تفخر مصر بأنها لا تفرض على اللاجئين الذين يصلون إليها التماسًا للأمن قيودًا متعسفة في تحركاتهم وانتقالاتهم، وتعامل بعض الجنسيات معاملة مواطنيها في الصحة والتعليم. لكن ومع ما يبديه لاجئون من الامتنان للبلد الذي يستضيفهم، إلا أن هناك ما يعكر صفو العيش مثل تعليقات سلبية يوجهها الشارع ضد اللاجئين ذوي البشرة الداكنة
في شقة بسيطة الأثاث، خافتة الإضاءة – توفيرًا للنفقات، تنهمك أريج** في إعداد وليمة يوم الجمعة. تزدان الوليمة بالأطباق السودانية التقليدية: الـ «مُلاح» وهو طبق سوداني شهير يُحضَّر منزليًّا، و«سلطة الأسود» وهي مكونة بالأساس من الباذنجان. تعتمد الوجبة على الخضروات، وبسبب ارتفاع الأسعار فإنها تخلو تمامًا من اللحوم.
ترتدي أريج ورفيقاتها في المنزل زيًّا سودانيًّا تقليديًّا متعدد الألوان. وحتى تظهر الوليمة في أبهى صورة، تؤدي كل منهن مهمة محددة، فهذه تحضِّر المائدة، وأخرى تشعل فحمًا لإعداد القهوة السودانية. تنطلق ضحكاتهن ونبرات أصواتهن وهن ينطقن اللهجة السودانية المميزة. وعلى المائدة، تختلط رائحة الطعام الشهي برائحة البخور التي تفوح من مبخرة فخارية تشتعل بها بضع جمرات، فيبدو السودان بتقاليده وأعرافه وثقافته حاضرًا في قلب منطقة مصرية شعبية صميمة كحي حدائق المعادي في جنوب العاصمة القاهرة.
تحرش مضاعف
«يوم الجمعة هو فرصتنا، نلبس فيه زينا السوداني ونخرج لساعات قليلة ثم نعود سريعًا للمنزل. طوال الأسبوع نرتدي ملابس عادية كالتي تلبسها النساء المصريات». تتحدث أريج عن بهجتها بيوم إجازة تلتقي فيها مع نساء من بنات وطنها، يستعدن فيه أجواء بلادهن. تبدو أريج حزينة وهي تتحدث عن وطنها السودان، لكن مرارة الغربة ليست فقط ما يؤرق حياتها. فلون بشرتها جزء من معاناة أخرى تواجهها. «حضرت إلى مصر في العام 2015. أعرف أن النساء المصريات يواجهن مشكلة كبيرة بسبب التحرش، لكن أنا لست مجرد سيدة، أنا أيضًا داكنة البشرة ولاجئة، وهو ما يعرضني لتعليقات سلبية مضاعفة جعلتني أقرر ألا أخرج من المنزل أحيانًا تجنبًا للمضايقات قدر الإمكان».
وخلال السنوات الأخيرة، تصاعدت مشكلة التحرش الجنسي في مصر، وبلغت حدًّا مقلقًا، إذ تعرضت نساء لاعتداءات جنسية عنيفة في محيط ميدان التحرير، مهد الانتفاضة الشعبية الواسعة التي أزاحت الرئيس السابق حسني مبارك عن السلطة في العام 2011. لكن من ناحية أخرى، تقول نساء ينتمين إلى بلدان من القارة الأفريقية إنهن يتعرضن لتحرش مضاعف، حين يقترن التحرش الجنسي بتعليقات سلبية تسخر من لون بشرة أولئك النسوة.
وتحكي أريج عن خبرات سابقة مؤلمة، منها عندما تعرضت لاعتداء بدني لأنها حاولت ردع رجل حاول جذب ابنة أختها من شعرها، وهي طفلة لم تتجاوز السادسة. وذكرت أنها لم تجد دعمًا من الشارع، إذ إنها تعرضت لنعوت سلبية من الباعة الموجودين في المكان.
ولا تقتصر المشكلة على النساء، فهي تمتد أيضًا إلى أطفال يجدون صعوبة في التأقلم في المدارس الحكومية المصرية. ويقول ناشطون في مجال دعم اللاجئين في مصر إن هناك صعوبات في إلحاق الأطفال اللاجئين بالمدارس المصرية بسبب غياب الأوراق الثبوتية. لكن هذه الأوراق ليست هي العامل الوحيد الذي يحول دون دخول الأطفال الأفارقة للمدارس، فهناك أيضًا حاجز اللهجة أحيانًا والتعليقات السلبية التي يواجهها الأطفال بسبب لون بشرتهم.
وتحكي فاطمة إبراهيم، وهي ناشطة تعمل في مركز «تضامن» لدعم اللاجئين، ما مرت به في مصر. «وصلت مصر في العام 1993، ولاحظت استغراب البعض هنا من لهجتنا وملابسنا الملونة. لكن ظل لون بشرتنا أكثر ما يستغربونه. نحن الكبار نستطيع التعامل مع هذا، لكن الصعوبة تعترض الأطفال الذين يتعرضون لتعليقات سلبية تؤثر عليهم نفسيًّا، وتجعل من انضمامهم للمدارس الحكومية أمرًا صعبًا».
ويقدم مركز «تضامن» فصولًا مجتمعية للأطفال من سن ست سنوات حتى 18 سنة، ويعمل المركز يوميًّا عدا الجمعة والأحد. والأطفال في المركز مقسمون حسب الفئات العمرية، ويدرسون منهجًا سودانيًّا، علاوة على أنشطة أخرى كالموسيقى والرسم. وجميع العاملين في المركز متطوعون.
ومصر ليست بلد لجوء وإنما بلد عبور، أي محطة انتظار يصل إليها اللاجئ أملًا في الذهاب إلى وجهة أخرى قد تكون القارة الأوروبية أو أميركا الشمالية. ويعيش في البلد الذي يكافح وضعًا اقتصاديًّا صعبًا وبيئة سياسية مضطربة بفعل التحولات السياسية التي رافقت ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، نحو ربع مليون لاجئ نصفهم لاجئون سوريون. وتُعد مقصدًا يلتمسه اللاجئون من إريتريا وإثيوبيا والعراق والصومال والسودان وكذلك اللاجئون الفلسطينيون الفارون من النزاع في سورية، حسبما تقول المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وخلافًا لدول أخرى، لا تقيم مصر أي مخيمات للاجئين على أراضيها.
وتعامل الحكومة المصرية اللاجئين السودانيين والسوريين معاملة المصريين في الحصول على الرعاية الصحية والالتحاق بالمدارس التعليمية. كما أنها تتيح عمل بعض الجمعيات الأهلية والمراكز التعليمية التي توفر فصولًا دراسية للاجئين الأفارقة، على أن يؤدوا امتحانات الشهادات الانتقالية من الابتدائية للإعدادية ومنها للثانوية في المدارس الحكومية المصرية.
ليسوا عالة
في السنوات الأخيرة، ذاعت شهرة الحناء التي ترسمها الموهوبات من النساء اللاجئات في الأماكن العامة أو المناسبات مثل «ليلة الحناء» التي تسبق العرس كطقس يجذب الفتيات المصريات. كما اشتهر جدل الشعر في ضفائر رفيعة أو «الرستا» التي أصبحت تصفيفة محببة لكثير من النساء والرجال. وإذا أضفنا التنانير الفضفاضة الملونة، ومنتجات سودانية كالبخور وأعمالًا يدوية جلدية على يد عمالة أفريقية ماهرة، سيظهر لنا مجتمع لاجئين حيوي ينتج ليعيش ويساهم في الاقتصاد المحلي.
«اللاجئون الأفارقة في مصر لا يعيشون بأموال المعونة، ولكنهم يعيلون أنفسهم بالأساس. فالرجال يعملون بالمصانع وغيرها، والنساء تعمل في صناعة الحلي والتطريز والحياكة. والجميع يدفع إيجارات للسكن، وفواتير الخدمات مثل الكهرباء والغاز والمياه»، حسبما تقول الناشطة فاطمة إبراهيم.
ولا يختلف اللجوء في مصر عن غيرها من البلدان في ظاهرة مركزية دور النساء اللاجئات في العمل والإنفاق على أسرهن: «اللاجئات الأفارقة هن بالأساس من يعلن أسرهن لغياب الأزواج، إمَّا للطلاق وإمَّا للترمل أو لأي أسباب أخرى. ولذلك تقبل اللاجئات بأي عمل مهما كانت مخاطره بالنسبة لهن. بعضهن يلجأن للعمل خادمات منازل أو عاملات نظافة أو جليسات للأطفال لأنها وظائف لا تحتاج لمؤهلات دراسية»، على ما تقول منسقة مركز «تضامن».
يردد كثير من اللاجئين تعبير أنهم ليسوا عالة، أي أنهم يعملون ويساهمون في الاقتصاد المحلي. عند زيارتي لمركز «تضامن»، قابلت باتريك، وهو طالب في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، يعمل متطوعًا بعض الوقت في المركز حيث يعلم اللغة الإنجليزية. يعيش باتريك في مصر فترة الدراسة، وقال إنه سيعود للسودان مرة أخرى. «هناك الآلاف مثلي. هناك سياح ورجال أعمال وموظفون أفارقة هنا في مصر. لكن تشعر وكأن بعض الناس في مصر يرون أن أصحاب البشرة الداكنة جميعهم لاجئون لا عمل لهم. هذا غير حقيقي. نحن نعمل، ولكن التعليقات السلبية تنال منا كلنا.»
ويقول أشخاص من دول أفريقية قابلتهم «الإنساني» إنهم يعيشون في مصر وينفقون من مواردهم التي هي بالعملة الصعبة. «الأفارقة في مصر، لاجئين وغير لاجئين، ينفقون العملة الصعبة هنا. هنا أشخاص أسرهم في دول أجنبية وهم يرسلون أموالًا لذويهم في مصر. الأسر أيضًا ترسل لأبنائها الطلاب عملة صعبة. لكن لون بشرتك يجلب الإهانة لك، وقد يهدد حياتك» على ما يقول باتريك.
ويقول مراقبون إن التعليقات السلبية التي يتعرض لها أفراد من جنسيات دول أفريقية تتصاعد لأسباب مختلفة. فمثلًا زادت لبعض الوقت هذه التعليقات بفعل تداعيات بناء «سد النهضة»، وهو سد ضخم تبنيه إثيوبيا على أحد فروع نهر النيل، وتقول إنه سيكون مصدرًا لحل أزمة الطاقة لديها، لكن مصر تتخوف من أن السد قد يهدد حصتها السنوية من مياه النهر.
وفي العام الماضي، نشرت صحف قاهرية حادثة مقتل مدرس من السودان يُدعى جبرائيل توت على يد شخص مصري، ولم تستبعد الصحف وجود دوافع عنصرية وراء حادثة القتل. وفي كانون أول/ ديسمبر الماضي، قضت محكمة جنايات القاهرة على القاتل بالسجن 15 عامًا، لاتهامه بضرب توت بعصا خشبية حتى الموت.
كلنا أفارقة
ترص أريج رقائق الخبز السوداني في صحن كبير لإعداد «المُلاح»، وتغرقه بالمرق الذي أعدته من البامية وزبدة الفول السوداني واللبن. يوضع الطعام في طبق كبير ليأكل الجميع منه. تتحدث أريج: «في السودان تربينا على النشيد الوطني المصري، وتعلمنا اللغة العربية من أدب نجيب محفوظ وغيره من أدباء مصر، وتعرفنا على النضال من أحمد عرابي وسعد زغلول. ومصر بالنسبة لنا بيت الأخت الكبرى».
تحدثت أريج كثيرًا عن علاقتها وحبها لمصر. ما ينقصها هو أن تطمئن وهي تسير في الشارع، من دون أن تتعرض لتعليقات سلبية حول لون بشرتها.
والشعور بالأمان في الشارع هو المطلب الأساسي لجميع من تحدثت إليهم «الإنساني» من النشطاء والمتطوعين والأفراد العاديين الذين ينتمون إلى جنسيات أفريقية. تقول فاطمة منسقة مركز «تضامن» إن الأمان أهم ما يحتاجه اللاجئ ليعيش حياة طبيعية خاصة وأنه هارب من ظروف قاسية. «السودانيون يعرفون الثقافة المصرية جيدًا. يعرفون اللهجة والطعام. نحن لا نشعر بصعوبة التأقلم مع العادات المصرية، لكن المصريين بحاجة ليعرفوا أكثر عن السودانيين والإثيوبيين والصوماليين وغيرهم. التعرُّف على الآخرين في النهاية يوسع المدارك ويخلق مجتمعًا يقبل التنوع».
يتندر باتريك على بعض التعليقات السلبية التي يتعرض لها، ويقول إن أكثرها سذاجة من وجهة نظره هي معايرة بعض المصريين له بكلمة «يا أفريقي». يقول «هناك مصريون لا يعرفون أن مصر دولة أفريقية، وأن المصري أفريقي أيضًا. هذه معلومة لو أدركها هؤلاء الأشخاص فربما تقلل من تعليقاتهم السلبية ضدنا». أحيانًا أرد على من يوجه إليَّ هذا النداء بالقول: «يا أخي كلنا أفارقة».
**جرى تغيير اسم السيدة للحفاظ على خصوصيتها
ساهمت الزميلة إيمان رمضان وهي موظفة في بعثة اللجنة الدولية في القاهرة في إعداد هذا التحقيق.
تعليقات