتاج الغذاء لأكثر من 60 في المئة من السكان.”

بعض الحقائق والأرقام

– 458,800 متر مربع من الأراضي الملوثة بمخلفات الحرب المتفجرة في إحدى المحافظات طهَّرَها المركز اليمني التنفيذي للتعامل مع الألغام بدعم من اللجنة الدولية.

 – 9,834,258 مترًا مربعًا من الأراضي وسبع قرى مُسِحَت ميدانيًا، بهدف تحديد المناطق المُشتَبَه بتلوثها بالمواد الخطرة أو المؤكد تلوُّثها.

– 28,242 شخصًا استفادوا من جلسات التوعية بمخاطر الألغام التي نفَّذَتها جمعية الهلال الأحمر اليمني في أجزاء مختلفة من البلاد بدعم من اللجنة الدولية.

– 1,000 لوحة تحذيرية تُبُرِّعَ بها وثُبِّتَت في إحدى المحافظات، بهدف تحديد المناطق الملوثة بمخلفات الحرب المتفجرة.

– 200 موظف من الكوادر الميدانية العاملة في المركز اليمني التنفيذي للتعامل مع الألغام استفادوا من تبرع بالزي الموحد ومعدات خاصة بإزالة الألغام.

– 80 أسرة من منتسبي الجمعية اليمنية للناجين من الألغام استفادت من التبرع المقدم من اللجنة الدولية بمواد غذائية ومستلزمات النظافة الشخصية.

– 27 موظفًا من كادر المركز اليمني التنفيذي للتعامل مع الألغام شاركوا في دورات تدريبية لبناء القدرات، تناولت مواضيع مثل تقديم الرعاية الأولية ومسح مخلفات الحرب المتفجرة.

– 134 موظفًا من كادر المركز اليمني التنفيذي للتعامل مع الألغام في الحديدة شاركوا في دورات تدريبية تناولت مواضيع مثل إزالة الألغام، وتطهير الأراضي الملوثة، والتدريب الطبي.

– 300 جهاز طبي تُبرِّعَ به للكوادر الطبية العاملة في المركز اليمني التنفيذي للتعامل مع الألغام، بهدف دعم عمليات تطهير حقول الألغام. إضافةً إلى ذلك، 300 جهاز وضع الإشارات التحذيرية من الألغام تُبرّع بها لنازعي الألغام في المركز اليمني التنفيذي للتعامل مع الألغام.

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا