بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، تسلط اللجنة الدولية للصليب الأحمر الضوء على نساء فلسطينيات من قطاع غزة لجأن إلى إعادة تدوير الثياب المطرزة القديمة وبقايا الطعام وأوراق الأشجار الجافة والورق لإنتاج تحف فنية ومشغولات مطرزة جديدة وألواح رسم. وقد ساعدهن هذا على إدرار الدخل وتحسين ظروف المعيشة، وتحفيز نساء أخريات على أن يَحْتَذِينَ حذوهن، علاوة على المساهمة الأصلية في الحفاظ على التراث الفلسطيني الغني.
التصقت المرأة الفلسطينية عبر تاريخها بالأرض والهوية. وبحكم اهتمامها بالتفاصيل الدقيقة والجمال، فقد برعت في إعادة تدوير ما يمكنها الاستفادة منه مدفوعة بالوعي بأهمية الحفاظ على البيئة والتراث، وبالرغبة في إيجاد طرق غير تقليدية للعمل وكسب العيش.
أثواب لا تقدر بثمن
سلوى عثمان الخالدي، 57 عاماً، من مدينة غزة، متزوجة ولديها خمسة أبناء من الأولاد والبنات. تعمل سلوى على إعادة تدوير الثياب المطرزة القديمة لإنتاج قطع من التطريز كالثياب الحديثة والفساتين ومفارش الطاولات وأغطية وسائد وحلي.
تقول سلوى: «عشت بين الثياب المطرزة أكثر من ثلاثين عاماً. بنظري، كل قطعة تطريز يُمكن إعادة استخدامها و تقديمها بطريقة جديدة . يعود عُمر بعض الثياب لدي إلى أكثر من سبعين سنة. لا يمكن أن تُقدر هذه [الثياب] بالمال. حين أنظر إلى تفاصيل الثوب وتنسيق الألوان، أقدّر المجهود والوقت اللذان وضعتهما فيه من طرزته. أشعر أن هذه الثياب قطعة من قلبي ولا يمكنني التخيل أن تُلقى في القمامة، لذا نقدمها بشكل جديد مثل مفارش طاولات ومعاطف وفساتين أفراح وقطع حلي ودمى».
وتضيف سلوى قائلة: «غمرتني سعادة كبيرة حين وُضع فن التطريز الفلسطيني ضمن قائمة التراث الثقافي العالمي [لليونسكو]، فكيف لنا نحن ألا نحافظ عليه؟ أشعر أن هذا دوري في الحياة وهو ما يعطيني قيمة. أنا أنظّم دورات تدريبية مجانية للنساء في مجال التطريز وإعادة التدوير. وبعد الانتهاء من الدورة، تتمكن السيدات من بدء مشاريعهن الخاصة. كما أنني أدعم أولئك اللواتي يفضلن العمل معي. في هذا المكان الصغير الذي كان مخزنا مهملاً في البيت وتحوّل إلى مكانٍ مفعمٍ بالدفء، تعمل معي الآن أربعين امرأة كلهن مسؤولات عن إعالة عوائلهن. هذا المكان لم يعد مكاناً للعمل فقط وإنما أصبح ملتقى اجتماعي تقدم النساء فيه الدعم لقريناتهن. تلقى منتجاتنا رواجاً خارج البلاد ونستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتلقي الطلبات من الزبائن.»
«ليس الثياب وحسب ما يمكنني بيعه بعد إعادة تشكيله، ولكن أيضاً أدوات المطبخ، من أكواب وأطباق أقوم بالرسم عليها وتحويلها إلى قطع فنية جميلة.»
استثمار المواهب
صابرين السيلاوي، 41 عاماً، من مدينة غزة، متزوجة ولديها ولدان وثلاث بنات. تعمل شيف صابرين -كما تحب أن يلقبها الناس- في مطبخها لإعداد أطباق فلسطينية تقليدية مثل السماقية والمعجنات، وتعمل على تسويقها في المعارض وعبر منصات التواصل الاجتماعي.
تقول صابرين: “تزوجت في سن مبكرة على الرغم من تفوقي في الثانوية العامة بسبب عدم مقدرة أبي على الإنفاق على تعليمي في الجامعة. وبقي التعليم حلم يراودني. بعد إنجاب ابني الثاني، حاولت الالتحاق بالتعليم مرة أخرى، وتدهور وضع العائلة الاقتصادي حين فقد زوجي عمله. لم يكن أمامي سوى التفكير في أي وسيلة تساعدني على إعالة أسرتي. بدأت من الصفر، لم أمتلك رأس مال، استثمرت موهبتي في الرسم والفنون. بدأت بإعادة استخدام كل شيء حولي مثل الحقائب المصنوعة من القش والأواني الفخارية وقشور الفستق الحلبي وأقمشة الفساتين القديمة لصناعة المزهريات والقطع الفنية المنزلية. كنت أصطحب أطفالي إلى الحدائق العامة للعب وأجمع أوراق الشجر الجافة. كنت أعود بها إلى المنزل وأبدأ بتشكيلها وصناعة الزهور منها وبيعها بعد رشها بألوان مختلفة. لقد بعت منتجاتي في الدكاكين القريبة والمعارض التي تقيمها منظمات محلية لدعم النساء إلى أن أصبح لدي ما يكفي من المال للإنفاق على أولادي. واستطعت أيضاً تحقيق حلمي في التعليم، فحصلت على درجة الدبلوم في الفنون الجميلة”.
تقول صابرين: “لقد ضعفت قدرة الناس على الشراء في السنوات الأخيرة، وأصبحت العائلات تفضل الإنفاق على الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والدواء. بدأت بتحضير الأطباق الفلسطينية التقليدية الرائجة وبيعها. شاركت في مسابقات في فن الطبخ وحزت على الميدالية الذهبية في مسابقة طبق السماقية، كما طورت من الأطباق التي أنتجها وأضفت إليها المعجنات وأطباق الحلويات المختلفة وأقوم بتسويقها عبر منصات التواصل الأجتماعي.”
وتضيف: “بطبيعتي، أعشق الزراعة والأرض. ولضيق مساحة بيتي، أستخدم أواني المطبخ القديمة كقواوير للزراعة أضعها على شبابيك المنزل، أزرع فيها الريحان والنعناع والزعتر البري وأجفّف بذور البندورة والفلفل الحار والفلفل الحلو وبقايا البصل الأخضر التي أستخدمها في إعداد الوجبات، أزرعها وأستخدم الثمار مرة أخرى. كما أنني أُعدّ السماد المنزلي من باقي المخلفات، وبهذا أقتصد في تكاليف الإنتاج وأضمن أن الأطباق والمعجنات التي أُعدّها صحية”.
أفكار تستحق
هدى ثابت، 48 عاماً، وُلدت في مخيم اليرموك بسورية وعاشت في العراق. درست هدى الأدب الإنجليزي في الجامعة الأردنية وعادت إلى غزة قبل عشرين عاماً. أطلقت هدى سلسلتها الأدبية التعليمية لليافعين التي تُدعى «عسل» للتوعية حول المفاهيم الاقتصادية والتعاملات المالية والوقاية من كوفيد-19 والدمج المجتمعي للأشخاص ذوي الإعاقة والانضباط البيئي.
تقول هدى: “اعتُمدت سلسلتي الأدبية التعليمية في مدارس قطاع غزة وأصبحت ضمن الأنشطة اللامنهجية والمكتبية في المدارس. أقوم أيضاً بتدريب الطلبة اليافعين على الكتابة الإبداعية، وبعد تنقيح نصوصهم تُنشر هذه النصوص في كتيبات مرفقة برسومات طلبة موهوبين في الرسم. تكدس لدي مئات المسودات من نصوص الطلاب، بيتي امتلأ بالأوراق، وأدركت أن هذا الورق سيُلقى في مكبات النفايات أو سيُحرق ويلوث دخانه البيئة، ومن هنا جاءتني فكرة إعادة تدوير الورق”.
وتضيف: “بحكم اطّلاعي، كنت ألتقي بطلبة الفنون الجميلة الذين يستخدمون القماش في التدرب على الرسم. تكلفهم كل قطعة قماش للرسم 20 شيكل، أي ما يعادل 6 دولارات أمريكية، وهذا عبء مالي لا يستطيع الطالب تحمّله. فجاءتني فكرة عمل ألواح صلبة من الورق للطلاب والفنانين، إذ يمكنهم استخدامها أكثر من مرة. بدأت بالقراءة حول الموضوع وبالتجربة والخطأ. تعلمت الكثير، ساعدتني أختي وبدأنا بفرم مسودات النصوص التي يرسلها لي طلبة المدارس. تواصلت مع المؤسسات والبنوك للحصول على الورق المفروم الذي يودون التخلص منه. ساعدتني أختي في رسم مخطط لمكبس للورق وقمنا بصناعته في إحدى الورشات وبدأنا بالعمل. ننقع الورق المفروم في الماء ونضيف بعض المواد إليه، ومن ثم نقوم بكبسه وتجفيفه باستخدام مناخل للتخلص من الماء، وبعد أن يجف نقوم بسنفرته وطلائه باللون الأبيض.”
“جرب طلبة الفنون الجميلة الرسم على الألواح الورقية مستخدمين أنواعاً مختلفة من الألوان الخشبية والفحم والألوان الزيتية والأكريلك والألوان المائية، وكانت النتائج مرضية للغاية. مشروعنا هو الوحيد من نوعه في غزة، نحافظ فيه على البيئة ونقلل التكاليف على الطلبة والفنانين. يُشغّل المشروع ثلاثة عمال بالإضافة إلي أنا وأختي. يرسل الفنانون لوحاتهم لنا ونساعدهم على بيعها. نستطيع الآن إنتاج عشرين لوحاً من الورق كل عشرة أيام. أسعى للحصول على تمويل لشراء مكبس مناسب وفرن لتجفيف الألواح لتطوير هذه الفكرة الرائدة، فهي حقاً تستحق.”
مكان تحت الشمس
هناء الغول، شابة من غزة درست الإخراج المسرحي، وهي كاتبة سيناريو ومدربة دراما. تمكنت هناء مع زملائها الثلاث من تحقيق حلمهم في خلق مساحة ” البحر إلنا”.
تقول هناء: “كغيرنا من الشباب، لم نحظ بفرصة للعمل، وكان لا بد من إيجاد طريقة لنشعر بقيمتنا. نجحنا في جلب تمويل لمبادرة لتعليم المسرح من منظمة دولية، وقمنا بتدريب الفتيات والشبان على فنون المسرح، واخترنا البحر مكاناً للتدريب. واجهت الفكرة تحفظاً من المجتمع. ولدعم الفتيات، دعونا عائلاتهن لمشاهدة التدريبات، ونجحنا في الإبقاء على المشاركات بل وحظين بتشجيع الأهل. انتهى المشروع وعدنا من حيث بدأنا. نحاول إيجاد مكان لنا تحت الشمس”.
“لم يكن الطريق سهلاً أبداً. جاءتنا الفكرة كفنانين مسرحيين من منطلق الإحساس بالمسؤولية تجاه مجتمعنا، فالبحر هو متنفس أهل غزة الوحيد. وأحزننا ما نشاهده من مخلفات بلاستيكية على الشاطئ بعد مغادرة المُصطافين. خضت الكثير من النقاشات مع زملائي، وفي إحدى الأيام سألني زميلي علي مهنا: “البحر لمين؟” طرح زميلي علي السؤال على بعض المصطافين واختلفت الإجابات، فقال البعض أن البحر للحكومة، وأجاب آخرون أنه للبلدية، وقالت مجموعة ثالثة أنه للعائلات القاطنة بمحاذاة البحر. ودون تفكير، قلت: “البحر إلنا”، وقصدت بها الناس. جميعنا يتحمل مسؤولية الحفاظ عليه وعلى شاطئه من التلوث، فإن لم نبادر نحن المسرحيين التنويريين بهذا الدور فمن إذاً سيقوم به. تحملنا من التنمر والاستهزاء ما كان كافياً لوأد الحلم ولكنني أؤمن بالإنسان وبقدرتنا كشباب على التغيير”.
يقول علي: “في كل مرة كان يصيبنا الإحباط كان شغف هناء وتصميمها على المضي قدماً يُعيدنا إلى الطريق، فهي ترى الأمور من زاوية مختلفة. وجود هناء كان قوة دافعة لنا”.
وتضيف هناء: ” لم يكن لدينا سوى فكرة وإيمان بضرورة وجود مساحة جميلة ونظيفة على شاطئ البحر، واعتمدنا على الأرض الصلبة التي لا يمكن لأحد أن يختلف عليها، شاطئ خالٍ من التلوث، ومكان يليق بالمصطافين. تهدف مبادرة “البحر إلنا” والمساحة التي وفرتها إلى خلق إحساس بالملكية والهوية الجمعية للاهتمام بالبيئة. أردنا أن نكون قدوةً للآخرين، فقمنا بإعادة استخدام كل ما وجدناه. شبابيك مكتبنا هي أبواب غسالات قديمة، والباب أخذناه من ثلاجة مهملة، أما الكراسي فهي مصنوعة من خشب صناديق البضائع وإطارات السيارات، قمنا بتلوينها فأضافت قيمة جمالية إلى المكان.”
تكمل هناء: “مشروع “البحر إلنا” لا يقدم المشروبات والمأكولات كباقي أماكن الاصطياف على البحر، إذ يستطيع المصطاف أن يجلب ما يريد تناوله معه، و يمكن لأي مصطاف أن يُعدّ الشاي والقهوة، فقد وفّرنا موقداً صغيراً لذلك الغرض. كما أنه لا يوجد عمال نظافة هنا، فكل المصطافين مسؤولون عن نظافة المكان. يرتدي علي رداءً أبيض مطبوعاً عليه عبارة “طبيب البحر” ويطوف بين المصطافين. وحين يرى أي مخلفات بلاستيكية، يبادر بالشرح بأن هذه المخلفات تسبب المرض للبحر، فهو كائن مثلنا. لاقت الفكرة رواجاً بين الناس لندرتها. تحولت إلى عقد اجتماعي بين الناس والبحر، فتعاون الناس معنا وبدأوا بالتبرع بما يريدون التخلص منه، مثل السجاد وألعاب أطفال وكتب. بنينا مكتبة من جريد النخيل وخشب صناديق البضائع، وأقمنا مسرحاً. تأثر المسرح والمكتبة أثناء تصعيد أيار/ مايو من العام الماضي، وها نحن نعيد ترتيب المكان استعداداً لموسمٍ جديدٍ لتنبض الحياة فيه مرة أخرى، فالبحر لنا”.
وفقكم الله واعانكم و نصركم على من عاداكم.
وفقكم الله واعانكم
الله يكون معهم