مزيج الفوتوغرافيا والسوشيال ميديا في حلب: لقطات صلاح مرعشي توثق ذاكرة مدينة عمرها بعمر الحياة

العدد 70

مزيج الفوتوغرافيا والسوشيال ميديا في حلب: لقطات صلاح مرعشي توثق ذاكرة مدينة عمرها بعمر الحياة

الصورة لـ صلاح مرعشي

باحث عن الماضي في خضم الحاضر، وعن الجمال في رحم الدمار. هذا ما ستقرأه في أعمال صلاح مرعشي، المصور الفوتوغرافي السوري الذي اقترن اسمه باسم حلب الشهباء. فهو ينتمي إليها، ويكرس عمله لها، أو كما يقول: «من لديه حاضرة كحلب ويبحث عن غيرها ليؤرخها بصريًّا؟ أعتقد لا أحد».

بدأت رحلة عدسة المصور الفوتوغرافي السوري صلاح مرعشي منذ أكثر من خمسةَ عشرَ عامًا [أي قبل الأزمة الطاحنة التي عصفت بسورية وبمدينته الأم حلب]. استهوته العمارة الداخلية لبيوت حلب في أحيائها المختلفة.

وعندما أوكلت له مهمة إنتاج المواد البصرية لأحد الكتب المعمارية، التي تطلبت توثيق عدة بنايات في المدينة القديمة، انتقل صلاح من تصوير جماليات المنازل إلى تجربة ملهمة تمثلت في التوثيق البصري لحاضرة كاملة من السحر والبهاء. عندها اكتشف كنزه الحقيقي ومسح بيده على لؤلؤه المنضود.

كانت هنا البداية الحقيقية، بداية قصة حب من الطراز الرفيع، فلكل حي رواية وفي كل خان حكاية ولكل مبتغى درب. وكل دروب الحب توصل إلى حلب.

كان هذا قبل أن تحط الحرب الطاحنة رحالها في سورية. بدأ صلاح بالتعرف إلى الشهباء من خلال كاميرته، ليس فقط بعين المحب وإنما أيضًا بعين فنان تبحث عن التميز وتحاول رؤية الجمال في أدق التفاصيل. ومن هناك قرر أن يُرِي العالم ما رآه، فمن المهم أن يساهم كلٌّ من منبره بنشر الجمال من منظوره ورؤيته الخاصة. فنُشرت أولى صوره في المجلات المطبوعة المشهورة وقتها، وأخذ صيته يذيع في مجال التصوير الفوتوغرافي المعماري.

ما إن باشر المصور ابن حلب بإنشاء أرشيفه الخاص بالمدينة القديمة مقسمًا إياه إلى الشوارع والأحياء والأسواق والخانات، واضعًا خطة سير تضمن ألا يفوته مَعلَم أو تفصيل وألا يلقي نظره على مكان إلا وكان لعدسته نصيبٌ منه. وهذا ما حدث، لكن سرعان ما باغتت الحرب هذه الخطة. اندلعت الحرب فجأة واقتلعت البشر والحجر ومعها اقتلعت الأحلام والآمال. أصابت بندوبها ذاكرة مدينة عمرها بعمر الحياة.

الشهباء تحت الحرب

مرت سنوات النزاع على أهالي المدينة ومحبيها كما المرور من عنق الزجاجة، كان لا بد لنا أن ننتظر النهاية. استغل صلاح هذا الوقت ببناء معرفة وكسب وتشارك خبرات تقنية في عالم التصوير، ومع تطور العصر وسيادة مواقع التواصل الاجتماعي التي شكلت ملتقى مهمًّا للمصور ليبني ذاكرة بصرية متجددة ويكتسب مهارات تقنية متقدمة على كافة الأصعدة.

يقول: «لا أعلم كيف مر الوقت، كل ما أعرفه أن الأصوات مرت، والمشاهد مرت كسكاكين تخدش الذاكرة تارة وتضرب على أوتار الإحساس تارة أخرى. حتى الألوان باتت جميعها حمراء مؤلمة وسوداء قاتمة. حينها اعتزلت عدستي، فلا طاب النظر لمآسي المليحة».

يتابع: «وقررت أن أشغل الأيام بشحذ طاقتي والبحث علميًّا وعمليًّا، إلى أن تعود الرؤية صافية وتنجلي الألوان القاتمة… ويعود لي شغفي المعهود».

مع استحالة الوصول حينها للمدينة القديمة وإغلاق جميع منافذها وأبوابها، كان لا بد لنا أن ننسج عشرات المشاهد والقصص عما يحدث هناك آملين أن تلك الأصوات المدوية التي نسمعها ليلًا ونهارًا، ما هي إلا صدًى مهولًا لأشياء لن تترك أثرًا على الشهباء، هذا ما أملناه حينها.

بعد عدة أعوام، بعد أن تعبت الحرب من بلادنا، وبعد أن تعبت بلادنا من الموت، فتحت المدينة القديمة أبوابها المنهكة على مصاريعها معلنة استقبالها للزوار والمشتاقين من كل حدب وصوب. كان صلاح مرعشي مثل كثيرين، متلهفين لرؤيتها بعد طول انتظار ولكن الخوف من المفاجأة، الخوف من أن تصدم بما تحب وبمن تحب كان أكبر من الشوق نفسه.

الهوى غلَّاب

لم يمر وقت طويل قبل أن يتحقق كلام الست «هو صحيح الهوى غلَّاب؟» صدقًا غلَّاب. استل مرعشي عدسته مقررًا بدء رحلة جديدة لم يعرف أنها ستكون رحلة العمر. مشاعر مختلطة انتابته عندما وطأت قدماه منطقة «الجديدة» أول أحياء المدينة القديمة، حاول أن ينقل هذه المشاعر لنا ولكن أظن أن ما بداخله يحتاج إلى لغات وفنون العالم أجمع للتعبير عنه.

مع بداية عام 2018 بعد أن أشبعت البشرية من مشاهد الحرب والدمار والركام من مئات الفيديوهات وآلاف الصور، خصوصًا هؤلاء الذين لم يزوروا حلب أو لم يتعرفوا إليها قبلًا بصورة قديمة أو كتاب أو قصيدة ولم يستنشقوا رائحة غارها وبهاراتها وفستقها. لهؤلاء خصيصًا وللعالم أجمع قرر مرعشي أن يبحث عن الماضي وأصالته في الحاضر وتطوره، وقرر أن يرسل رسالة إلى البشرية عنوانها الجمال والجلال، للتعريف بدانة سورية والشرق: حلب الشهباء، لا سيما أننا في عصر السرعة الذي يجعلك تصل إلى الصين بكبسة زر أو تزور مجاهل أفريقيا وأنت قابع في منزلك تحتسي كوبًا من القهوة العربية المهيلة.

انطلاقة مختلفة

كانت جولاته تبدأ من السادسة صباحًا وربما قبل، ولا تنتهي إلا مع تخييم الظلام، من خان الشونة إلى خان الجمرك ومن سوق السقطية إلى ساحة الحطب. يمنةً ويسرة، شمالًا وجنوبًا، قلبًا وعقلًا، زارها كلها بكل حواسه وجوارحه. بدايةً كانت صور صلاح تركز على جماليات الأماكن، لقطة معبرة، مشهد جميل، صورة كاملة العناصر. ولكن، تغير كل هذا مع انطلاقة فكرة جديدة، النشر على منصات التواصل الاجتماعي أو بالأحرى التعريف عن حلب من خلال منصات التواصل الاجتماعي، فالنشر كان ملازمًا لصلاح منذ وقت بعيد، أما فكرة التعريف والتوثيق فكانت جديدة نوعًا ما، فالعصر الآن كما أسلفنا الذكر هو عصر السرعة.

صارت عدسة مرعشي أكثر تخصصًا. بحث تقنيًّا عما يفيده ويساعده بإيصال فكرته الجمالية عن مدينة اجتاحها النزاع قالبًا ولكن قلبها ما زال نابضًا بالحياة، اكتشف تقنية معاصرة مهمة وأصبح رائدًا محترفًا بها، ألا وهي لقطات الصور البانورامية بزاوية 360 درجة. وهي تقنية تعطي فكرة واضحة وشاملة عن المَعلَم الملتقط.

يصفها قائلًا: «بت قادرًا على استبدال المكان والزمان مع المشاهد. فعن طريق صور الـ 360 (تقنية 360°) أصبح الناظر يشعر بخشونة الحجر وتشققات طلاء الجدران. تلفحه رياح الشتاء وتتساقط عليه أوراق الخريف. يبدو وكأنه قابع في وسط المَعلَم، لا تستطيع عيناه الاستقرار على مشهد واحد فهو يريد أن ينسخ هذا الجمال كصورة كاملة متكاملة بعقله وقلبه».

لاحقًا، مع تزايد متابعي إبداعه. قرر إنتاج محتوى بصري من نوع آخر، محتوى أكثر شمولية يجمع بين الصورة والفيديو، أو إن صح التعبير الصورة المتحركة، وهذا ما كان.

انتقل صلاح إلى صنع جولات افتراضية كاملة من خلال صور الـ 360، أصبحت فيها اللقطة المبهرة جزءًا من عمل كبير ينقلك من عالمك الواقعي إلى عالم الصورة الأكثر واقعية. فها أنت تتجول بحمام السلطان لترى لون المرمر وتلتمس بنظرك طاسات النحاس القديمة بزخارفها بديعة الصنع وتنتقل بعدًا لترى الكنيسة الإنجيلية العربية بحلتها البهية، لتسكن قلبك رائحة عرق الزيتون القابعة بين مقاعدها الخشبية.

وهنا تمامًا يحدثني صلاح عن أهمية المنصة بنشر الفكرة، فالفن هو الرسول والصورة هي اللغة المشتركة التي تنقل رسالتك وإحساسك كمواطن سوري وعاشق حلبي للعالم بأسره، هؤلاء الذين لم يسمعوا بسورية إلا عبر نشرات الأخبار وشريط الأحداث العاجلة، ولكننا كما قال، أكثر من هذا بكثير، على الأقل هذا ما سأحاول إيصاله من خلال مشروعي المتواضع.

يقول: «موقع الفيس بوك على سبيل المثال داعم لصيغة صور الـ 360 والجمهور المستهدف هو باحث عن هكذا طبيعة محتوى يعد رائجًا في الأيام الحالية، من بضع مشاهدات إلى آلاف المشاركات، هكذا انتقل انتشار صفحتي الخاصة بالتصوير الفوتوغرافي من خلال تصميم المحتوى المناسب والهادف، فمن الصورة الأولى بحثت بين تعليقات المتابعين عن الآراء التي تطور عملي، دعمت الجوانب التقنية وأخذت بنصائح المتذوقين والناقدين، ومع ازدياد عدد المشاركات كانت تصل بعض المواد إلى مئات الآلاف من المشاهدات وهنا تأكدت أنني على الدرب الصحيح، وما عليَّ الآن إلا أن أصعد درجة درجة آخذًا بتصوري أن العمل والجهد الدائم سيصل بنا إلى مرادنا لا محال».

يستأنف حديثه عن منصة الإنستغرام بأنه موقع بصري بحت، يعتمد على الصورة المميزة مع أبعاد صحيحة وألوان جذابة. فانتهج مبدأ الجذب البصري، لقطة جميلة – ربما بالأبيض والأسود كما يفضله هو – مع الهاشتاغ الصحيح لتسهيل عملية البحث والانتشار كفيلة بأن تجذب المشاهد ليصبح متابعًا ومتذوقًا للقيم التصويرية والإبداعية.

بجانب الجهد الذي يبذله والشغف الذي يملكه تجاه عمله والهدف الذي حمله معه منذ اليوم الأول، يعزي صلاح شهرته اليوم وسرعة انتشار أعماله لمواقع التواصل الاجتماعي التي خلقت له نافذة يرى بها العالم ويراه بها الجميع كما شيدت جسرًا بينه وبين المشاهد ووضعته هو وأعماله بمعرض حي دائم يستطيع من خلاله التعريف بفنه وبحكاية مدينة عمرها بعمر الحياة، قست عليها الأيام، ولكنها حية تزدان بعين محبيها وبكل عين وقلب يراها.

أخيرًا وليس آخرًا، من يريد التعرف على صلاح مرعشي صانع الجمال من رحم الدمار، ما عليه إلا أن يرى أعماله. وبعبارة أعمق عليه أن يرى حلب. فلسنا نحن فقط من نحسن الحديث عن الشهباء. فهي أيضًا تحسن الحديث عن أبنائها وعشاقها فتضع أكاليل من الغار على رؤوسهم وتلقي على أسماعهم تعاويذ حب تُسمى القدود الحلبية.

ستبقى الصورة الفوتوغرافية على مر العصور هي احتضان للزمن في إطار من الألوان، وذاكرة مدن لا تختصر إلا بإطار من حب وشغف وإبداع.

تنويه
أُجرت الزميلة علا العجيلي هذا الحوار مع المصور صلاح مرعشي في مدينة حلب قبل فاجعة الزلزال المدمر الذي ضرب جنوبي تركيا وشمالي سورية في شباط/فبراير 2023 وأسفر عن خسائر مهولة في الأرواح وكذلك في بعض البنى والمناطق التي أتي ذكرها في هذا الحوار.

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا