الممرضة وحيدة غلاييني: نحن لسنا ملائكة رحمة لكننا صوت من لا صوت لهم

العدد 68

الممرضة وحيدة غلاييني: نحن لسنا ملائكة رحمة لكننا صوت من لا صوت لهم

خلال سنوات، برز اسم وحيدة غلاييني كناشطة في مجال الصحة العامَّة، والتعليم التمريضي في حالات النزاع والكوارث.

المسيرة التي استهلتها غلاييني كمتطوعة صغيرة السن خلال الحرب الأهلية اللبنانية، تُوجت بالحصول على جائزة دولية رفيعة المستوى وهي «وسام فلورانس نايتنغيل» تقديرًا لجهودها في تطوير التمريض في بلدها لبنان، وكذلك لما تتمتع به من قيم النزاهة والاستقلالية في العمل الطبي.

الممرض هو المحامي الأول للمريض، والمُطالب الأوَّل بحقوقه، والمُدافع عنها، فالمريض يسلِّم أمره للممرِّض فور دخوله المستشفى، مما يخلق علاقة وطيدة، ومليئة بالتعاطف والاهتمام.

يعود الفضل الأكبر في اختياري لمهنة التمريض إلى والدي الذي عرَّفني على [جمعية] الصليب الأحمر اللبناني في الثمانينيات في أوج الحرب الأهليَّة اللبنانيَّة [1975-1990]. كنت ما أزال تلميذة في المدرسة حين شجَّعني على الانخراط في مجال التطوَّع على الرغم من التشديدات الاجتماعيَّة والأمنيَّة. كنت قد فقدت أخي عندما كان في عمر السادسة والعشرين نتيجة خطأ طبِّي، وكنت متأثِّرة بقصته، فأردتُ خوض هذه المغامرة، لأكون المدافع الأول عن حقوق المريض، ولأضع كل جهودي لرفع صوت الذين لا صوت لهم.

حُبُّ التطوع ومساعدة الغير، خصوصًا خلال فترة الحرب اللبنانية، كانا المولِّد الأساسي لانخراطي في مجال الإسعاف والتمريض.

قدَّمت طلبًا إلى كليَّة التمريض في الجامعة الأمريكية في بيروت، ولكن بسبب ظروف الحرب تأخَّر قبول طلبي، ولتفادي ضياع الوقت، تسجلت في كليَّة التمريض في الجامعة اللبنانية التي كان مركزها في الصليب الأحمر اللبناني آنذاك، وكانت أول مدرسة تمريض في لبنان.

خلال عامي الأول، دفعني حبُّي للمساعدة والتطوُّع إلى البدء في العمل مع المسعفين على الرغم من أنَّني لم أكن مسعفة بعد. عملت على تطوير قدراتي، وبرزت لأصبح مسؤولة تدريب في منطقةٍ في بيروت. كما ساهمت أيضًا في افتتاح أحد المراكز التي تُعنى بتدريب الشبَّان والشابَّات على الإسعافات الأولية، وذلك بالتوازي مع إتمامي لدراستي.

عند إنهاء الدراسة، طُلب مني البدء بالتدريس في كليَّة التمريض في الجامعة اللبنانية، ولكنني رفضت ذلك لأنني أردت أن أكسب خبرة في العمل التمريضي الميداني، فالتحقت بمستشفى البربير في بيروت التي عرضت عليَّ مركزًا وظيفيًّا مغريًا لي كمبتدئة وهو «رئيسة قسم»، وحافظت على عملي كمتطوعة ومسعفة ومدرِّبة في الصليب الأحمر اللبناني. بعد مستشفى البربير، انتقلت إلى مستشفى الشرق الأوسط حيث شغلت مركز رئيسة قسم التمريض وبقيت هناك لفترة سنتين.

واجهت مستشفى الشرق الأوسط الكثير من التحدِّيات والمشاكل التي أثَّرت على العمل وبالأخص بسبب بعض التدخلات السياسية، فقرَّرت حينها أن أبحث عن فرص أخرى. كان حينها مستشفى جبل لبنان قيد الإنشاء، وطُلب منِّي أن أذهب لمقابلة مؤسِّس المستشفى، فذهبت، وسرعان ما اتصل بي في اليوم التالي طالبًا مني البدء بالعمل مباشرةً كرئيسة قسم التمريض. وأعتبر أنَّ هذا المركز هو الذي رسم لي مسيرتي في الإدارة التمريضية، لأنني من خلاله أسستُ قسم التمريض من الصفر، وخلال عشر سنوات وظَّفت ودرَّبت أكثر من 200 ممرض وممرضة، وأسستُ مدرسة سكرتارية في الإدارة التمريضية.

فرضت عليَّ متطلَّبات العمل التوقُّف عن عملي التطوعي في الصليب الأحمر، لكنَّني كنت أحرص على المساعدة عند الحاجة.

من التحدِّيات الكبيرة التي واجهتها في مستشفى جبل لبنان كانت خلال حرب تموز 2006، إذ اضطررت للبقاء وحدي لعدَّة أيام لعدم قدرة الفريق التمريضي على الوصول للمستشفى بسبب القصف، والمخاطر الأمنية. فوضعنا آنذاك خطة طوارئ لتقسيم العمل في المستشفى، ونقلنا الأسرَّة، ووحدات العناية الفائقة إلى موقع المستشفى، وباشرنا بالعمل من الموقع. بدأت حينها بتطوير هذه الخطة التي أصبحت لاحقًا مرجعًا أساسيًّا للمستشفى، ولي أيضًا، إذ أعتبرها من أكبر الإنجازات التي أتممتها في مسيرتي حتى الآن.

انتقلتُ الى العمل الاستشاري لكنَّني سرعان ما اخترت تحدِّيًا جديدًا في مستشفى رفيق الحريري الحكومي الجامعي

بعدها، تواصلت معي شركة استشاريَّة طبيَّة لاستلام القسم المتعلِّق بالإدارة التمريضية. كانت هذه فرصة ذهبية لي لتغيير مساري المهني، والانضمام إلى القطاع الاستشاري الخاص، حيث عملت ثلاث سنوات بعد مغادرتي مستشفى جبل لبنان.

عرضت على إحدى الطبيبات، وهي أستاذتي في كلية التمريض، وكانت تراقب عملي من بعد، أن أعيد تكرار خبرة مستشفى جبل لبنان في مستشفى الحريري. تردَّدت كثيرًا لأنني كنت سعيدة في مركزي في الشركة الاستشارية ولكن ما شجَّعني على التغيير هي امتحانات مجلس الخدمة المدنيَّة التي من خلالها أستطيع أن أرى تصنيفي في لبنان، فقدَّمت وحقَّقت المركز الأوَّل والتحقت بمستشفى رفيق الحريري الجامعي على الرغم من معرفتي أنني سأواجه صعوبات كثيرة في هذا المركز الجديد.

عن وسام فلورانس نايتنغيل

أنشأت اللجنة الدولية وسام «فلورانس نايتنغيل» قبل قرن من الزمن. وهو أعلى وسام دولي يمكن أن يُمنح للممرضين والممرضات، وهو بمثابة تقدير واعتراف بالعمل الضخم الذي يقوم به الممرضون، والممرضات، والمساعدون في مجال التمريض على مدار السنوات في ظلِّ ظروف شديدة الصعوبة، في حالات النزاع، والكوارث الطبيعية، وحالات الطوارئ الأخرى.

وفلورانس نايتينغيل (1820-1910) هي مؤسِّسة علم التمريض الحديث، كرست حياتها لتطوير الخدمات الصحية المقدمة للناس لا سيما الجنود المصابين في الحروب. وقد أطلق عليها الممرضة «حاملة المصباح»، في إشارة إلى المصباح الذي كانت تحمله ليلًا فيما هي تتفقد حال الجنود المصابين في حرب القرم منتصف القرن التاسع عشر.

 

تهمُّني جدًّا الصحَّة النفسيَّة لفريقي، لأننا تعلَّمنا في تدريب الإسعافات الأولية أن المسعف يجب ألا يعرِّض نفسه للخطر بل عليه أن يحمي نفسه، لأن سلامته تعني سلامة المريض. ويأتي ذلك من خلال التدريب على مواجهة الأزمات مثل التدريب لخطة الطوارئ التي وضعناها في مستشفى الحريري، وهي مستوحاة من خطة الطوارئ التي كنت قد كتبتها وطوَّرتها وطبَّقتها في مستشفى جبل لبنان.

طُبقت هذه الخطة في مستشفى الحريري خلال تفجيرات السفارة الإيرانية في بيروت عام 2013 والتي من خلالها برز اسم مستشفى الحريري كمؤسسة قادرة على مواجهة حالات الطوارئ.

عندما استلم الدكتور فراس أبيض إدارة المستشفى، دُهش بتنظيم القسم التمريضي وتطوره، ما زاد ثقته به، فسلَّمني مسؤوليات أكبر. وعملنا معًا على التنمية الإدارية، والتنمية البشرية، وعلى وضع خطط جديدة لاستيعاب عدد أكبر من المرضى. وأتى ذلك ثماره خلال جائحة كورونا إذ كنَّا مهيَّئين لمواجهة هذه الجائحة، وذلك نتيجة التنظيم الإداري، واستعدادية الطاقم التمريضي. وكان مستشفى الحريري في طليعة المواجهة في الأشهر الستة الأولى، فخلقنا حلقات تواصل لتسهيل عمل المسعفين بفضل دعم اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي جهَّزت طوارئ المستشفى، وساهمت في تأمين كافة الخدمات الطبية.

عند حصولي على وسام فلورانس نايتنغيل، تذكرت الشخص الأول الذي عرَّفني على التمريض والتطوُّع، وعلى الصليب الأحمر، وهو والدي، فأنا أهديه هذا الوسام لأني وصلت إلى ما أنا عليه بفضل دعمه الدائم لي على الرغم من كل التحدِّيات المجتمعيَّة والأمنيَّة والنفسيَّة.

اتصل بي الدكتور أنطوان الزغبي رئيس الصليب الأحمر اللبناني ليعلمني بتسميتي لوسام فلورانس نايتنغيل، وفرحت كثيرًا لحصولي على هذا الوسام لأن فلورانس كانت مناضلة، وسابقة لعصرها ومثالًا يُحتذى به في الحياة بشكل عام، وفي التمريض بشكل خاص. وأعتقد أن هذا الوسام أتى تكليلًا للجهود التي بذلتها في سبيل إعلاء شأن هذه المهنة.

نحن لسنا ملائكة رحمة، نحن إداريُّون ومسعفون، وصوت من لا صوت لهم

رسالتي إلى كل الممرِّضين والممرِّضات أن يكونوا دائمًا صوت المريض، والمدافع الأوَّل عن حقوقه ومطالبه. عليهم أيضًا أن يكسروا حاجز الخوف، ونظرة المجتمع لهم على أنهم ملائكة رحمة. نحن لسنا ملائكة رحمة، نحن إداريُّون ومسعفون، وصوت الذين لا صوت لهم، ونحن أهل المريض، ومن يمسك بيده.

وأقول لهم أيضًا أن يهتموا بصحَّتهم النفسيَّة كما الجسديَّة، فهذا أمر أساسي في إنجاح مهمَّتهم بالحفاظ على سلامة المرضى.

نُشر هذا الموضوع في عدد مجلة الإنساني رقم 68 الصادر في ربيع/ صيف 2021. للاطلاع على محتويات العدد، انقر هنا. لتصفح العدد كاملًا، انقر هنا

للحصول على نسخة ورقية من المجلة، يمكنكم التواصل مع بعثاتنا في المنطقة العربية، وهم سيزودكم بإذن الله بما تحتاجون إليه من أعداد المجلة الحالية أو السابقة. انقر هنا لمعرفة عناوين وبيانات الاتصال.

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا