ثمانونَ عامًا مرّت منذ أن استيقظ العالم على نارٍ ذرّيّة لم يُرَ مثلها من قبل. ففي السادس من آب/أغسطس أُلقيت قنبلة على هيروشيما، وفي التاسع منه تلاها سقوط قنبلة أخرى على ناغازاكي. بين هاتين الصاعقتين يكتب الجرّاح الياباني ميتشيهيكو هاتشيا(1) يوميات هيروشيما(2)، راسمًا لحظةً إنسانيّة كثيفة هي أقرب إلى شقٍّ في جدار الزمن؛ لحظة صباح 9 آب/أغسطس 1945 حيث تتناسل الحرائق، ويتهامس الناس باسم السلاح الغامض «بيكا-دون». يبدأ هذا المدخل في الصفحة 15 من الترجمة العربيّة(3)، حسب فهرس الكتاب، ويُنشَر أدناه كما ورد في الأصل، بلا أيّ تنقيح أو اختصار، وفاءً لأمانة الشهادة وشدّة وقعها.
6 أغسطس 1945
كان الوقت مبكرًا، لازل الصباح دافئًا جميلًا، انعكس ضوء الشمس على أوراق الشجر، وبدت السماء صافيةً فعكست الظلال على حديقة منزلي بينما كنت أحملق شاردًا في السماء عبر الأبواب الواسعة في اتجاه الجنوب.
كنت لا أرتدي سوى الفانلة والسروال القصير، مستلقيًا على الأرض بغرفة المعيشة منهك القوى حيث عدّت من المستشفى بعد أن سهرت ليلة كاملة قمت خلالها بالعمل كمراقب للغارات الجوية فبمستشفاي.
وفجأة لمع بريق ضوء أمام عينيَّ، ثم تكرر نفس المنظر، ولا أكاد أتذكر ما حدث على وجه الدقة، كل ما أذكره أن الفانوس الحجري الذي كان موجودًا في الحديقة أصبح مضيئًا، ولم أدر ما إذا كان هذا الضوء نتيجة اشتعال مغنيسيوم أم نتيجة شرارات صدرت عن الترام الذي يمر بجوار منزلنا.
بدأت التحرك بذهول محاولاً الهرب ولكن الأنقاض عاقت سبيلي، وتمكنت بعد جهد جهيد من أن أصل إلى الشرفة وأهبط الدرج إلى الحديقة، وأخذ الوهن يدبُّ في جسدي فوقفت حتى أستجمع قواي لأكتشف بدهشة بالغة أنني عار تمامًا. ما أقبح هذا! أين سروالي وفانلتي؟ وماذا حدث؟
كان جنبيَ الأيمن مثخنًا بالجراح ينزف دمًا وثمة شظيةٌ كبيرةٌ تبرز من جرح متهتِّكٍ في فخذي، وشيءٌ دافئٌ أحس به في فمي أما خدودي فقد تمزقت وتحسَّست وجهي بحذر لأكتشف أن شفتي السفلى قد شجَّت شجًّا واسعًا، وعلى رقبتي كانت هناك شظايا متناثرة من الزجاج أخذت أزيحها بصعوبةٍ بالغةٍ وأتفحّصها بذهولٍ والدماء تخضب يدي.
تُرى أين زوجتي؟
فجأةً أخذت أصيح بانزعاجٍ شديدٍ مناديًا عليها “يائيكو أين أنتِ؟”
واستمرّ الدّم ينزف بغزارة، ترى هل قُطِعَ شرياني السباتي؟ وهل سيظل دمي ينزف حتّى أموت؟ ووجدت نفسي أصيح بخوف وفزع: “إنها قنبلة وزنها خمسمائة طن، يائيكو أين أنت؟ لقد سقطت قنبلة وزنها خمسمائة طن”. وبرزت يائيكو مكفهرَّة الوجه خائفةً ممزقة الثياب والدّم ينزف من جروحها. برزت من تحت حطام المنزل تتحسس كوعها، وحين رأيتها هدأ روعي وحاولت أن أُهدِّئَ من روعها، فقلت: “سيصبح كل شيء على ما يرام، كل ما علينا أن نفعله الآن أن نخرج من هنا بأسرع ما يمكن.”
فأومأت برأسها وأشرت لها أن تتبعني. وكان الطريق الأقصر إلى الشارع يمر عبر باب منزلنا الخلفيِّ ولذلك اضطررنا أن نمرّ عبر المنزل، نجري ونتعثّرُ ونسقط ثم نجري مرّة أخرى حتى بلغنا الطريق. وأثناء فرارنا أحسستُ أنني أدوس على رأس إنسان فصحت بجنون: “عفوا يا سيدي عفوا!” ولكنني لم أتلقَّ إجابة. كان الرجل ميتًا، وكانت الجثة لضابطٍ شابٍ سُحِق جسده تحت بوابة حديدية ضخمة.
وقفنا في الشارع فزعَين خائفَين حتى شاهدنا المنزل المقابل لبيتنا يتداعى دفعةً واحدةً وتتناثر أنقاضه عند أقدامنا. وبدأ بيتنا يتهاوى بدوره وخلال دقيقة واحدة انهار أيضا تاركًا سحابة من التراب. وأخذت بقية المنازل تتقوّض وتتساقط ثم اشتعلت النيران وزاد من لهيبها اشتداد الرياح التي بدأت تهب بقوة.
وأخيرًا تبادر إلى أذهاننا ألا نظلّ في الطريق وأن نواصل السير حتى المستشفى، فقد فقدنا منزلنا وأصبحنا نعاني من الجراح، ونحتاج إلى العلاج؛ وفوق كل ذلك فإن واجبي يحتِّم عليَّ أن أكون بين الذين يعملون معي في المستشفى، ولكن هذا الخاطر قطعه إحساسٌ بما أنا فيه. تُرى كيف أستطيع أن أُؤَدّي واجبي وأنا مصاب إلى هذا الحد؟!
…كنت لا أزال عاريًا تمامًا، ولكنّي لم أشعر على الرّغم من ذلك بالخجل، وأزعجني أن أكتشف أن التواضع قد ذايلني، فعند منعطف من الطريق، وجدنا جنديًّا يقف في الشارع مذهولًا لا يدري ماذا يفعل، وكانت معه منشفةٌ كبيرةٌ فوق كتفيه، فطلبت منه أن يعطيني إياها لأستر بها عورتي، فناولني الجنديّ المنشفة دون أن ينطق ببنت شفة، وبعد ذلك بقليل فقدت هذه المنشفة، فخلعت زوجتي يائيكو مريلة الطبخ ولفتها حول فخديّ.
كنا نتجه نحو المستشفى ببطء شديد حتى تيبّست قدماي وعجزتا تمامًا عن حملي، وفقدت القوة والرغبة في متابعة السير، فطلبت من زوجتي التي كانت إصابتها أيضا بالغة أن تذهب إلى المستشفى وحدها فرفضت، ولكن لم يكن أمامنا خيارٌ آخر، فذهبت وحدها عساها تجد هناك من يستطيع حملي إلى المستشفى. نظرت يائيكو إلى وجهي لحظةً ثم أخذت تجري نحو المستشفى دون أن تنبس كلمةً واحدةً، نظرت إليّ أثناء جريها مرّة واحدة ولوحت بيدها ولكنها اختفت تمامًا وسط الظلام، فقد كان الجو مظلمًا عندئذ، وبعد أن ذهبت زوجتي شملني إحساسٌ شديدٌ بالوحدة.
ويبدو أنني فقدت الوعي بعد ذلك لأن كل ما أذكره أنه بينما كنت أرقد في الطريق اكتشفت أن جرح فخذي عاد ينزف بغزارة وضغطت بيدي على مكان الجرح فتوقف النزيف وأحسست ببعض التحسّن.
تُرى هل أستطيع المضيّ في طريقي؟
وحاولت السير، كان ذلك كله بالنسبة لي بمثابة كابوسٍ مزعجٍ تختلط فيه مناظر جراحي مع الظلام مع الطريق. كان تحركي بطيئًا أما ذهني فكان يعمل بسرعةٍ فائقةٍ…
وتوقفت لأنال قسطًا من الراحة، وأخذت الأشياء من حولي تتّضح رويدًا رويدًا. كانت أشباح الناس تبدو لناظري: بعضهم يسيرون كالأشباح، وبعضهم الآخر يتأوهون من الألم وقد رفعوا أذرعهم بعيدًا عن أجسامهم، وقد تدلت سواعدهم وتأرجحت أكفهم فبدوا مثل خيال المقاتة، فاحترت في تعليل سلوكهم هذا حتى تبيّنت فجأة أن أجسادهم محترقة، وأنهم يرفعون أذرعهم ليتجنبوا آلام احتكاك الجروح مع بعضها البعض. وبدت أمامي سيّدة عارية تمامًا تحمل طفلًا عارًيا، فغضضت البصر وقلت لنفسي: “ربما كانا في الحمّام العام عندما وقع الحادث”. ولكنني رأيت بعد ذلك رجلًا عارًيا، كما أنني نفسي كنت عاريًا، فأيقنت أن ثمة شيء غير عادي أدى إلى فقد الناس لثيابهم. وإلى جانبي كانت هناك سيدة عجوز ترقد وقد انطبع على وجهها تعبير الألم دون أن يصدر عنها أيّ صوت. كان الجميع يشتركون في شيء واحد هو الصمت المطبق….
نُشر هذا الموضوع في العدد 59 من مجلة الإنساني الصادر في صيف 2015.
(1) طبيب ياباني ومدير مستشفى المواصلات في هيروشيما إبّان الحرب العالمية الثانية، دون يومياته بعد إلقاء القنبلتين على هيروشيما وناغزاكي ↩︎
(2) وثيقةٌ تاريخية إنسانية تصوِّر أبعادَ مأساة هيروشيما والآثار التي ترتَّبت عليها، مكتبة الخانجي بمصر. يمكن تحميل الكتاب من هنا. ↩︎
(3) تعريب المؤرخ المصري المرموق الدكتور رؤوف عباس حامد ↩︎

تعليقات