في الثامن من أيار/مايو من كل عام، يحتفل العالم باليوم العالمي للصليب الأحمر والهلال الأحمر، تكريماً للعمل الذي تقدمه هذه الحركة الإنسانية حول العالم، وإحياءً لذكرى مؤسس الحركة هنري دونان الذي ولد في مثل هذا اليوم. ويأتي هذا الاحتفال السنوي ليذكرنا بقوة العمل الإنساني وقدرته على مد يد العون للمحتاجين في أشد لحظات ضعفهم.
ولعل أبلغ تعبير عن هذه القوة يتجلى في قصص المتطوعين أنفسهم، أولئك الذين يشكلون أساس عمل هذه الحركة، والذين وهبوا وقتهم وجهدهم لخدمة الآخرين، خاصة عندما يكونون هم أنفسهم في أمس الحاجة للمساعدة. ومن بين آلاف المتطوعين الذين ينتشرون في أرجاء العالم، تبرز قصة هزيج محمد علي، الطبيبة السودانية التي حولت محنة نزوحها من بلدها إلى منحة للعطاء في صفوف الهلال الأحمر المصري. تجسد قصتها جوهر الرسالة الإنسانية للحركة الدولية وكيف يمكن لجمعياتها الوطنية أن تكون ملاذاً للاجئين والنازحين، ليس فقط لتلقي المساعدة، بل أيضاً للمشاركة في تقديمها.
من قلب الأزمات تولد قصص إنسانية ملهمة، وقصة هزيج محمد علي واحدة منها. لم تتخيل هزيج أن رحلتها إلى القاهرة عام 2023 لأداء امتحان ستتحول إلى مستقر إجباري بنهاية غير منظورة. فالطبيبة السودانية المتخصصة في التوليد، وجدت نفسها عالقة في مصر مع والدتها عندما اندلع الصراع في وطنها، مما أدى إلى انفصالهما عن عائلتها في الخرطوم، لتبدأ في مصر رحلة لم تكن مستعدة لها. لكنها استطاعت أن تحول محنتها إلى فرصة للعطاء من خلال التطوع مع الهلال الأحمر المصري.
البداية غير المتوقعة
بصوتها الخفيض الرخيم قصت هزيج حكايتها والتي تبدو في البداية حكاية أخرى من حكايات ألم النزوح غير أنها تتكشف شيئًا فشيئًا عن تجربة ملهمة ينبغي روايتها. فأن تجد نفسك لاجئاً في بلد غريب ليس بالأمر الذي يمكن لأي أحد أن يتهيأ له، وهزيج لم تكن مستعدة لهذا التغيير في حياتها الذي وقع فجأة. فالفتاة السودانية الخمرية وصلت إلى مصر في العام 2023 قبل اندلاع الحرب في السودان بهدف أداء امتحان الزمالة البريطانية. وكطبيبة متخصصة في أمراض النساء والتوليد، أنهت دراستها وتعمل في قسم الولادة بمستشفى الشرطة في الخرطوم، كانت خطتها العودة إلى بلدها بعد الانتهاء من الامتحانات. لكن الظروف كان لها رأي آخر. فمع اندلاع النزاع في السودان وجدت نفسها في بلد جديد دون الكثير من أوراقها الرسمية. “لم أكن مهيئة أبداً، كنت محاصرة في قوقعة من العجز والاكتئاب. لم أستطع فعل أي شيء سوى الدعاء”، تعترف هزيج. وزادت مشاكل الأوراق الرسمية من تعقيد وضعها، مما منعها من توثيق مؤهلاتها الطبية في مصر.
في الوقت نفسه كانت هزيج تشعر برغبة عارمة في مساعدة أهل بلدها: “كنت أرغب في عمل أي شيء للمساعدة، ولكنني لم أكن أعرف كيف ذلك.” وإذ بالهلال الأحمر المصري يتحول إلى جزء أساسي في حياتها، فقد لفتت انتباهها جهوده في مساعدة السودانيين الآتين إلى مصر عبر الحدود ومن ثم الفلسطينيين في غزة والآتين منها. وبمساعدة من متطوعة في الهلال الأحمر المصري، تعرفت هزيج على عالم جديد وما لبثت أن تطوعت في مركز تعبئة المساعدات لغزة، وكانت تلك بداية رحلة عطاء جديدة: “عندما حصلت أزمة غزة، تمكنت من مساعدة أهل بلد ثاني، هم بالنسبة لي أيضا أهلي وإخواني”.
يد تتلقى المساعدة ويد تقدمها
بالرغم من أن عائلتها كانت لا تزال تعاني من آثار الحرب في السودان، فبعض أفرادها ظللوا عالقين هناك فيما جزء آخر تمكن من الوصول إلى مصر، إلا أن هزيج وجدت في التطوع فرصة لتغير ظروفها والشعور بقيمة قدرتها على المساعدة. تقول: “أتاح لي الهلال الأحمر فرصة لأكتشف أوجه الطاقة التي أحملها في داخلي وأستغلها، فأخرجني من قوقعة اليأس والعدم التي كنت قد دخلتها منذ أن قامت الحرب في بلدي”.
لم تكتفِ هزيج بالتطوع في مركز تعبئة المساعدات، بل تقول إنها “انصهرت” في كل فرق الهلال الأحمر ومشاريعه: “عملت مع الفريق الطبي بحكم تخصصي، وشاركت في القوافل الطبية التي تقدم خدمات للفلسطينيين واللاجئين… وكنا نعمل على تقييم احتياجاتهم الطبية العاجلة ثم نبدأ باتخاذ الإجراءات المناسبة من توفير رعاية طبية أو أدوية.” كما عملت في فريق الزيارات، فساعدت السودانيين وكل الجنسيات الأخرى التي دعمها الهلال الأحمر. ومع الوقت تطورت مسؤولياتها من متطوعة عادية إلى مسؤولة عن تنسيق عمل المتطوعين في فريق الزيارات والتنظيم، حيث كانت تساعد في استقبال المتبرعين وتنظيم الزيارات داخل وخارج مبنى الهلال.
درس في التأقلم والصبر
تتحدث هزيج بكثير من الامتنان عن الدروس التي تعلمتها من التطوع والتي ساعدتها على إعادة اكشاف مهنتها: “التطوع أعاد تأكيد أن الطب ليست مجرد مهنة، بل رسالة حقيقية… علمني كيف تعطي للآخرين وتدعمهم في وقت أنت نفسك بحاجة لمن يعطيك ويدعمك،” وتضيف: “التطوع أيضا علمني أمرًا مهما جدًا وهو أنك مهما كنت في حال صعبة، أو منهار، ينبغي أن تبقى قادراً على طمأنة من حولك…وأحيانًا تكفي كلمة طيبة أو ابتسامة منك لتحقيق ذلك”. وتحكي هزيج عن تأثرها بحالات إنسانية كثيرة، منها حالة سيدة فلسطينية مصابة بالسرطان ومشاكل في القلب: “كلما دخلت عليها وجدتها مبتسمة جدًا وراضية بالرغم من كل شيء، ولديها قوة عجيبة لمواجهة ما تعانيه تنشرها على من حولها.” ولعل كون هزيج نفسها لاجئة يجعلها أكثر إحساسًا بالآخرين تقول: “أشعر بقوة بالشخص المقابل لي… لأنني مررت بالظروف نفسها وأفهم جيدًا ما يعانيه أو يحتاجه من دون أن يتكلم أحيانًا.”
مثلت تجربة التطوع في الهلال الأحمر المصري نقطة تحول محورية في حياة هزيج، حيث أثرت بعمق على رؤيتها للحياة والمستقبل بطرق عدة. وتعكس قصتها كيف يمكن للعمل التطوعي أن يتحول إلى طريق للتعافي الشخصي وفرصة لقلب المعاناة إلى طاقة إيجابية تساعد الآخرين، وبناء جسور التضامن بين الناس من خلفيات وثقافات مختلفة، باتحادهم على هدف واحد: مساعدة الآخرين. فقبل تجربة التطوع، كانت حياة هزيج محصورة في نطاق ضيق: “كانت حياتي تتلخص بين البيت والجامعة، وبعدما تخرجت بين المستشفى والبيت”. لكن التطوع فتح أمامها آفاقاً جديدة كما تؤكد: “جعل رؤيتي للعالم وللعمل الإنساني أوسع. وعزز شعوري بالمسؤولية تجاه المجتمع.”
ولعل أكثر ما كانت تردده هزيج خلال حديثنا هو الامتنان للهلال الأحمر المصري ولزملائها المتطوعين وما قدمته هذه التجربة لها: “أنا محظوظة بمتطوعين زملاء رائعين ولطيفين سواء المصريين، أو الفلسطينيين، أو السودانيين… الهلال الأحمر أصبح بالنسبة لي بيت ثان.” بالرغم أنها جاءت كلاجئة سودانية، إلا أن تجربة التطوع وسعت مفهوم الانتماء لديها: “ما لم أستطع تقديمه لأهلي قدمته في مكان ثاني… للأشقاء الفلسطينيين الذين هم أيضا إخواني”.
هذا التوسع في مفهوم الانتماء أعطاها هدفاً جديداً، وعزز قدرتها على التواصل مع ثقافات مختلفة: “أصبحت مندمجة في كل المجتمعات ومع شخصيات وثقافات مختلفة مما أزال أي شعور بالغربة لدي.”
وبالنظر إلى المستقبل، يبدو أن تجربة التطوع قد فتحت أمام هزيج مسارات جديدة محتملة. ففي حين كانت خططها المستقبلية قبل الأزمة محصورة في الزمالة البريطانية والمسار المهني الطبي التقليدي، أصبحت الآن تقدّر أهمية العمل الإنساني وتعتبره جزءاً لا يتجزأ من هويتها المهنية. كما أنها أصبحت ملهمة للآخرين وداعية للتطوع، حتى بين أفراد عائلتها.
استطاعت هزيج تحويل أزمة نزوحها من السودان إلى فرصة للنمو والعطاء. وبدلاً من الاستسلام للظروف القاسية، اختارت أن تستثمر وقتها وطاقتها في مساعدة الآخرين، لتؤكد بأن الصعوبات ليست نهاية المطاف، بل يمكن تحويلها إلى بدايات جديدة.
تختصر هزيج تأثير التطوع على حياتها بقولها: “التطوع سيغير من شخصيتك ويعلمك أن العمل الإنساني لا يعرف حدود … بل يعلمك معنى أن تكون إنسان”. وفي عالم يعاني من النزاعات والانقسامات، تُذكّرنا تجربة هزيج بأن العمل الإنساني والتطوعي يبقى جسراً يربط بين البشر ويعيد تذكيرنا بإنسانيتنا المشتركة.
تعليقات