بعد سنوات من النزاع في اليمن، أدت التداعيات الإنسانية التي حلت بالمدنيين إلى واحدة من أشد الأزمات العالمية خطورة وإنهاكًا لضحاياها. لكن ثمة جَمالًا يمكن أن تقع عليه العين أيضًا في اليمن.
عندما وصلتُ إلى اليمن أول مرة، وأنا في طريقي من صنعاء إلى الحُديدة على الساحل الغربي لليمن، لم أستطع أن أشيح بوجهي بعيدًا عن المشهد المحيط بي. كنت أرى اليمن الذي نراه في نشرات الأخبار. اليمن هو البلد الذي وُصف بأنه يشهد أسوأ أزمة إنسانية في العالم. أردتُ أن أحدد وجهًا لهذا البلد، لكن اتضح أن لليمن وجوهًا كثيرة. والجَمالُ الذي كنت أشهده تجاوز ما أمكنني تخيله: تلال خضراء، وهندسة معمارية، والبحر الأحمر الممتد من مدينة الحديدة الساحلية التي ستكون مستقري لمدة عامين.
عندما اقتربنا من المدينة، رأيت حاويات شحن متراصَّة تشكل جدارًا يبلغ ارتفاعه طابقين، وبينها ممرات صغيرة يسير فيها تيار السيارات المتدفق إلى المدينة. على تلك الحاويات صور عنيفة تصور سكان المدينة التي تتعرض للهجوم ومعاناتهم بعد سنوات من النزاع. هذه هي النغمة السائدة في المكان. الجدران في اليمن تتكلم. وفن الشارع بالنسبة للناس هنا هو ما يوازي تحديثات الأخبار على فيسبوك وتويتر. فعندما يكون من النادر أن تحظى بالكهرباء أو الإنترنت، فأنت إما تبتكر وإما تلجأ إلى الوسائل البدائية، وفي هذا ابتكار أيضًا.
منذ توقيع اتفاق ستوكهولم عام 2018، الذي وضع حدًّا لمعركة ساحل البحر الأحمر بين أطراف النزاع، لم يتحرك خط المواجهة لكنه ما يزال يقسِّم المحافظة إلى قسمين. وفي ظل ذلك يشهد أهالي مدينة الحُديدة استمرار النزاع. وفي ظل وجود أكثر من 24 مليون شخص في حاجة إلى المساعدة يُعد اليمن مكانًا لأكبر أزمة إنسانية في العالم. لقد عاش شعب اليمن في نزاع استمر لأكثر من نصف عقد.
يقدم زملائي في اللجنة الدولية للصليب الأحمر المساعدات الغذائية والمياه الصالحة للشرب والمواد الأساسية للمحتاجين هناك. ووسط أزمة الجائحة التي اجتاحت العالم، وفي ظل عمل نصف المرافق الصحية فقط في اليمن، عملنا مع شركائنا جنبًا إلى جنب لزيادة الوعي والدعم للوقاية من كوفيد-19 والاستجابة لمواجهته.
بدا الحي الذي أسكنه في الحديدة كأنه مدينة أشباح. شوارع طويلة خاوية بها مبانٍ غير مكتملة وأخرى يعلوها التراب ومنازل فخمة. قيل لي إننا نقيم في المنطقة التجارية حيث كان يعيش معظم التجار العاملين في الميناء. وقد غادر معظمهم المدينة بعد إغلاق الميناء. وغادر العديد من سكان الحديدة مدينتهم في نهاية المطاف.
بعد وصولي، اصطُحبتُ في جولة في المدينة وحضرتُ اجتماعات ذات صلة بدوري الجديد رئيسًا لمكتب اللجنة الدولية في الحديدة. اكتشفت قلب المدينة وشوارعها التجارية ومصارفها ومخابزها ومحلات الملابس وأكشاك الخضراوات. فوجئت بمستوى حيوية الحُديدة، مقارنةً بانطباعي الأول عن خواء المدينة. الشارع الرئيسي، شارع صنعاء وهو الأكثر ازدحامًا، الذي يفترض أن يدل قائدَ المركبة إلى العاصمة، صار الآن مقطوعًا بجبهة النزاع، أما الأحياء الأخيرة القريبة من تلك المنطقة غالبًا ما تكون خاوية وخطيرة جدًّا للسكنى. ولكي يصل المرء إلى مديرية «باجل»؛ ثاني أكبر المراكز الحضرية بالمحافظة، كانت المسافة تستغرق 35 دقيقة فقط. لكن مع خط المواجهة القائم الآن فإنها تبعد مسافة ساعتين بالسيارة.
تستضيف مدينة الحديدة باعتبارها عاصمة المحافظة الكثير من المكاتب الرئيسية والفروع، فضلًا عن مقدمي الخدمات الصحية المهمين. وبسبب خط المواجهة، تواجه المجتمعات المحلية التي تعيش هنا تحديات متزايدة للوصول إلى مستويات مناسبة من الرعاية الصحية. مستشفى الثورة، على سبيل المثال، هو مستشفى الإحالة الخاص بمحافظة الحديدة. يتكون المستشفى من عدة مبانٍ من طابق واحد حيث تتداخل الممرات وغرف الاستشارة وغرف العمليات وصالات الانتظار والغرف التقنية بطريقة صاخبة وفوضوية. عندما التقيتُ الدكتور خالد مدير المستشفى، الذي يشع وجهه بالكاريزما والعطف، أخذني في جولة سريعة في أرجاء المستشفى. كان بإمكاني سماع كل من جاءوا إلى هنا. أمكنني أن أشعر بألمهم. أعادني صوت المرضى الذين كانوا يطلبون نصيحة الدكتور خالد كل دقيقة وأخرى إلى الواقع. وعلى الرغم من حاجز اللغة، كان بإمكاني الشعور بالثقل الذي يحملونه على أكتافهم، والراحة التي يجلبها لهم الدكتور خالد بنبرته الهادئة وتفهُّمه. مظهره كأب يبعث على الطمأنينة ويبث الراحة في الصدور بطريقة ما، كما لو كان لسان حاله يقول للناس: «حتى ونحن هنا على بعد 500 متر من خط المواجهة، ومع أن هذه واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية على وجه الأرض، فنحن هنا لرعايتكم».
الحوار والثقة اللذان بنيناهما مع السلطات خلال العام الذي أمضيته في مهمتي باليمن منحاني وفريقي فرصة الوصول إلى المناطق الجنوبية من المحافظة، تلك المناطق التي فُصلت إلى قسمين بسبب خط المواجهة في 2018. لم تطأ قدم اللجنة الدولية هناك منذ عامين، وكانت الآمال المعقودة عليها كبيرة. في ذلك اليوم، كان هدفنا هو زيارة مدينة «زبيد»، أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو، وفيها أول جامعة إسلامية وتقع على بعد تسع كيلومترات فقط من خط المواجهة.
كانت الأجواء في «زبيد» مختلفة اختلافًا جذريًّا عن الحديدة. كانت المباني منخفضة جدًّا وبعضها يبدو قديمًا جدًّا. أعطتنا القلعة المنتصبة أمام مركز الرعاية الصحية الأولية لمحة عن الأهمية التاريخية للمدينة. وعندما التقينا بالسلطات المحلية وممثلي وزارة الصحة وموظفي هيئة المياه رسموا لنا فكرة أوضح عما عانت منه المدينة في السنوات الأخيرة والتحديات التي يواجهها السكان.
رباطة جأش
في «زبيد»، انتقلنا إلى المستشفى الريفي حيث أخذَنا المدير في جولة شاملة. عندما دخلتُ قسم التغذية، بدأ الطبيب المسؤول يعرِّفني على كل أم وطفل، وقدم لي موجزًا عن حكاية كل منهم. مشهد هؤلاء الأطفال الصغار الذين يناضلون للتشبث بالحياة حطم قلبي. كنت أخشى أن أنفجر في البكاء إذا سمعت المزيد عن حياة كل منهم. شعرتُ بالخجل من أن يظهر ضعفي بينما هم يُبدون رباطة جأش. لوَّحت لهم بيدي بكل صدق وتلفظت بعبارات التحية العربية القليلة التي أعرفها في محاولة لتجاوز حاجز اللغة وصولًا إلى الأمهات. جاهدتُ بشدة لأبتسم وأصدر بعض الأصوات المضحكة لرفع الروح المعنوية للأطفال، لكن دون جدوى. الأطفال هم الذين يدفعون الثمن الأكبر للحرب.
بعد يوم طويل من الاجتماعات واللقاءات، عدنا إلى الحديدة، وفي عقبنا عاصفةٌ. كان الطريق مسطحًا ومستقيمًا وموحشًا. وكانت السماء مظلمة وملبدة بالغيوم. شكلتْ الجبال إلى الشرق المشهدَ وتراءى لي تناقضها مع حقول سهل تهامة. متَّعت ناظريَّ بهذه المناظر الطبيعية الخضراء التي يرويها المطر قبل أن نصل إلى بيئة الحديدة الرملية.
نشهد منذ فترة موجة من فيروس كورونا تعصف باليمن، فتسلط الضوء على الخسائر المدمرة التي تتكبدها البلاد بسبب الحرب. عدت إلى موطني بروكسل مؤخرًا، وهي المرة الثانية منذ بدء الجائحة وقد دهشتُ لرؤية الأنظمة والتدابير المتبعة: الفحص بالمطار، واختبار الكشف عن عدوى الفيروس، والرسائل القصيرة، والحجر الصحي، ومكالمات المتابعة، والإجراءات الوقائية في الأماكن العامة. كدتُ ألا أتعرف على بلدي. إن افتقار اليمن إلى أبسط وسائل التصدي للجائحة مقارنة بما يُقدَّم في بلجيكا لهو أمر مروع ويفطر القلوب.
صمود لا يوصف
لأسباب أمنية صرت خبيرة في الانعزال في الحديدة، وأمزح مع أصدقائي بشأن إحباطهم بسبب بقائهم في المنزل وهم ينعمون بالكهرباء والمياه الجارية ويعملون من خلف الشاشات ويسترخون أمام [منصة البث] نتفلكس. نحن جميعًا محظوظون وأحيانًا لا نعبر عن الامتنان لما بين أيدينا، لذلك أحاول أن أخبرهم عن اليمن وكيف تبدو الحياة هنا، من قصص فريقي أو المستفيدين من الخدمات الذين أقابلهم. جميعنا لديه ذلك المقياس الداخلي لمدى الصمود أمام المعاناة، وأنا لا أقصد التقليل مما يبذله أصدقائي في بلجيكا، لكن رفاقي اليمنيين هنا في موطني الثاني يواجهون بالتأكيد مشاق أكبر وعلى الرغم من كل الصعاب يظهرون صمودًا لا يوصف.
اليمن موطني منذ أكثر من عام. ولا أعيش فيه حياة طبيعية كتلك التي يعرفها كثيرون، بمن فيهم قرَّاء هذه الكلمات. لكن عندما أكون في هذه المدينة، في مكتبي، في مكان إقامتي، ومع فريقي، فهناك يكون قلبي. هذا هو المكان الذي يستقر فيه التزامي وأجد القوة كي أتغلب على الصعوبات التي أواجهها أثناء زيارتي المستشفيات، والساعات الطويلة على الطريق، ودرجات الحرارة المرتفعة، والتحديات التي لا تُعد ولا تُحصى. قد لا تكون هذه حياة طبيعية بالنسبة لي، ولكنها ليست حياة طبيعية لملايين اليمنيين أيضًا. لا ينبغي أن نأخذ هذه الأوضاع أمرًا مسلمًا به.
نُشر هذا الموضوع في عدد مجلة الإنساني رقم 68 الصادر في ربيع/ صيف 2021. للاطلاع على محتويات العدد، انقر هنا. لتصفح العدد كاملًا، انقر هنا
للحصول على نسخة ورقية من المجلة، يمكنكم التواصل مع بعثاتنا في المنطقة العربية، وهم سيزودكم بإذن الله بما تحتاجون إليه من أعداد المجلة الحالية أو السابقة. انقر هنا لمعرفة عناوين وبيانات الاتصال.
تعليقات