«غياب حاضر».. مسرحية تستكشف الفقد والذاكرة

ثقافة / قضايا إنسانية

«غياب حاضر».. مسرحية تستكشف الفقد والذاكرة

مشهد من مسرحية «غياب حاضر» يظهر شخصيات تجسّد معاناة أهالي المفقودين على خشبة المسرح (تصوير: فرح رمضان)

تتنوع قصص المفقودين وأسباب الفقد بقدر أعدادهم التي تزيد سنة بعد سنة نتيجة النزاعات المسلحة المتنامية حول العالم. وبالرغم من هذا التباين، تتقاطع تلك القصص عند عائلات المفقودين وما تتركه من ألم نفسي عميق يصعب شفاؤه. هذا العام، وبمناسبة اليوم العالمي للمفقودين، عرضت في عمّان مسرحية بعنوان «غياب حاضر» من كتابة وإخراج صبا البيطار وبدعم من اللجنة الدولية في الأردن، لتجسد معاناة أربعة أشخاص فاقدين لأحبتهم. وقدم العمل في قالب فني اتخذ من جلسات الدعم النفسي إطاًرا له.

يسلط النص المسرحي «غياب حاضر» الضوء على الألم النفسي العميق الذي يعاني منه أهالي المفقودين. فكلمة «مفقود» تختصر حالة من القلق، والتشويش، وعدم المعرفة، وعدم الاستقرار. تؤثر هذه الحالة على كل جوانب حياتهم، من تربية الأبناء إلى التعامل مع المؤسسات والمجتمعات. ويغذي الأمل المستمر في العثور على المفقودين المعاناة، خاصة حين تغيب المعلومات عن مكانه، أو حتى مكان رفاته.

تقول الكاتبة والمخرجة الأردنية صبا البيطار إن «الدافع الأساس لكتابة هذه المسرحية كان رغبتي في منح أصوات للعائلات التي تعيش مع غياب أحبّتها دون يقين». وبالرغم من أن «البيطار» ليس لديها تجربة شخصية مباشرة مع الفقد إلا أنها تشرح أنه «من خلال عملي في المجال الفني والثقافي ومع المجتمعات المتأثرة بالصراعات، استشعرت الألم والصمت المحيط بقضية المفقودين، وشهادات الآخرين وتجاربهم تركت أثرًا عميقًا في داخلي».

وتضيف: «غياب الفرد لا يخصه وحده، بل يترك حياة العائلة بأكملها معلّقة بين الأمل واليأس. وقد أردت من خلال هذه المسرحية أن أظهر أنّ غياب الشخص لا يعني غياب أثره، وأن العائلات لا تتوقف عن العيش رغم الألم». مشيرة إلى أن «الرسالة الأساسية هي أنّ الانتظار والغموض يصبحان حالة وجودية بحد ذاتهما، وأن الاعتراف بمعاناة العائلات خطوة أساسية نحو العدالة والتعافي».

 أربع شخصيات وأربع قصص

تدور أحداث «غياب حاضر» داخل جلسة دعم نفسي تضم أربع شخصيات: سُلاف (بيسان جعارة) التي فقدت والدها، وعبد المنعم (وليد أبو نعمة) فقد أخاه، ووردة (مجد حجاوي) فقدت زوجها، وعايدة (لانا مشتاق) فقدت ابنها. تتبادل الشخصيات استرجاع ذكريات أو قصص خاصة بأحبائهم المفقودين. ويعبرون عن أحاسيسهم وآلامهم، ويواجهون أثر هذا الغياب في حياتهم اليومية تارة بالانتفاض على واقعهم وطورًا بالتسليم به.

وحول أسباب اختيار هذا الإطار تشرح البيطار أنه «يمنح العمل طابعًا جماعيًا ويبرز قيمة المشاركة والإصغاء وكسر الصمت». وتضيف أن «جلسة الدعم النفسي تتيح للشخصيات التحدث بحرية، وكأنها في مساحة آمنة، ويعكس حاجة المجتمع إلى الاحتواء والتفريغ. كما أنه يقرب المتلقي من التجربة ويجعله شريكاً في الإصغاء والتأمل».

استوحت البيطار الشخصيات من مزيج قصصٍ حقيقية وأخرى من وحي الخيال. تقول المخرجة: «أجريت مقابلات مع أفراد يعيشون تجربة فقدان قريب وبنيت القصة الأساسية على نتائجها. لم أنقل قصة بعينها، بل سعيت لتجسيد جوهر التجارب المشتركة لدى العائلات».

يبرز النص أن المعاناة ليست فردية، بل رحلة مشتركة تخفف جلسات الدعم الجماعي وطأتها. وتكشف الشخصيات المختارة: الأخ، الزوجة، الابنة، والأم كيف يؤثر الفقد على البنية الأسرية، وكيف يتوزع الحزن في تفاصيل العلاقات اليومية. وهي تتشارك تجاربها ليشعر كل منهم أنه ليس وحيدًا. وتمنحهم تلك الجلسات الشجاعة للتعبير عن مشاعرهم وتساعدهم على تجاوز الشعور بالوحدة، لينعكس ذلك على علاقاتهم بأبنائهم وعائلاتهم، كما يختم النص، فيصير التواصل أكثر انفتاحًا وصدقًا.

طقوس رمزية تقاوم الغياب

وقد وظفت الكاتبة رموزًا وأغراضًا شخصية من مقتنيات الغائب لتحويل المسرح إلى مساحة أكثر حميمية، وإبراز فكرة أن إحساس الفقد يتغلغل في أدق تفاصيل الحياة اليومية، وأن المفقود إنسان من لحم ودم وذكريات لا مجرد ملف. فاستخدمت بدلة بيضاء، وعجن الخبز، و«مكعب روبيك»، ولعبة الحجلة (القفز على رجل واحدة)، كأوعية للذاكرة. تفسر البيطار: «ترمز البدلة إلى الغياب، والخبز إلى الاستمرارية والتجدد، ومكعب «روبيك» إلى عبثية الانتظار واستعصاء الحل. أما الحجلة فتعيد براءة الطفولة في مواجهة مأساة الكبار».

تنتهي المسرحية بطقوس رمزية تقاوم الغياب؛ فتعود عايدة لخبز الخبز الذي أحبه ابنها، وتكوي وردة الجاكيت الأبيض لزوجها. وتسترجع سلاف مع أمها ألبومات الصور لتتذكرا الأب. تشرح البيطار أن تلك الأفعال «هي محاولات لإعادة ترتيب الفوضى، ومنح معنى في ظل المجهول. فكوي الجاكيت وخبز الخبز إشارتان لاستمرارية الحياة، فهي لا تتوقف رغم الانتظار وترجمة للذاكرة في أفعالٍ صغيرةٍ تبقي الروح حية. وبداية رحلة طويلة للتذّكر والتعافي من الحزن والقدرة على إعادة بناء الذات».

يمكن مشاهدة مسرحية «غياب حاضر» هنا:

 فريق عمل المسرحية

كتابة وإخراج: صبا البيطار (الأردن)

تمثيل: بيسان جعارة (فلسطين-الأردن)، لانا مشتاق (العراق-مصر)، وليد أبو نعمة (الأردن)، مجد حجاوي (الأردن).

التأليف الموسيقي وتصميم الصوت: إيهاب الخليلي (الأردن)

تصميم الإضاءة: محمد عميرة (الأردن)

Share this article

تعليقات

There is no comments for now.

Leave a comment