كثيرًا ما عبر نقادٌ وباحثون وأفراد من الجمهور العام عن ضيقهم ونفاد صبرهم تجاه تغطية التيار الإعلامي السائد للأخبار التي تتناول ضحايا الحروب والكوارث وحالات الطوارئ الإنسانية الأخرى.

البعض يقول إن التغطية الإخبارية غالبًا ما تتعامل مع هؤلاء الضحايا باعتبارهم مجرد أرقام. وكلما زاد عدد الضحايا وتقديرات الخسائر، ارتفعت «قيمة» الخبر واحتل أولويته في تصدر العناوين.

وهذا نقد وجيه ولا شك، إلا أنه نقد انتقائي ينصب تركيزه على جزء واحد وحيد من الصورة. هذه الانتقائية قد تعمي أبصارنا عن حقيقة أن هناك من يتجاوز صخب إحصاء الأرقام ويحاول أن ينتج محتوًى إنسانيًّا جاذبًا. ومعنى «الأنسنة» هنا هو إضفاء الطابع الإنساني على المحتوى المقدم، أي إعطاء الفرصة للأفراد المتضررين من الحروب والعنف والكوارث كي يسردوا قصصهم ويحكوا تجاربهم ويعبروا عن آلامهم وتوقعاتهم وأحلامهم بأصواتهم.

ومن خلال نقل هذه التجارب، بسرد قصصي جاذب ومنح الضحايا مساحة للكلام، سواء بالكتابة أو بالصورة أو بالتعليق الصوتي أو بالشكل البياني أو بغيره من أشكال إنتاج وعرض المحتوى، تُبنى علاقة تفاعلية قوية وراسخة مع الجمهور تتعدى لغة الأرقام إلى التواصل الإنساني بين سارد القصة ومشاهدها أو قارئها. بكلمات أخرى، فالصحافة الأكثر تأثيرًا، هي تلك التي تنتج محتوى سرد قصصي جاذب وتقدم نماذج بشرية ملهمة.

هذا أمر أدركته غرف صناعة وصياغة الأخبار وإنتاج المحتوى في القنوات الفضائية أو المواقع الإلكترونية أو الإصدارات المطبوعة التي تناضل من أجل البقاء أو وسائل التواصل الاجتماعي. ففي الفضاء الإعلامي الواسع، هناك إعلاميون وصحافيون ومنتجو محتوى يضعون الأفراد في قلب التغطية، يرصدون أحوالهم، ويصغون بانتباه إلى رواياتهم، يوثقون معاناتهم، وفي كل هذا يحيطون عملهم بسياج أخلاقي متين، يحفظ للناس كرامتهم، ولا يقلل من احترامهم.

في هذا العدد الجديد من «الإنساني» الذي يصدر على أبواب الاحتفال بمرور ربع قرن على تأسيس المجلة (صدر العدد الأول في كانون الأول/ ديسمبر 1998)، نحاول تسليط الضوء على تحديات أنسنة صالات الأخبار والبحث عن أخلاقيات التغطية الصحافية، والمشاركة في النقاش المستمر حول واقع الإعلام في عالم اليوم، والأدوار التي يضطلع بها، لا سيما في مناطق تستعر بالنزاعات المسلحة وتتفاقم فيها الأزمات.

ثمة مشاركات قيمة في هذا العدد الذي يحمل الرقم 70، منها شهادات واستعراض تجارب وخبرات لإعلاميين وصحافيين ومنتجي محتوى، لهم مكان ومكانة في فنون صناعة الخبر والتحليل وسرد قصص الضحايا من مناطق منكوبة بالنزاعات. فنقرأ تجربة الإعلامية ميسون عزام لتغطية «تؤنسن الخبر»، فتصبح القصص في طياته وأسماء أبطالها/ضحاياها هي العنوان الرئيس. وفي العدد شهادة وتحليل معمق للصحافية المصرية رشا قنديل عن التغطيات الخبرية في ظل التحولات الكبرى التي طرأت على واقع النزاعات المسلحة في العالم.

وفيما بين هاتين الشهادتين، نستطلع آراء وخبرات وتجارب في توظيف الإعلام الاجتماعي للدفاع عن قضايا ملحة. فهذا هو المصور السوري صلاح مرعشي يقدم تجربته في التوثيق الفوتوغرافي لعمارة وآثار وأحياء مدينته الخالدة حلب، خاصة وهي تقاوم آثار الحرب. ومن العراق تشاركنا الناشطة آية القيسي تجربتها الملهمة في تجاوز محنة الإصابة والاستفادة من منصات التواصل الاجتماعي بجعلها ساحة للدفاع عن حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة في بلدها.

أفردنا كذلك بين دفتي هذا العدد صفحات لمناقشة التحديات الملحة في مسيرة العمل الإنساني اليوم. فنطالع في شهادة فيونا تيري، الخبيرة في القانون الدولي الإنساني، ومن واقع تجارب عاشتها بنفسها، رحلتها الشاقة والشائقة التي ترصد فيها ملابسات تحولها من التشكيك في جدوى الحياد في العمل الإنساني، إلى اليقين الصادق بالغرض والمنافع المتحققة من التمسك بهذا المبدأ زمن الحرب.

وفي مقال آخر، تناقش رشا محمود، المترجمة في اللجنة الدولية، معضلة الترجمة في إطار الاستجابة الإنسانية والدور الحاسم للمترجم «المخلص» في تحديد احتياجات السكان المتضررين والاستجابة لها. واستمرارًا لاهتمام «الإنساني» الأصيل والقديم في إنتاج محتوى يؤصل للقانون الدولي الإنساني في الحضارات والثقافات والديانات المختلفة، تقدم لنا الفنانة أناستازيا إلسيفا عملًا بصريًّا رائعًا ينقب عن التقاليد الأفريقية في الحروب وأوجه الشبه بينها وبين القانون الدولي الإنساني.

وأخيرًا وليس آخرًا، نقرأ في هذا العدد حوارًا بين كاتبتين عربيتين من جيلين مختلفين، من العراق واليمن، هما بثينة الناصري وصفا ناصر، أنهكت الحرب بلديهما، لكنهما تحاولان ما وسعتهما المحاولة تجاوز هذا الواقع بالكتابة وسرد القصص.

نُشرت هذه الافتتاحية في العدد 70 من مجلة «الإنساني».

للاطلاع على محتويات العدد، انقر هنا. للاطلاع على العدد كاملًا، انقر هنا