الإنسانية في الأدب الفارسي

أرشيف المجلة / العدد 27 / ثقافة
إعداد: حميد محلاتي

الإنسانية في الأدب الفارسي

لا شك أن أكثر الملكات الأخلاقية قد تقوت في عصرنا هذا إثر تقدم العلوم والسرعة وسهولة الاتصال بين شعوب العالم والمساعدات الدولية في مجال الشؤون الثقافية والصحية والدبلوماسية والتي هي عزيزة ومحمودة. فبغض النظر عن شوائب الأغراض النفعية السياسية، كثيرًا ما يحدث أن نرى أثر تعاضد الشعوب المختلفة في مصير وأحداث الحياة الاجتماعية والسياسية للشعوب الأخرى. وهنا لا بد أن نقبل أن هذه العواطف والصداقة ناشئة إلى حد كبير من قابلية الاتصال بين شعوب العالم والاعتقاد بوجوب التعاون الدولي ونشر أفكار حب البشرية في العالم.

فهل نجح مجتمع القرن العشرين في الاستفادة من أصول الثقافة العالمية المشتركة، لإيجاد المعايير الأخلاقية الدولية التي كرست هذه الثقافة كل رجائها وجهدها عليها؟

لقد تأكد تقريبًا أن العالم المتطور اليوم لم ينجح في سبيل نشر الحضارة والإنسانية نجاحه في مجال المنجزات العلمية والصناعية وما زالت هذه المعضلة من العراقيل التي تقابلها البشرية في مسارها من أجل التعايش. ومما لا شك فيه أن السبيل الوحيد لزعامة شعوب العالم على طريق الإنسانية والمساعدة يكمن في التفاهم وزرع المحبة بين الشعوب وذلك عن طريق التربية والثقافة الصحيحة. وتعديل الثقافة والتربية يجب أن يتضمن تغيير أساليب تفكير الشعوب وتقاربهم إلى الغيرية وحب الآخرين والمحبة والإنسانية.

لو أردنا تحقيق هذه الأمنية كما كان يفكر أفلاطون في مدينته الفاضلة فلا سبيل لنا إلا عن طريق وضع أساس الثقافة والتربية الصحيحة كما يجب أن نقول بأن العلوم الإنسانية وخاصة الأدب هي أفضل ما يتجلى من الأفكار البشرية السامية. وتكمن كفاءة لغة الشعر والأدب في كونها تستطيع التسلل للقلوب والأذهان بشكل تتأثر به خصالنا وفطرتنا. ألا يحدث لنا ذلك عندما نطالع شاهنامة الفردوسي أن نحس بالشجاعة وعندما نتسار مع غزليات حافظ أن نرى الكون والمكان من خلال تفكيره العميق كأنهما لا شيء لنصل إلى نتيجة مؤداها أن حروب الشعوب ناشئة من عدم معرفة الحقيقة؟

إن مرآة الشعر والأدب هي انعكاس لتجلي الأحاسيس والعواطف البشرية. ولو اعتبرنا عمل الشاعر هو نقل تصاويره الذهنية وعواطفه للآخرين لخلصنا إلى القول بأن الشعر هو لسان القلب. ولا شك أن أنسب مضمون ومفهوم لهذه اللغة هو حالاتنا وتفاعلاتنا النفسية وعواطفنا.

رافد غني للتسامح البشري

والأدب الفارسي غني جدًا في هذا المضمار، فنحن نرى أنبل الأحاسيس البشرية والعواطف الإنسانية تتجلى من خلال سطورها التي تعصى على الحصر. فعلى سبيل المثال حول موضوع الخلافات والحروب والمجادلات التي تواجهها البشرية اليوم، قليلون في العالم من تكلموا برقة وسلاسة وبساطة وفاعلية العارفين والمتصوفين الفرس. إن عارفينا العلماء يعارضون أي حرب تعصبية كما تدعو آثارهم البشر إلى التسامح والتضحية والمحبة والمروءة فكانوا يدعون لهذه المفاهيم في أزمنة كان الظاهرانية واختلاف الرأي والصراعات الدينية والسياسية والتعصب والبطش والظلم فيها أسبابًا لسفك الدماء الغزيرة. وعندما كانوا يرون ويسمعون بأن المتعصبين الدينيين قد قتلوا سكان محلة وأحرقوا بيوتهم بفعل العجرفة والتسلط والأحقاد، كانوا ينشدون في عرفانية ويقولون: إن الطرق إلى الله متعددة بعدد أنفس الخلائق. ونحن نرى كيف يتجلى هذا الفكر في الشعر المعروف للأصفهاني الذي كان يسمع من ثنايا حديث السكان المخمورين في دير مغان وفي ناقوس الكنيسة وأيضًا في محلة الخمّارين في نهاية غشيته وإغمائه هاتفًا ينشد:

يوجد واحد ليس غيره شيء

وحده لا إله إلا هو

وتتفتح من بساتين تفكير عمالقة كحافظ مثل هذه الأقوال العميقة والرفيعة ضد تعصب الجهلاء والسفلة الذين كما يشبههم الخيام بأنهم ليس لهم مخرج للنور من هذه الظلمات، ليجيب حافظ قائلًا: “لا يوجد رأس ليس فيه سر من الله تعالى” وهكذا يعطي درسًا في الإنسانية والعبودية وينظر إل العالم نظرة فلسفية:

هذا كله ليس ناتجًا لمصنع الكون والمكان

فقدم الشراب لأن هذه ليست أدوات العالم كلها

وفي الوقت الذي أصبحت القيم البشرية لا قيمة لها فيه، وأصبح الظلم والسفك والدكتاتورية أسلوب الأقوياء وأكثر الحكومات، شرع العارفون بالنظر إلى أساس الشريعة ونقد حب الذات والمادية، ونشر الحب والمحبة في تعليم الناس طريق “وحدة الوجود”. وعندما حلت تظاهرات المرائين محل حقيقة الإسلام وصار الحكام يعملون كالمحتسبين ويشهرون السيوف بدكتاتوريتهم في لعن وتكفير وقتل معارضيهم، كان العارفون هم الذين قاموا بشجاعة بإنذار الناس بالبعد عن الظاهرانية والسطحية والتعصب وقالوا بصراحة: إن إطاعة الخالق في خدمة خلقه:

أيها القوم الذين تحجون أينكم أينكم

المعشوق هنا تعالوا تعالوا

المعشوق هو جارك ويجاورك

وأنتم ولهانون في البادية فعم تبحثون

وها هو السعدي ينشد في آذان المستبدين أنكم لو حصلتم على كل أراضي العالم وسرقتم تاج الجبابرة من السماء وحصلتم كنوز قارون وممتلكات جم فكلها “لا يساوي إيلام قلب“. وها هو حافظ يقول: “كل مكان هو مأوى للحب، إن كان مسجدًا أو كنيسة“.

ولا شك أن جماع أقوال العارفين الفرس، الزاخرة بالمعنى والمليئة بحب البشرية، لها من الأثر في وجدان قرائها ما يفوق بكثير بعض الأوامر والكتب الأخلاقية إذا ما قصدنا تصفية نفوس البشر وإرشادهم إلى الإنسانية.

العالمية والعمق الفلسفي

إن الأدب الإيراني الضارب بجذوره لما يزيد على الألف عام، مع كل تنوعه واختلاف مواضيعه إضافة لظرف تعبيره وسعة ذوقه، يشمل خواص وميزات يمكن المباهاة والفخر بها وهي إنسانيته وعالميته وعمقه الفلسفي والأخلاقي. فمن الرودكي وحتى حافظ، يتجلى إعلاء الإنسانية، وتجنب التعصب القومي والعنصرية والمذهبية، مع الترغيب في الحرية والفتوة، وتقبيح الأخلاق البهيمية والحيوانية، إضافة لرفض الظلم والجور في أشعارهم الفارسية. وقد عمل شعراء كالفردوسي، والنظامي، والسعدي، والسنائي، والعطار، والمولوي، والخاقاني، والناصر خسرو على مدح الفضائل الإنسانية وقاموا بتعليمها وتدريسها.

طريق الإنسانية

وعندما ننظر إلى الأدب الفارسي نرى السعدي كيف يبين بشهامة طريق الإنسانية لجبابرة زمانه:

منازل في هذا البيت الخاوي

والآن فرصتك يا ملك، أقم العدل

وكان يقول لهم:

ارحم رعاياك الضعفاء كي لا ترى عنتًا من أعدائك الأقوياء لو لم تعدل فسيكون هناك يوم للعدل“.

وهناك الكثير من هذه الأقوال وكلها تذكارية ومثالية. فكما يعبر السعدي عن الحياة الأبدية في عمل الخير يعلمنا من فحوى دعاء دعاه الحكيم علي كيقباد قائلًا:

لا يموت بتاتًا من كان اسمه مقرون بالخير

فالميت هو من لا يذكر اسمه مقرونًا بالخير

وفي مكان آخر يعد الفتوة واللطف والفضل والإحسان أساس الإنسانية وفي غيرها لا يرى فرقًا بين الإنسان ونقوش الجدار وفي كل مكان يذكرنا بمحبة المرؤوسين والمحتاجين. وكان حبه للبشرية ومشاركته في آلام ومسرات الآخرين فنراه في حريق بغداد وسنوات القحط في دمشق والمجاعة في زمن ابن عبد العزيز يدفع الناس إلى التكافل والأخوة والمحبة. وتتألق روح حب البشرية عند السعدي في هذه الأشعار التي أنشد فيها المحبة للأيتام كجواهر ساطعة.

انشر ظلّك على رأس من مات أبوه

انفض عنه الغبار واخلع عنه الشوك

لو رأيت أمامك يتيمًا خافضًا رأسه

فلا تقبّل وجه طفلك أمامه

امسح دموع عينيه برحمة

وامسح التراب عن وجهه بالشفقة

قم أنت بتربيته تحت ظلك

خلع أحد شوكة من أقدام يتيم

فرأى في منامه أنه في جنة خضراء

يردد وهو سائر في بساتينها

كم من أزهار نبتت لي من تلك الشوكة

ولو شئنا ذكر المزيد من الأقوال المحبة للبشرية للسعدي، فلن يتسع المقام هنا، ومن الطبيعي أن يتأثر الشعب الذي يتعامل مع هذه الأفكار، من هذه الروافد الزاخرة بالمعنى التي نسج الشعر والنثر الفارسي منها حبه للبشر والإنسانية. فلو صدق القول بأن الشعوب تأثرت عام 1862م بفضل نشر كتاب “كوخ العم توم” من تأليف هريت بيتشر استو واكتسب هذا العام أهمية خاصة في نشر العواطف البشرية، فإنه يمكن القول إن الأدب الفارسي مع شموله على هذا الرأسمال الغني من المعاني الإنسانية الرفيعة قد شهد ولمرات تصعب على الحصر مثل تلك اللحظات الحساسة من التاريخ المعنوي والفكري للبشر.

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا