في اللحظة التي دخلت فيها فاطمة مركز إعادة التأهيل البدني في حلب، لم يكن في مشيتها ما يدل على بطولة، ولا في ملامحها ما يوحي بأن معجزة تنتظرها عند باب المركز. كانت تسير كما النساء اللواتي أُجبرن على أن ينسين أحلامهن، فلم يبق لهن من الحياة إلا ما يستطعن حمله في قلوبهن، من صبرٍ أو وجع.
لم تكن فاطمة تطلب الكثير. كانت تريد فقط لحظة قصيرة تخون فيها الذاكرة، فتتراجع صور الألم، ويتسع صدرها لنفس لا يقطعه الخوف. ولم يكن المركز عندها أكثر من وسيلة تُجربها، لعلها تجد فيها ما يعينها على المضي قدمًا.
ومن بين الوسائل التي لجأت إليها، كان التخيل الذهني الموجّه، أحد أكثر الأساليب الفعالة والمعتمدة علميا في مجال الرعاية النفسية، إذ يساعد الأفراد على التخفيف من وطأة الضيق النفسي وتسكين الألم، عبر استحضار صور لمشاهد ذهنية مهدئة، بمرافقة إرشادات صوتية أو بصرية تعينهم على خوض هذه الرحلة الذهنية بلطف وأمان.
ومع ذلك، لم تكن الطريق ميسرة للجميع، كان البعض يجدون مشقة في استحضار تلك الصور في أذهانهم بوضوح، وكأن الهموم أثقل من يزيحها الخيال وحدة. وكان لابد حينئذٍ من يد تمتد إليهم بحساسية ورفق، تفهم ما يعانون بوضوح، وتعزز من قدرتهم على الاستفادة من التجربة، فلا تكون مشقة جديدة تضاف إلى ما يحملون.
هنا يأتي دور الواقع الافتراضي، التكنولوجيا التي تفتح أمام الإنسان نافذة نحو عوالم رقمية ثلاثية الأبعاد، تُشعره وكأنه غادر حدود الألم والضيق إلى فضاء أكثر هدوء وسلامًا. في المركز التابع للجنة الدولية للصليب الأحمر في حلب، خاضت فاطمة هذه التجربة الجديدة بشجاعة، لتكتشف من خلالها بصيص أمل وسكينة وسط ظروف قاسية.
جلست فاطمة بهدوء في مركز إعادة التأهيل البدني التابع للجنة الدولية للصليب الأحمر في حلب، يغمرها صمت ثقيل، بينما يسرح ذهنها نحو ابنتها الصغيرة، تلك الروح البريئة التي تكافح قسوة الحياة.
لم يكن طريق ممهدا، بل كان مسارا شاقا مليئًا بزيارات المشافي والإجراءات الطبية المعقدة. وكان أصعب ما فيه أن عيني فاطمة لم تعد قادرتين على النظر إلى وجع الصغيرة، إذ باتت كل نظرة كأنها طعنة، وكل طعنة كانت تثبت عجزها عن تخفيف ألم طفلتها.
كمقدمة رعاية لطفلتها المريضة، كانت فاطمة تشعر وكأن ثقل العالم بأسره قد استقر على كتفيها، يرافقها ليلًا نهارًا، تمضي الليالي بلا نوم، وعيناها تسهران على الصغيرة، بينما بات القلق المتواصل رفيقها الدائم، يتسلل إلى تفاصيل حياتها اليومية.
عندما خطرت لها فكرة التوجه لجلسات الدعم النفسي والاجتماعي التي يقدمها المركز، وجدت نفسها وسط تساؤلات مرهقة: هل سينفعني ذلك حقا؟ هل سيخفف الحديث بعضا من هذا العبء الذي أحمله؟ كانت تجرب ليس عن ثقة بل لأن ليس لديها ما تخسره.
مع مضي الوقت وازدياد عدد الجلسات، بدأت فاطمة تشعر بذلك التغيير الدافئ يتسلل إلى أعماقها، تغيير أعاد إليها شيئا من الطمأنينة التي غابت طويلًا. أدركت، شيئا فشيئا، أن صحتها النفسية ليست أمرا ثانويًا أو مؤجلًا، بل هي ركن أساسي لا يقل أهمية عن العلاجات الطبية في رحلة تعافي ابنتها، وأن قوتها الداخلية هي الجسر الذي تعبر عليها ابنتها نحو الشفاء.
ومؤخرًا، اقترح فريق خدمات الدعم النفسي في المركز خطوة جديدة في رحلة استشفاء فاطمة، تحمل في طياتها بصيص أمل وتجدد، تتمثل باستخدام تقنية “المكان الآمن” عبر الواقع الافتراضي، وهي أداة مبتكرة صممت بعناية لتخلق للشخص بيئة هادئة، تساعده على الشعور بالأمان، وتخفف من وطأة التوتر.
عن التقنية يقول عبد العزيز جيموه، مسؤول الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي في اللجنة الدولية للصليب الأحمر:
“يصل العديد من المستفيدين إلى المركز وهم يعانون من آلام ومعاناة نفسية. ويسهم استخدام تقنية الواقع الافتراضي في تعزيز التفاعل والانخراط الفعّال للمستفيدين في برامج علاجية منتظمة، مما يؤدي إلى تحقيق نتائج أفضل.”
أثارت الفكرة فضول فاطمة، فبمجرد وضعها نظارة الواقع الافتراضي شعرت بنفسها وكأنها تخطو إلى عالم آخر هادئ ومطمئن، صمم بعناية ليلبي احتياجاتها. وجدت فاطمة نفسها في بيئة قابلة للتخصيص، حيث كل مشهد وكل صوتٍ يهدف إلى مداواة جراحها الخفية.
في البداية، بدت التجربة لفاطمة غريبة وغير مألوفة، فهي لم تتعامل من قبل مع مثل هذه التكنولوجيا، لكن شيئا فشيئا، ومع تكرار الجلسات، ومع مرافقة التوجيهات الصوتية الهادئة، شعرت فجأة بسكينة لطالما افتقدتها. كان الأمر أشبه بنسمة أمل تسري في أعماقها، لتجد نفسها، ولأول مرة منذ شهور، قادرة على تهدئة أفكارها المتسارعة، وفي حالة من الاسترخاء كانت غائبة عنها.
تحولت تقنية “المكان الآمن” إلى جزءٍ أساسي من وسائل التكيّف التي تعتمد عليها فاطمة، وصارت تمارسها حتى في منزلها، مستعينة بتسجيلات صوتية تشبه تلك التي تسمعها في المركز، لم يكن الهدف مجرد البحث عن لحظات من الراحة المؤقتة، بل كان سعيا حثيثًا نحو استعادة شعورها بالسيطرة على حياتها، وبناء مساحةٍ داخليةٍ آمنةٍ تعينها على مواجهة التحديات.
ومع مرور الوقت، بدأت فاطمة تلحظ التحول الإيجابي في ذاتها إذ شعرت بتحسن ملموس في قدرتها على مواجهة اللحظات الصعبة، وصار حضورها النفسي أكثر عمقا وثباتا.
لم تُبقِ فاطمة التجربة محدودة بها، بل شاركت ما تعلمته من تقنيات مع ابنتها الصغيرة، كمثل التنفس بتركيز ووعي، وتمارين تركز على العيش في اللحظة الحالية وتهدئة الذهن، لتساعدهما في رحلتهما المشتركة نحو التماسك والأمل.
تروي فاطمة تجربتها مع جلسات الدعم النفسي، فتقول:
“أصبحت أعتني بنفسي أكثر بعد الجلسات. صرت أخصص وقتًا خاصًا لي. لاحظت التغييرات التي طرأت عليّ خلال ثلاثة أشهر. تغير ترتيب أولوياتي في الحياة. بتُّ أخصص وقتًا لأنشطة مثل جلسات الرياضة. سجلت في نادٍ رياضي وتحسنت حالتي النفسية. بدأت أشجع النساء من حولي. أصبحت أكثر تقبلًا للظروف. تحسنت قدرتي على التعامل مع المواقف الصعبة”.
وتضيف فاطمة:
“يصل الإنسان أحيانًا إلى مرحلة يحتاج فيها من يساعده، فالدعم النفسي يعزز الثقة بالنفس. أنصح كل من يحتاج إلى الدعم بأن يخوض هذه التجربة، فالتحدث إلى اختصاصي نفسي يُحدث فرقًا إيجابيًا حقيقيًا”.
اليوم، تدخل فاطمة المركز بإحساس جديد، لم تعد ترى نفسها وحيدة في مواجهة التحديات، بل أصبحت تشعر بأنها تمتلك الأدوات التي تمنحها القوة. صارت أكثر أملًا واستعدادًا لمواجهة كل يوم بخطى واثقة، وهي تنظر إلى مستقبلها وابنتها.
حول مركز إعادة التأهيل البدني في حلب:
يُعدّ مركز إعادة التأهيل البدني التابع للجنة الدولية للصليب الأحمر في حلب، والذي بدأ عمله عام 2015، شريان حياة حقيقي للأشخاص المتضررين من النزاع. على مدى سنوات، قدّم المركز خدمات إعادة تأهيل شاملة تجاوزت 3400 مستفيد، ونفّذ أكثر من 30 ألف جلسة علاجية، ساعدت الكثيرين على استعادة قدرتهم على الحركة والحياة.
يُدار المركز بالكامل من قبل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ويقدّم للمستفيدين أطرافا اصطناعية، وأجهزة تقويم، وكراسي متحركة، إلى جانب برامج الدعم النفسي والاجتماعي وبرامج الإدماج الاقتصادي.
ومنذ عام 2023، جرى تعديل تقنية الواقع الافتراضي الخاصة بالدعم النفسي الاجتماعي، والتي تم تطويرها في البداية في تايلاند عام 2021 لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، لتتناسب مع الظروف المحلية في سورية، وبدأت تجربتها في حلب اعتبارًا من عام 2024.
يعمل في المركز 19 موظفًا من الكوادر السريرية والفنية والإدارية، حيث يخدم المركز فئات سكانية هشّة، يشكل المتضررون مباشرة من الحرب قرابة 50% منهم، بما في ذلك ضحايا الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة والرصاص.
تعليقات