تكتب حميدة، اللاجئة السورية في الأردن، شهادتها عن الفقد بين مخيّمات اللجوء وذاكرة وطنٍ، فتصوغ حكايتها عن أخيها الذي غيّبته السجون لسنوات قبل أن يعود قبل سنة. لا تروي حميدة مجرد حدث شخصي ذو نهاية سعيدة، بل تمتدّ كلماتها لتكشف ما يعنيه الانتظار لأهالي المفقودين فتقدم بلغة أدبية وشعرية شهادة أمل وتشبّث بالحياة رغم كل الظروف.
لأكثر من عامين ونصف، لم أعرف أين هو. كان اسمه بين أسماء المفقودين، وصورته غائبة عن كل احتمالات الحياة.
في الأيام التي تلت أحداث الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، كان كل شيء في البلاد يضجّ بالوجع والانتظار. كنتُ أتابع كل يوم صفحات “فيس بوك” التي تنشر قوائم المفرج عنهم من سجون البلاد، أقرأ الأسماء بعيونٍ متوترة، كأنني أفتّش بين الحروف عن أثرٍ منه.
خلال سنوات غيابه الطويلة، عشت بين الأمل واللايقين، أشارك في جلسات الدعم النفسي والاجتماعي لذوي المفقودين. هناك، تعلّمت كيف أتنفس وسط الألم، وكيف يمكن للبوح أن يخفف ثقل الصمت.
طلبوا مني ذات يوم أن أستعيد ذكرياتي معه، أن أسمح للذاكرة أن تفتح نوافذها المغلقة منذ زمن.
تذكّرت كيف كنت أعلّمه القراءة والكتابة، وكيف كنت أخرج مساءً لأناديه ليعود إلى المنزل بطلبٍ من والدي رحمه الله.
كان الأصغر بيننا، مدلل العائلة، يحب الغنم، يركض خلف خروف صغير كان يرضعه الحليب بالقنينة كطفلٍ يحتضنه ويقبّله.
كان فناء بيتنا واسعًا، تظلله أشجار الرمان والخوخ، وتتفتح فيه دفلةٌ جميلة وردية الزهر مريرة الطعم، وبالقرب منها “بايكة” أبي، حيث التقطنا لهما صورة معًا — أبي وأخي.
تلك الذكريات كانت تبكيني وتشعرني بالأسى، وأحيانًا بالذنب نحوه، لولا جلسات الدعم التي علّمتني كيف أتصالح مع الحنين.
كنت أراه شجاعًا، دائمًا يقول لي: “أنا موجود، لا تحزني وأنا حّي.” وحين أتذكر ذلك، أشعر أن صوته لا يزال يتردد في قلبي.
في مساءٍ بارد بعد يومين من أحداث الثامن من كانون الأول/ديسمبر، ظهرت صورة لرجلٍ يضع قناع أوكسجين يغطي وجهه، ولا تُرى منه إلا عين واحدة. تلك العين التي عرفتُه منها رغم كل شيء.
تجمّدت أمام الشاشة، ثم همست: هو. عرفته من النظرة التي لا تشبه إلا هو.
بكيت كما لم أبكِ من قبل، وحلفت أنه أخي. اجتمعت بناتي حولي وبكين معي، كان البكاء يشبه الفرح، ويشبه الفقد، ويشبه النجاة في الوقت نفسه.
أرسلت الصورة إلى زوجته، ثم وصلني بعد دقائق صوتٌ منه عبر هاتفها. صوته كان ثقيلاً كالموت، هشًّا كالنجاة، قال بهدوءٍ غريب: “لا أريد أن أتحدث مع أحد.”
أرسلت التسجيل إلى إخوتي، واتصلت بأمي. في البداية ظنّت أنني أمزح، لم تصدّق. صوتها المرتبك بين الرجاء والدهشة ما زال يسكنني.
بعدها لم يحتمل جسدي ما احتملته روحي. سقطتُ لأسبوعٍ كامل. كنت أتناول المسكنات وأقاوم، أظن أنني أستطيع الاحتمال كما فعلت في غيابه، لكن الحدث كان أكبر من احتمالي.
كأن كل ما كتمته لعامين ونصف خرج دفعة واحدة. كانت الصدمة بصراحة أكبر من الفرح، كانت الأخبار على مستوى العالم، كان جرح وطنٍ بأكمله، جرحًا للإنسانية جمعاء.
عندما عاد أخي لم أستطع احتضانه. لم أضع يدي على كتفه كما كنت أفعل حين كان صغيرًا.
ولم أمسح على شعره لأطمئن أن الحرب لم تنتزع ملامحه.
رأيته من خلف الشاشة، بيني وبينه زجاج وحدود ومدن عدّة وصوت متقطّع. كنتُ أريد أن أمد يدي لأصل إليه، لكن الصورة كانت جدارًا آخر للفقد، جدارًا شفافًا لا يُكسر.
لم أدرِ أكنتُ أبكيه أم أُحييّه، كل ما فيَّ كان يرتجف: الشوق، الارتياح، والوجع المؤجل لعامين ونصف.
كنتُ أبتسم وأنا أختنق، أقول له بقلبي: “عدتَ… لكن شيئًا فينا لم يعد كما كان.”
اليوم، بعد عشر سنوات من الفراق وسنتين ونصف من الفقدان، مددتُ يدي لا عبر الشاشة، بل نحو الحياة التي توقفت هناك.
رأيته أمامي، لا بعين الذاكرة، بل بعين القلب. تقدمنا خطوة، ثم أخرى، واحتضنا بعضنا وكأن كل واحدٍ فينا وجد نفسه في الآخر. لم نتكلم، كانت الدموع من تتحدث.
ذلك العناق وحده كان يكفي ليغسل كل السنوات العالقة بالوجع.
كان اللقاء شفاءً لا يمحو الألم، بل يجعله يزهر في القلب كعرفانٍ بالحياة بعد كل موتٍ صغير.
عدنا… لا كما كنا، بل كما صبرنا.
واليوم، كمرافقةٍ لذوي المفقودين، ومنذ أن عرفتُ طريق الفقد وآليّات الصمود، أكتبُ لمن لا يزالون يبحثون، ولأولئك الذين لم يعودوا.
لهم أهدي كلماتي نثرًا، وومضةً، وقصّةً، وخاطرةً وأهدي لهم هذه القصيدة…
“شموع الغائبين”
أَيَّا شُموعَ الغائِبِينَ هل مِنْ أَمَلٍ
يُحَرِّرُ قَيْدَ الانتظارِ في خَبَرٍ،
في مَراسِمِ دَفْنٍ،
أَوْ مَواسِمِ حُزْنٍ؟
مِنْ فيضِ شَوْقٍ
كَالجَمْرِ تَحْتَ رَمادِ
الصَّبْرِ يَسْتَعِرُ،
مِنْ فيضِ دَمْعٍ
عَلَى مَن غابُوا،
وَمَن رَحَلُوا…
أَيَّا شُموعَ الغائِبِينَ أضيئي
في قُلُوبِ مَن أنهكها الفقد،
وَاصرخي في ضَجِيجِ الكَوْنِ
بِصَمْتٍ…
كَيْفَ النُّورُ في العَتَمَةِ يَكْتَمِلُ،
وكَيْفَ نَرَى اللَّهَ
حِينَ الأَضْدَادُ تَنْسَجِمُ…
آه يا مَن غابُوا وَمَن رَحَلُوا،
هَلْ لِلأَشْجانِ مُرْتَحَلٌ؟



تعليقات