في الساعات الأولى من 15 كانون الأول/ ديسمبر2017، اتخذت جمعية الدول الأطراف في نظام روما الأساسي قرارًا بتفعيل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على جريمة العدوان بدءًا من 17 تموز/ يوليو 2018، فصاعدًا. واعتُمد قرار التفعيل بعد مفاوضات مكثفة بشأن أحد جوانب الاختصاص القضائي التي ظلت مثيرة للجدل منذ اعتماد تعديلات كمبالا حول جريمة العدوان. وبذلك يُكمل الإنجاز المحرز في نيويورك أعمال مؤتمري روما وكامبالا ويمثل ذروة رحلة رائعة مدتها قرن من الزمان. وعلى الرغم من بعض المآخذ، فإن توافق الآراء الذي جرى التوصل إليه في مقر الأمم المتحدة يطلق نداءً في الوقت المناسب إلى ضمير البشرية بشأن الأهمية الأساسية لحظر استخدام القوة في أي نظام قانوني دولي يهدف إلى حفظ السلم العالمي.
أولًا: فرساي ونورمبرغ وطوكيو وروما: معالم أولية في رحلة طويلة
في خطاب ألقاه رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج (David Lloyd George) خلال حملته الانتخابية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1918 أعلن أن: «شخصًا ما … كان مسؤولًا عن هذه الحرب التي أودت بحياة ملايين من أفضل شباب أوروبا. ألا يوجد مسؤول واحد عن ذلك؟ كل ما يمكنني قوله هو أنه إذا كانت الحال كذلك، فهناك عدالة تسري على الفقراء والمجرمين الأشقياء وأخرى على الملوك والأباطرة».[1]
في حين أن رسالة رئيس الوزراء أثارت التصفيق من قبل جمهوره، كان رد الدبلوماسيين في ذلك الوقت أقل حماسة. وفي تقريرها المؤرخ 29 مارس/ آذار 1919 إلى المؤتمر التمهيدي للسلام، توصلت اللجنة المعنية بمسؤولية المتسببين في الحرب وإنفاذ العقوبات إلى الاستنتاج التالي:
«إن تعمد شن عدوان، تحت ستار السلمية ثم الإعلان فجأة عنه بموجب ذرائع كاذبة، هو سلوك يستنكره الضمير العام ويشجبه التاريخ، ولكن بسبب الطابع الاختياري البحت للمؤسسات القائمة على حفظ السلام في لاهاي… لا يمكن اعتبار حرب العدوان عملًا يتعارض مباشرة مع القانون الوضعي، أو يمكن مثوله بنجاح أمام محكمة مثلما هي الحال المتبعة في الأعمال المخول للجنة النظر فيها بموجب اختصاصاتها».
رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج
أنذر هذا التأكيد على النظرة السائدة للقانون الدولي في القرن التاسع عشر حول استخدام القوة من قبل الدول بفشل المحاولة الأولى لإرساء سابقة للتجريم الدولي لحرب العدوان.[2] ولكن هذا الفشل كان أيضًا بمثابة تمهيد، إذ أتمت لجنة المسؤوليات بالفعل استنتاجها بالتلميح إلى تغيير محتمل في التوجه مفاده: «من المستصوب أن تُفرض عقوبات جزائية في المستقبل على مثل هذه الاعتداءات الجسيمة ضد المبادئ الأساسية للقانون الدولي».
وفي فترة ما بين الحربين، جرى تناول هذه «الرغبة» من قبل حركة من العلماء أسهمت إسهامًا رائدًا في تشكيل نظام القانون الجنائي الدولي. على وجه الخصوص، حظي الاقتراح الخاص بجريمة العدوان بمكانة بارزة في خطة فيسباسيان بيلا عام 1935 حول وضع قانون عالمي للإجراءات الجزائية. ولكن، وكما لاحظ بيلا نفسه في الماضي، «لم تفعل الدول شيئًا تقريبًا بين الحربين لتحقيق نظام دولي للعدالة».
وبحلول هذا الوقت، انضمت المملكة المتحدة أيضًا إلى صفوف المشككين؛ ففي عام 1927، أطلع وزير الخارجية البريطاني أوستن تشامبرلين (Austen Chamberlain) مجلس العموم على وجهة نظره بأن تعريف العدوان سيكون بمثابة «فخ للأبرياء وإشارة للمذنبين».[3] ومع ذلك، وعلى المستوى التقليدي بين الدول المتعلق بالقانون الدولي، فإن ميثاق كيلوغ – بريان (1928)- وهو محور الكتاب الرائع والأكثر جدلًا حاليًّا «العالميون» (The Internationalists)، لأونا هاثاواي وسكوت شابيرو[4] (Oona A. Hathaway and Scott J. Shapiro)- كان علامة على انتقال القانون الدولي الإيجابي من قانون اللجوء للقوة (Jus ad Bellum) إلى قانون منع الحرب (Jus contra bellum).
وتناول الميثاق المزيد، إذ عارض فكرة أن تنفيذ التزام قانوني يمكن، على هذا النحو، أن يشكل «سببًا عادلًا» للحرب. رُحب بالميثاق ودخل حيز التنفيذ في 1929. وحينما اتُّخذ قرار في نهاية الحرب العالمية الثانية بجعل حروب العدوان الألمانية موضوع الدعاوى الجنائية، أصبح الميثاق هو الوثيقة القانونية المرجعية. وكان من المعروف بالطبع أن الميثاق يفتقر إلى عقوبة جزائية. ولكن القادة السياسيين في العالم عازمون الآن على وضع سابقة مبتكرة. ففي محاكمة نورمبرغ، ترجم المدعي العام البريطاني هارتلي شوكروس هذا العزم إلى الكلمات التالية: «إذا كان هذا الأمر ابتكارًا، فنحن على استعداد للدفاع عن هذا الابتكار وتبريره». كما قال روبرت جاكسون، المدعي العام الأمريكي ذو الشخصية الكاريزمية، والذي كان واحدًا من أهم القوى الدافعة وراء السابقة الابتكارية التي كان من المقرر وضعها، هذا الوعد الشهير: «واسمحوا لي أن أوضح أنه في الوقت الذي جرى فيه تطبيق هذا لأول مرة ضد المعتدين الألمان، إلا أن القانون يشمل العدوان من قبل الدول الأخرى، بما في ذلك تلك الدول الحاضرة معنا الآن لإصدار الحكم، إن كان ذلك لخدمة غرض مفيد».
كان يمكن للوفد البريطاني في نورمبرغ، الذي نصحه هيرش لوترباخت، الذي كان في مرحلة ترسيخ نفسه كسلطة قيادية في القانون الدولي، أن يتحلى بالجرأة من البيان القوي الذي أدلى به لوترباخت قبل محاكمة نورمبرغ بعدة سنوات: «يجب أن يرفض قانون أي مجتمع دولي جدير بهذا الاسم فكرة أنه لا يمكن أن يكون هناك اعتداء يدعو إلى العقاب بين الدول». وكان رد الدفاع قائمًا على اعتماد مبدأ الشرعية. كما طالب بفصاحة هيرمان جاهريس، الأستاذ في جامعة كولونيا، بما يلي:
«إن قواعد ميثاق (لندن) تلغي أساس القانون الدولي، حيث إنهم يتوقعون قانونًا لدولة عالمية، وهي قواعد ثورية ربما يكون مستقبلها في آمال وتطلعات الدول. واسمحوا لي أن أتحدث هنا على هذا النحو فقط، أنه على المحامي أن يثبت أنها جديدة وجديدة بشكل ثوري. لم يكن بين القوانين المتعلقة بالحرب والسلام بين الدول مكان لتلك القواعد – ولا يمكن أن يكون لها أي مكان. لذا فهي قوانين جنائية ذات أثر رجعي.
ولكن، كما كان متوقعًا، أقر حكم نورمبرغ لعام 1946 بشكل أساسي قضية الادعاء. وصرَّح بشكل قاطع أن: «بدء حرب عدوان … ليس جريمة دولية فحسب، بل جريمة دولية عليا …».[5]
وفي حين أن حكم نورمبرغ وحكم طوكيو اللاحق له،[6] إلى جانب تأكيد الجمعية العامة للأمم المتحدة على مبادئ نورمبرغ، تبلور مفهوم جريمة شن حرب عدوان بموجب القانون الدولي، فإن التطورات على مدى العقود القليلة التي تلت ذلك استمرت بشكل يشبه كثيرًا الأوضاع في فترة ما بين الحربين. كما حول ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945 حظر الحرب إلى حظر استخدام القوة. وسعى الميثاق إلى تقوية هذا الحظر الأخير من خلال نظام للأمن الجماعي والذي استهدف جوانب أكثر من سلفه في ميثاق عصبة الأمم لعام 1919. ولكن في حين أن هذه السوابق قد ولدت فكرة فرض عقوبات جنائية محتملة على الاستخدام غير القانوني للقوة، إلا أن إنفاذ هذه العقوبة – إما من خلال محكمة جنائية دولية أو على المستوى الوطني – كان دومًا أملًا بعيد المنال في ذلك الوقت. وفي عام 1950، عبر بيرت رولينغ، العضو الهولندي في محكمة طوكيو، عن التشاؤم السائد في ذلك الوقت قائلًا: «سيكون أمرًا رائعًا ومدهشًا أن يتم التوصل لتعريف مقبول بشكل عام للعدوان».
أثبت عام 1974 صحة شكوك رولينغ، رغم أن الجمعية العامة نجحت في 14 ديسمبر/ كانون الأول من ذلك العام في تبني قرارها رقم 3314 بالإجماع.[7] ولكن مع الفحص الدقيق، فإن «تعريف العدوان»، كما هو وارد في ملحق ذلك القرار، يتضح أنه يعج بغموض بناء.[8] والأهم من ذلك، وفقًا لأغراضنا هنا، فإن نص الإجماع يميز بين «الفعل العدواني» (بالمعنى المقصود في المادة 39 من ميثاق الأمم المتحدة) و«حرب العدوان». وكان المفهوم الأخير فقط مرتبطًا بشكل مباشر بفكرة المسؤولية الجنائية الفردية بموجب القانون الدولي (راجع الجملة الأولى من المادة 5 (2) من ملحق قرار الجمعية العامة رقم 3314 لعام 1974) ولم تُبذل أية محاولة لتحديد هذا المفهوم.
تردد صدى شكوك رولينغ حتى في التسعينيات عندما شهد العالم إحياء القانون الجنائي الدولي بالمعنى الضيق. ولم تشمل نهضة فكرة إنشاء نظام عالمي للعدالة الجنائية الدولية تركة نورمبرج وطوكيو حول «الجرائم ضد السلام». كما لم يدرج النظام الأساسي للمحكمتين الجنائيتين الدوليتين ليوغوسلافيا السابقة ورواندا هذه الجريمة. ونظرًا للتوصل لتسوية في اللحظة الأخيرة ناتجة عن مقترح قدمته حركة دول عدم الانحياز،[9] فإن المادة 5 (1) (د) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المنشأة حديثًا قد تضمنت «جريمة العدوان»، كما سميت الآن. غير أن الفقرة الثانية من هذا الحكم أوضحت أن المحكمة الجنائية الدولية لم يجرِ بعد تفويضها بممارسة اختصاصها القضائي على هذه الجريمة.[10] ومرة أخرى، ثبت أنه من المستحيل الاتفاق على تعريف لهذه الجريمة.[11]
ظهور ليختنشتاين: برينستون وكمبالا
رغم ذلك، فإن أغلبية ساحقة من الدول لم تكن على استعداد لقبول أن جريمة العدوان، لجميع الأغراض العملية، ليست جزءًاً من مجموعة الجرائم المنصوص عليها في القانون الدولي. ومنذ عام 2003،[12] عمل كل من المندوب الدائم لليختنشتاين لدى الأمم المتحدة، السفير كريستيان ويناويسر، ومستشاره القانوني الرئيسي ستيفان باريغا، بدعم من عدد من الشخصيات البارزة بما في ذلك على الأخص مدعي نوريمبرغ البارع بنجامين فيرينكز،[13] والدبلوماسي الأردني[14] البارع أيضًا السفير الأمير زيد رعد الحسين (الذي شغل منصب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان عام 2014) بلا كلل للتعبير عن هذا الشعور ولإيجاد قوة دافعة للتغيير أثبتت في نهاية المطاف أنها لا تقاوم.[15]
وبحلول عام 2009، ظهر توافق في الآراء بشأن مشروع تعريف موضوعي للجريمة في إطار الفريق العامل الخاص المعني بجريمة العدوان، وهو جهاز فرعي تابع لجمعية الدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية.[16] وأثبت هذا الإجماع قوته، حتى بعد عودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى طاولة المفاوضات.[17] وفيما يلي نص التعريف:
لأغـراض هـذا النظـام الأساسـي، يقصـد بجريمـة العـدوان التخطيط لعمل عدواني أو الإعـداد لـه أو الشـروع فيـه أو شنــه من قبل شـخص يكـون في وضع يتيح له التحكم في العمـل السياسـي أو العسـكري لدولـة أو توجيهـه، بحيث يشكل العمل العدواني بحكم خصائصه وخطورته ونطاقه انتهاكًا واضحًا لميثاق الأمم المتحدة.
ويشكل الاشتراط الحدي أن يكون فعل العدوان انتهاكًا «واضحًا» لميثاق الأمم المتحدة مفتاحًا للتوصل إلى اتفاق حول أكثر جوانب المفاوضات إلحاحًا: ألا وهو صياغة الركن السلوكي للدولة.[18] ويتمثل الهدف المزدوج لهذا الشرط في الحد الكمي («خطورته ونطاقه») والحد النوعي («خصائصه»). يحمل البعد النوعي تأكيدًا ويعكس ذلك حقيقة أن جوهر منع استخدام القوة المسلم به محاط بمناطق رمادية معينة تتسم بنقاش قانوني معقد وانقسام قانوني عميق في السياسات. ولا تزال هذه المناطق، والتي تتسم للأسف بأهمية عملية كبيرة، خارجة عن نطاق تعريف جريمة العدوان. ويوفر الشرط الحدي التعريف بمعرفته الضرورية في القانون الدولي العرفي، وفي الوقت نفسه، يضمن عدم اضطرار المحكمة الجنائية الدولية إلى التعامل مع المسائل التي لا تثير الجدل القانوني فحسب بل المثيرة للجدل السياسي أيضًا.
وقد أتاح الاتفاق بشأن التعريف الموضوعي للجريمة وضع جريمة العدوان على جدول أعمال المؤتمر الاستعراضي الأول لنظام روما الأساسي المعقود في العاصمة الأوغندية كمبالا في عام 2010. ومع ذلك، وبسبب استمرار الجدل حول النظام القضائي ودور مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لم يتم التوصل لإجماع في كمبالا[19] إلا بعد انتهاء المؤتمر خلال ليلة 11 إلى 12 يونيو/ حزيران 2010.[20] ولا ينطوي هذا الإجماع على احتكار مجلس الأمن للإجراءات المتعلقة بجريمة العدوان أمام المحكمة الجنائية الدولية. ولكن توافق كمبالا لا يشمل شروط ممارسة المحكمة لاختصاصها القضائي على جريمة العدوان، وهي أكثر تقيدًا بكثير من الشروط التي تحكم ممارسة المحكمة الاختصاص القضائي على جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. النقطة الأساسية هي أنه في حالة عدم إحالة الجريمة إلى المحكمة الجنائية الدولية من قبل مجلس الأمن، فإن ممارسة اختصاص المحكمة على جريمة العدوان، وفقًا للمادة 15 (مكرر) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ستظل معتمدة على موافقة الدول التابعة لها الأقاليم ذات الصلة وجنسية الأفراد المعنيين.[21]
عقبة أخرى
حتى التوافق الذي جرى التوصل إليه في كمبالا لم يشكل إحرازًا للتقدم بشكل كامل، بل تقرر وضع شرطين إضافيين لتفعيل اختصاص المحكمة على الجريمة. وعملاً بالمواد 15 مكرر (2) و (3) و 15 مكرر ثانيًا (2) و (3) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يتطلب التفعيل (1) تصديق أو قبول التعديلات من جانب 30 دولة طرفًا، و(2) قرار يجري اتخاذه بعد 1 يناير/ كانون الثاني 2017 من قبل نفس الدول الأطراف المطلوبة لاعتماد تعديل للنظام الأساسي. وقد تحقق بالفعل الوفاء بالشرط الأول[22] ووضع قرار التفعيل في جدول أعمال الدورة السادسة عشرة لجمعية الدول الأطراف الذي عقد في الفترة ما بين 4 و 14 ديسمبر/ كانون الأول 2017 في نيويورك.
ثبت أن اتخاذ قرار التفعيل هذا يمثل أكثر من كونه مجرد عمل احتفالي. والسبب في ذلك هو الجدل القانوني الذي أحاط إحدى تفاصيل نظامها القضائي القائم على الموافقة منذ اعتماد تعديلات كمبالا. ومن غير المتنازع عليه أن الفقرتين 4 و5 من المادة 15 مكرر يحولان دون ممارسة المحكمة لاختصاصها القضائي على جريمة عدوان مزعومة ناجمة عن عمل عدواني يُزعم أنه ارتكبته دولة ليست طرفًا في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في حالة إحالتها إلى المحكمة من قبل مجلس الأمن. ومع ذلك، فقد ظهر انقسام في الآراء القانونية منذ اعتماد تعديلات كمبالا فيما يتعلق بكيفية عمل ممارسة الاختصاص القائم على موافقة الدول على وجه التحديد بين الدول الأطراف في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. من الناحية الجوهرية، ظهرت وجهات نظر قانونية متضاربة.
وفقًا للموقف الأول، في مثل هذه الحالة، تُمنع المحكمة من ممارسة اختصاصها القضائي على جريمة عدوان مزعومة إذا ارتكبت إما في إقليم دولة طرف في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أو من قبل أحد مواطنيها، إذا لم تصادق هذه الدولة على تعديلات كمبالا. ويستند هذا «الموقف التقييدي» إلى الجملة الثانية من المادة 121 (5) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والتي يقال إنها زودت الدول الأطراف في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بحق المعاهدة، الذي لا يجوز بموجب قانون المعاهدات أن يؤخذ دون موافقتهم، كما يوضح ذلك التصديق على تعديل معاهدة أو قبولها بشأن المسألة المطروحة.
ووفقًا للموقف الآخر، فإن الدولة الطرف، بتصديقها على تعديلات كمبالا، تزود المحكمة بالاختصاصات القضائية المشار إليها في المادة 12 (2) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وهذا يعني أنه يجوز للمحكمة، في جملة أمور أخرى، أن تمارس اختصاصها القضائي على جريمة عدوانية يُزعم أنها ارتكبت في أراضي هذه الدولة الطرف من قبل مواطن دولة طرف أخرى في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، حتى إذا لم تصادق هذه الدولة الثانية على تعديلات كمبالا. ومع ذلك، يجوز لهذه الدولة أن تمنع المحكمة من ممارسة اختصاصها القضائي في مثل هذه الحالة من خلال إصدار إعلان سابق، كما هو مشار إليه في المادة 15 مكرر (4) من النظام الأساسي، بأنها لا تقبل هذا الاختصاص. هذا «الموقف الأكثر تساهلًا»، كما يقال، لا يتعارض مع قانون المعاهدات، لأن المادة 5 (2) من النظام الأساسي الأصلي للمحكمة الجنائية الدولية مكنت الدول الأطراف من اعتماد «حكم … يحدد الشروط التي بموجبها تمارس المحكمة اختصاصها فيما يتعلق» بجريمة العدوان، والذي يعد قاعدة خاصة في هذه الحالة وإلى الحد الذي يختلف فيه عن الجملة الثانية من المادة 121 (5) من النظام الأساسي.
باختصار، لا يتعلق هذا الجدل القانوني إلا بالحالات التي لا يحيلها مجلس الأمن إلى المحكمة الجنائية الدولية. وفي مثل هذه الحالات، يتضح ما إذا كانت الدولة الطرف التي لم تصادق على تعديلات كمبالا يجب أن تكون قد أصدرت إعلانًا بموجب المادة 15 مكرر (4) من النظام الأساسي من أجل منع المحكمة من ممارسة اختصاصها القضائي على جريمة عدوان ناشئة عن فعل عدواني زُعم أنه ارتكبته تلك الدولة الطرف ضد دولة طرف أخرى صادقت على تعديلات كمبالا.
نيويورك: أعمال بناء جسر نهائي
خلال العملية التي تأسست قبل جلسة جمعية الدول الأطراف في ديسمبر/ كانون الأول 2017 لتسهيل قرار التفعيل، جرى تأكيد حقيقة أن وجهات النظر منقسمة حول هذه القضية مع تكرار الحجج القانونية المتضاربة.[23] وبالفعل في مارس/ آذار 2017، تقدمت كل من كندا[24] وكولومبيا وفرنسا واليابان والنرويج[25] والمملكة المتحدة بورقة لتوضيح التزامها بـ «الموقف التقييدي».[26] وردت ليختنشتاين ثم الأرجنتين[27] وبوتسوانا[28] وساموا وسلوفينيا[29] وسويسرا[30] بتقديم أوراق توضح بالتفصيل التزامها بـ«الموقف الأكثر تساهلًا».[31]
وكان من بين الطرق الممكنة للتعامل مع هذا الموقف ببساطة هو تفعيل اختصاص المحكمة وترك الأمر للمحكمة لتقرير المسألة القانونية، إذا ما نشأت. وانضم أكثر من 30 وفدًا إلى سويسرا في الدعوة لـ«نهج التفعيل البسيط».[32] لكن العديد من تلك الدول الأطراف التي تدعم «الموقف التقييدي» لم ترغب في المخاطرة بأن المحكمة قد تقرر، بعد تفعيل اختصاصها القضائي، عدم الأخذ بوجهة نظرهم. فهم يسعون بدلًا من ذلك إلى قبول موقفهم وتأكيده من جانب جميع الدول الأطراف كجزء من القرار المصاحب لقرار التفعيل. وبعد وقت قصير من اجتماع الدول الأطراف في نيويورك في 4 ديسمبر/ كانون الأول، قضى المندوبون، بتوجيه بارع من الميسرة النمساوية نادية كالب إلى جانب رئيس الوفد الكندي كونراد بولر،[33] ساعات طويلة في التفاوض وأظهروا درجة رائعة من الإبداع في المحاولات لبناء جسر نهائي بين النهجين المتعارضين.
كان جوهر هذا الجسر يتألف من السماح لكل من المعسكرين بالاحتفاظ بموقفهما القانوني وتزويد أي دولة طرف تدعم «الموقف التقييدي»، إذا رغبت في ذلك، بالمسار القانوني لحماية الاختصاص القضائي حال قررت المحكمة تبني «الموقف الأكثر تساهلًا». ويتمثل أحد الأشكال المقترحة لمثل هذا المسار القانوني في أن تتفق جميع الدول الأطراف على أن تتعامل المحكمة مع بلاغ الدولة الطرف «بموقفها التقييدي» لأمين المحكمة على أنه إعلان، كما هو مشار إليه في المادة 15 مكرر (4) من النظام الأساسي، إذا ما قررت المحكمة تبني «الموقف الأكثر تساهلًا».[34] أما البديل الثاني، كما وضعته البرازيل[35] والبرتغال ونيوزيلندا[36] فقد أتاح لأي دولة طرف، ترغب في ذلك، أن تدرج ضمن قائمة يضعها رئيس جمعية الدول الأطراف وتحال إلى أمين المحكمة، كي تقرر الجمعية أن المحكمة لن تمارس اختصاصها القضائي على جريمة العدوان التي وقعت «على أراضي أي دولة من تلك الدول الأطراف أو من قبل مواطنيها».[37]
إحراز تقدم دون جسر: ليلة لا تنسى في مقر الأمم المتحدة
ولكن في الساعات المتأخرة من جلسة الجمعية، تبين أن فرنسا والمملكة المتحدة لم تكونا على استعداد لعبور مثل هذا الجسر. وظل طلبهما على حاله: يجب على جميع الدول الأطراف قبول «الموقف التقييدي» كجزء من قرار جمعية الدول الأعضاء المصاحب لقرار التفعيل. خلق التعنت الفرنسي والبريطاني وضعًا صعبًا للغاية. من الناحية القانونية، كان من الممكن وضع مسودة للتصويت تتضمن «نهج التفعيل البسيط» أو «الجسر النهائي». ولكن بغض النظر عن أوجه عدم اليقين في التصويت،[38] فهل كان من الحكمة السماح بأن يطغى نزاع داخل جمعية الدول الأعضاء على مثل هذه الحساسية السياسية العليا؟ في هذا الصدد الأخير، استمعت العديد من الوفود إلى أشد الشكوك، بقدر ما كانوا يأملون أن تظهر فرنسا والمملكة المتحدة في النهاية روح التراضي، حيث لم يكن التفوق في الأصوات أمام أصوات فرنسا والمملكة المتحدة خيارًا حقيقيًّا. وهذا يعني أن المجموعة الكبيرة من الدول الأطراف التي تؤمن بصحة «الموقف الأكثر تساهلاً» أمامها خيار مؤلم؛ إما قبول اللغة التي تشير بقوة، من وجهة نظرها القانونية، إلى تغيير في تعديلات (كمبالا)، أو السماح بغلق النافذة المفتوحة لتفعيل اختصاص المحكمة حتى لحظة غير معلومة في المستقبل.[39]
وكان الوقت قد حان لاختتام المؤتمر من أجل السماح للوفود بأن تحدد رأيها فيما يتعلق بمشروع القرار الذي اقترحه نائبا الجمعية العامة اللذان خولت إليهما النمسا القيام بالمهمة النهائية. والأهم من ذلك أن «مشروع القرار الذي اقترحه نائبا الرئيس» يعكس الطلب الفرنسي والبريطاني[40] في صيغة الفقرة التالية من المنطوق:
جمعية الدول الأطراف …
تؤكد أنه وفقًا لنظام روما الأساسي، تدخل التعديلات على النظام الأساسي فيما يتعلق بجريمة العدوان التي اعتمدت في مؤتمر كمبالا الاستعراضي حيز النفاذ بالنسبة للدول الأطراف التي قبلت التعديلات بعد مرور عام على إيداع صكوك تصديقها أو القبول بأنه في حالة إحالة الدولة أو التحقيق التلقائي لا تمارس المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بجريمة العدوان عندما يرتكبها مواطن دولة طرف لم تصادق على هذه التعديلات أو تقبل بها أو على أراضيها؛ …
وبهدف تخفيف «الاستسلام غير المشروط» لطلب فرنسا والمملكة المتحدة، جرت صياغة الفقرة التالية على هذا النحو:
تؤكد مجددًا على الفقرة 1 من المادة 40 والفقرة 1 من المادة 119 من نظام روما الأساسي فيما يتعلق بالاستقلال القضائي لقضاة المحكمة؛ …
هذه اللغة ليست أكثر من مجرد بيان للحقيقة الواضحة التي مفادها أن الجمعية لا يمكن أن تحل محل المحكمة باعتبارها الهيئة القضائية المكلفة بتطبيق القانون باستقلال كامل. ولذلك كان من الصعب النظر في إدراج هذه الفقرة في اقتراح نائبي الرئيس على أنه أكثر من تنازل رمزي لمن يطلب منهم الاستسلام. ومع ذلك، كانت فرنسا غير راضية بشكل كامل وبدعم من المملكة المتحدة اقترحت نقل الفقرة الأخيرة إلى الديباجة. وعندما اعترضت سويسرا[41]، وصلت الأزمة في نيويورك إلى ذروتها، وكانت الاحتمالية التي لا تصدق تقريبًا تلوح في الأفق، بحيث إن الرحلة التي امتدت قرنًا من الزمان نحو وجود اختصاص جنائي دولي على جريمة العدوان ستنحرف عن مسارها في نهاية الأمر بسبب ما إذا كان يتعين وضع هذه الكلمات القليلة المطروحة في فقرة في الديباجة أو في فقرة المنطوق. وفي هذه المرحلة الحرجة للغاية، قدم المندوبون من جنوب أفريقيا[42] وساموا[43] والبرتغال[44]، كل بطريقته الخاصة، مساهمات قيِّمة لمنع انهيار المفاوضات. كما أن نائب الرئيس سيرجيو أوغالدي من كوستاريكا، بعد أن وجد أن الاقتراح الفرنسي قد قوبل بالمعارضة، سأل مرة أخيرة ما إذا كان اقتراح نائبي الرئيس يحظى بتوافق الآراء في القاعة. تبعت ذلك لحظة مثيرة من التشويق اتضح بعدها أن فرنسا والمملكة المتحدة قررتا عدم دفع الأمر إلى أقصى حد له، بحيث جرى تبني الاقتراح الذي تقدم به نائبا الرئيس في النهاية بالإجماع.[45]
لأن تنحني أفضل من أن تنكسر
بقبول الفقرة 2 من منطوق قرار التفعيل، قام عدد كبير من الدول الأطراف بتقديم تنازلات والذي كان أمرًا صعبًا للغاية خاصة بعد محاولة حميدة طويلة الأمد لبناء جسر بين رأيين قانونيين متعارضين. هذه الدول الأطراف تستحق الثناء. أولًا، لأنهم يؤمنون حقًّاً بموقفهم «الأكثر تساهلًا»، والخوف الواضح جدًّاً من الجانب المقابل بأن المحكمة قد تتفق مع هذا الموقف يؤكد فقط قوة الحجج المؤيدة له. وثانيًا، كانوا يشاركون بجهود مكثفة لبناء الجسور الحميدة، ليس فقط خلال جلسة الجمعية، ولكن أيضًا طوال عملية التيسير على مدار العام ليدركوا في النهاية أن الدولتين اللتين تتمتعان بموقف تفاوضي أكثر قوة لم تكونا على استعداد للاستجابة.
لآن يُطُلب منهما الإذعان.[46] وعند اتخاذ قرار بذلك،[47] أثبتت الدول الأطراف المعنية أنه على الرغم من كل هذا، لم تغب عنهم الصورة الأوسع. ومن ثم، فقد تمكنوا من إدراك أن الجدل القانوني الذي شغل تفكيرهم كثيرًا لفترة طويلة هو أمر تافه إذا نُظر إليه في ضوء البعد التاريخي لقرار تفعيل اختصاص المحكمة بتوافق الآراء داخل جمعية الدول الأعضاء.[48] ويصبح هذا البعد التاريخي أكثر وضوحًا إذا اعتبرنا أن ألمانيا[49] واليابان[50] وإيطاليا[51] لم تنضم إلى توافق الآراء فحسب، بل ساهمت كل دولة بطريقتها الخاصة في التوصل لهذا التوافق في الآراء. فقد كانت تلك الدول على وجه الخصوص، من خلال حروبها العدوانية قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية، هي التي وضعت أيضًا «النظام القانوني الجديد» (Hathaway and Shapiro) الذي أنشأه ميثاق كيلوغ – بريان محل الخلاف.[52]
المحكمة تتولى زمام الأمور
عملًا بالفقرة 1 من منطوق قرار التفعيل، سيتم تفعيل اختصاص المحكمة اعتبارًا من 17 يوليو/ تموز 2018. وبذلك تكون الدول الأطراف قد زودت المحكمة بمساحة أخيرة لإجراء التعديلات القليلة اللازمة لتمكين الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية الدولية للقيام بدورها القضائي غير المسبوق بموجب المادة 15 مكرر (8) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.[53] وبدءًا من 17 يوليو/ تموز 2018 فصاعدًا، سيكون على المحكمة أن تشير إلى الكيفية التي سيطبق بها القانون عمليًّا، والتي أصبحت جاهزة الآن في الكتب. قد يبدو من المستصوب أن يقوم مكتب المدعي العام بالإشارة في وقت مبكر إلى أنه سيأخذ على محمل الجد الرسالة الأساسية التي يرتكز عليها الشرط الحدي الوارد في المادة 8 مكرر (1) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية: وهو أن التعريف الجوهري لجريمة العدوان لا يغطي سوى استخدام القوة من قبل الدولة التي تصل إلى مستوى كبير من الجسامة والذي يُعد غير قانوني بشكل لا لبس فيه. إن مثل هذه الإشارة ستساعد في تبديد الشكوك المستمرة – والمفهومة [54]– في إمكانية تدخل المحكمة لإنهاء الخلافات القانونية حول الدفاع الاستباقي عن النفس والدفاع عن النفس[55] ضد أي هجوم مسلح من غير الدول[56] والتدخل الإنساني.[57] وبمجرد أن أصبحت الدول على ثقة من أن المحكمة لن تمارس اختصاصها القضائي على جريمة العدوان بخصوص هذه المجالات القانونية الجدالية، قد يكون من المأمول أن يزداد عدد المصادقات بشكل كبير، لأنه سيصعب للغاية على أي قوة منتصرة شارك قضاتها في حكم نورمبرج وطوكيو أن تشرح سبب عدم رغبتها في احتضان تركة مسارها الريادي بعد الحرب العالمية الثانية.
خاتمة: نداء غير كامل ولكن في الوقت المناسب لضمير البشرية
مما لا شك فيه أن التعريف الجوهري لجريمة العدوان ضيق (كتعريف لجريمة بموجب القانون الدولي) وأن حد الاختصاص القضائي لممارسة المحكمة اختصاصها على الجريمة أمر صارم (أكثر من المطلوب). ولكن سيكون من الخطأ التقليل من شأن التقدم الذي تم إحرازه في ديسمبر/ كانون الأول 2017 في نيويورك. لقد تخطت روسيا مؤخرًا الخط الأحمر وضمت أراضي أجنبية إلى أراضيها بالقوة.[58] وقد تبادلت كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية التهديدات العسكرية بالحرب النووية. وفي وقت كتابة هذا المقال، بدأت تركيا غزوًا عسكريًّا كبيرًا في سوريا دون أن تولي اعتبارًا لفكرة أن حظر استخدام القوة له أهمية بالغة.[59] وفي مثل هذا المنعطف، فإن الإشارة المرسلة إلى ضمير البشرية من خلال تفعيل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على جريمة العدوان قد جاءت في وقتها.
كلاوس كريس (Claus Kress) فقيه قانوني ألماني بارز. يشغل منصب أستاذ القانون الجنائي ومدير معهد السلام الدولي والأمن في جامعة كولون. عمل في السابق مستشارًا لدى الوفد الألماني في المفاوضات حول تعريف جريمة العدوان. العنوان الأصلي للدارسة هو «حول تفعيل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على جريمة العدوان»
(On the Activation of ICC Jurisdiction over the Crime of Aggression) وقد نُشرت في الأصل بالإنجليزية في «مجلة العدالة الجنائية الدولية»، العدد 16 عام 2018. نقلت سالي طلال هذا النص إلى العربية، وقد تُرجم بإذن خاص من المؤلف.
اضغط هنا للاطلاع على الهوامش الكاملة للدراسة.
الآراء المنشورة في هذه الدراسة لا تعبر بالضرورة عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
تعليقات