تتعرض المستشفيات بشكل متزايد للهجوم أو إساءة الاستخدام تحقيقًا لأغراض عسكرية في النزاعات المسلحة التي نشهدها اليوم، وهو ما يقوض أحد أهم أشكال الحماية التي يُسبِغها عليها القانون الدولي الإنساني. وتؤدي الضربات التي تتعرَّض لها إلى عواقب وخيمة تلحق بالأشخاص الذين يعتمدون على تلك المستشفيات للحصول على الرعاية الطبية وكذلك أفراد الطاقم الطبي وانتهاءً بالمجتمع ككل. فعندما تتضرر المستشفيات أو تُجبر على الإغلاق، تختفي الخدمات الحيوية، مثل رعاية الأطفال أو العلاج في وحدات العناية المركزة، ما يتسبب غالبًا في خسائر بالأرواح. وعلى الرغم من الضمانات القانونية الواضحة التي تمنح المستشفيات الحمايةَ، يشير الواقع إلى إساءة استخدام المستشفيات في بعض الأحيان تحقيقًا لأغراض عسكرية، وما يترتب على ذلك من تعرضها لهجمات منتظمة. وفي كثير من الحالات، تُواجَه المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني بالتجاهل عمدًا أو يتم التساهل في تطبيقها ما يهدد أصل الفكرة التي تفرض على جميع أطراف النزاع حماية المستشفيات على وجه التحديد بوصفها ملاذات محايدة.
في هذا المقال يستكشف المستشاران القانونيان للجنة الدولية للصليب الأحمر سوبريا راو وأليكس بريتيغر، كيف أن الحماية الخاصة التي يُسبِغها القانون الدولي الإنساني على المستشفيات تتسم بالقوة والشمول، وتستند إلى افتراض مفاده أنها تتمتع بالحياد الذي لا يصح أن تفقده إلا في حالات محددة بدقة. وحتى عندما يقع سوء الاستخدام، فيتعين على الأطراف إصدار إنذار وإعطاء مهلة كافية للتوقف عنه، وعليها ألا تُنفِّذ الضربات إلا كملاذ أخير، متى كان المستشفى يستوفي تعريف الهدف العسكري – بل حتى في هذه الحالة، تنطبق قاعدتا التناسب والاحتياطات من أجل الحد من الضرر.
تخيل ما يلي: بعد تصعيد حاد في الأعمال العدائيَّة خلال نزاع مسلح، يصيب صاروخ المستشفى العام بالمدينة، الواقع في وسط العاصمة. ويعد هذا المستشفى شريان حياة للمجتمع إذ يقدم خدمات طبية متخصصة، بما في ذلك جناح الأطفال المعروف بخدماته المنقذة لأرواحهم، ووحدة أمراض القلب ووحدة العناية المركزة. وقد أعلنت قوات المعارضة مسؤوليتها عن الهجوم، قائلة إن المرفق يُستغَل لتحقيق أغراض عسكرية، زاعمةً أنه كان يُستخدم كنقطة مراقبة عسكرية. وتنفي إدارة المستشفى والقوات الحكومية هذه الاتهامات بشدة، وتتساءل لماذا لم يصدر إنذار لوقف هذه الأعمال إن كان هذا الاستغلال قد وقع.
وقد أدى الهجوم إلى عواقب إنسانية وخيمة: إذ قُتل اثنا عشر مريضًا وخمسة عشر فردًا من الطاقم الصحي، وأصيب العشرات بجروح خطيرة، ودُمِّرت وحدتا طب الأطفال وأمراض القلب في المستشفى. وفي حين تمكنت سلطات المستشفى من إجلاء 90 في المئة من المرضى البالغ عددهم 600 مريض إلى مرافق طبية أخرى، فإن 20 مريضًا كانوا في حالة حرجة لاقوا حتفهم في الطريق أو بعد ذلك بفترة وجيزة، نظرًا إلى عدم تلقيهم الرعاية التي كانوا في حاجة ماسَّة إليها.
وبعد مرور عام تقريبًا، رُممت أجزاء من المستشفى، وأُعيد تجهيزها، وأُعيد افتتاح المرفق جزئيًّا. وبعد هدنة قصيرة، استُؤنف القتال في المنطقة. ومرة أخرى، داهمت قوات المعارضة المستشفى، زاعمة بأن المستشفى لم يعد يستوفي معايير الحماية الممنوحة له، بحجة استمرار استخدامه لأغراض عدائيَّة وانتفاء الاعتراف بمركزه القانوني كمرفق طبي.
للأسف، لا يتطلب الأمر الكثير من الخيال لرؤية كيف تُشن مثل هذه الهجمات الواحدة تلو الأخرى في حالات النزاع الحقيقية – فقد أصبحت هذه السيناريوهات، بكل أسف، سمة مميزة للحرب المعاصرة، مع ما يصاحبها من عواقب وخيمة على المرضى وفئات بأكملها من السكان الذين يُتركون دون خدمات طبية من غير المرجح استعادتها في المستقبل القريب.
إن الهجمات المتكررة على المستشفيات، وغير ذلك من أشكال التدخل العسكري التي تعرقل عملها الطبي، وإساءة استخدام المستشفيات تحقيقًا لأغراض عسكرية، كلها أمور تشكل تحديًا للمبادئ الأساسية التي يرتكز عليها القانون الدولي الإنساني. وقد تضمنت اتفاقية جنيف الأولى لعام 1864 القواعد المتعلقة بإسباغ حماية خاصة على المستشفيات، ونُقّحت بعد ذلك حتى دُوِّنت على نحو أكثر شمولًا في اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكوليها الإضافيين لعام 1977، ووردت تلك القواعد كذلك في القانون الدولي الإنساني العرفي[i] والمنطق هنا واضح وضوح الشمس: يجب حماية المستشفيات بوصفها ملاذات آمنة تُقدِّم الرعاية المنقذة للأرواح، بغض النظر إلى أي جانب من النزاع ينتمون. ولا يصح أن تزول هذه الحماية إلا في ظروف قليلة استثنائية – ومع ذلك، يواجه هذا الافتراض تحديًا في العديد من النزاعات التي دارت مؤخرًا وتلك الدائرة اليوم.
وفي ضوء تزايد الاستخفاف الواضح بالحماية الخاصة التي تتمتع بها المستشفيات في النزاعات الدائرة اليوم، تضطلع اللجنة الدولية – من خلال مبادرتها العالمية بشأن القانون الدولي الإنساني – بدراسة مهمة تتناول الملامح الرئيسة لهذه الحماية الخاصة. وتستهدف المبادرة التأكد من أن القواعد الحالية للقانون الدولي الإنساني التي تمنح الحماية الخاصة للمنشآت الطبية معروفة ومفهومة بشكل أفضل، ومساعدة الدول والأطراف الأخرى في النزاعات المسلحة في تطبيقها بطريقة تدعم غرضها الإنساني وقصدها الحمائي.
وتتناول الفقرات التالية التحديات القانونية والعملياتية الرئيسة التي تواجه توطيد دعائم الحماية الخاصة التي يجب أن تتمتع بها المستشفيات في النزاعات المعاصرة. ومن خلال مسار عمل المبادرة العالمية المتعلق بـ المستشفيات: تحقيق حماية مجدية في النزاعات المسلحة، تسعى اللجنة الدولية إلى إشراك الدول والخبراء في معالجة هذه القضية الملحة.
الحماية الخاصة المكفولة للمستشفيات والمرافق الطبية الأخرى
بموجب القانون الدولي الإنساني، تتمتع المستشفيات والمرافق الطبية الأخرى – سواء كانت مدنية أو عسكرية – بحماية خاصة تتجاوز الحماية العامة المُسبَغة على الأعيان المدنية الأخرى. وتضمن هذه الحماية المعززة استمرار قدرة هذه المستشفيات والمرافق الطبية الأخرى على أداء وظيفتها عند الحاجة إليها، واستمرار قدرتها على تقديم الرعاية الطبية المنقذة للأرواح. وتلتزم أطراف النزاعات المسلحة “باحترام المستشفيات والمرافق الطبية الأخرى وحمايتها في جميع الأحوال”. ويتجاوز مفهوم الاحترام أن تتجنَّب الأطراف المتحاربة مهاجمة المرافق الطبية، إذ يقتضي أيضًا امتناعها عن أي شكل آخر من أشكال التدخلات العسكرية في وظائفها الطبية، وإساءة استخدامها لأغراض عسكرية. وتستلزم الحماية أن يتخذ المتحاربون تدابير إيجابية، منها جميع التدابير الممكنة لتسهيل عمل المؤسسات الطبية وحمايتها من الضرر، من قبيل منع النهب الذي قد ترتكبه أطراف غيرها.
إن استخدامات معينة للمنشآت الطبية، حتى في تلك الحالات، تظل محظورة بشدة في جميع الظروف، مثل إساءة استخدام المستشفى لحماية هدف عسكري. وحسب الظروف، قد ترقى استخدامات المنشآت الطبية للأغراض العسكرية إلى انتهاكات أخرى محددة للقانون الدولي الإنساني، مثل انتهاكات التزام احترام وحماية المنشآت الطبية؛ والاحتياطات السلبية؛ وحظر الاستخدام غير السليم للشعارات عندما تعرض المنشآت الطبية الصليب الأحمر أو الهلال الأحمر أو البلورة الحمراء؛ وحظر الغدر.
رغم أن القانون الدولي الإنساني يمنح المستشفيات أحد أعلى مستويات الحماية من الهجمات والاستخدام العسكري، إلا أنه لا يحظر بشكل قاطع استخدامها للأغراض العسكرية أو استهدافها بالهجمات.
ومع ذلك، فإن أي استخدام عسكري لمنشأة طبية يتطلب توافر عتبة شديدة الارتفاع، ولا يبرر إلا في حالات الضرورة العسكرية الملحّة
وفقط إذا تم اتخاذ ترتيبات كافية لضمان استمرار الرعاية للجرحى والمرضى[ii]. وحتى في هذه الحالة، تظل بعض استخدامات المرافق الطبية محظورة تمامًا في جميع الأحوال، مثل استخدام مستشفى للتستر عن هدف عسكري[iii] وعلى حسب الظروف، قد ترقى استخدامات المرافق الطبية لأغراض عسكرية إلى مستوى انتهاكات أخرى محددة للقانون الدولي الإنساني، مثل انتهاك الالتزام باحترام المرافق الطبية وحمايتها؛ والاحتياطات السلبية؛ وحظر الاستخدام غير الصحيح للشارات في الحالات التي ترفع فيها المرافق الطبية شارة الصليب الأحمر أو الهلال الأحمر أو الكريستالة الحمراء؛ وحظر الغدر.
فقدان الحماية الخاصة وما يترتب عليه من عواقب
بغية ضمان توفير أقوى حماية ممكنة للمرافق الطبية، يحيط القانون الدولي الإنساني فقدان الحماية الخاصة بشروط تراكمية شديدة الصرامة. أولًا، يجب أن يكون المرفق الطبي مستخدمًا خارج نطاق واجباته الإنسانية لارتكاب أعمال ضارة بالعدو. ثانيًا، يجب توجيه إنذار، على أن يُحدِّد، كلما اقتضى الأمر ذلك، مهلة زمنية معقولة لوقف تلك الأعمال. ثالثًا، لا تفقدان الحماية الخاصة إلا إذا استمر تجاهل هذا الإنذار.
وتثير هذه الفكرة السؤال الحاسم التالي: ما الذي يستوفي معايير “العمل الضار بالعدو”؟ لم يرد تعريف لهذا المصطلح في معاهدات القانون الدولي الإنساني، ولم تتضمن تلك المعاهدات قائمة به، غير أن ممارسات الدول تقدم إرشادات بشأنه. فتشمل الأعمال التي تعتبر أعمالًا ضارة بالعدو ما يلي: إطلاق النار على العدو لأسباب أخرى غير الدفاع الفردي عن النفس؛ أو إنشاء منصة لإطلاق النار في مركز طبي؛ أو استخدام المستشفى كمأوى للمقاتلين الأصحاء، أو مستودع للأسلحة أو الذخيرة، أو نقطة مراقبة عسكرية؛ أو وضع وحدة طبية بالقرب من هدف عسكري بقصد ستره من عمليات العدو العسكرية. وقد فسرت اللجنة الدولية الأعمال الضارة بالعدو على أنها “أعمال تستهدف أو تؤدي إلى إلحاق ضرر بالطرف الخصم، عن طريق تيسير العمليات العسكرية أو عرقلتها”، ومن ثم، تشمل تلك الأعمال استخدام المرافق الطبية للتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في العمليات العسكرية[iv].
ومع ذلك، يجب قراءة هذا التفسير – الواسع ظاهريًا – للمفهوم جنبًا إلى جنب مع التنظيم الصريح الوارد في معاهدات القانون الدولي الإنساني للأعمال التي لا تشكل أعمالًا ضارة بالعدو، مثل تسلُّح أفراد الطاقم الطبي بأسلحة خفيفة للدفاع عن أنفسهم أو عن الجرحى والمرضى الذين في عهدتهم؛ أو خضوع مرفق طبي لحراسة قوة مراقبة أو حُرَّاس أو مرافقين؛ أو وجود أسلحة صغيرة وذخيرة مأخوذة من الجرحى والمرضى في هذه الوحدات ولم تُسلَّم بعد إلى الجهة المختصة؛ أو وجود مقاتلين جرحى ومرضى في المرافق الطبية المدنية لأسباب طبية.
ورغم أن هذه القائمة تساعد في تضييق نطاق الأعمال التي يمكن اعتبارها أعمالًا ضارة بالعدو، فإن عدم وجود تعريف أو قائمة شاملة في معاهدات القانون الدولي الإنساني يفتح المجال أمام الغموض. وهذا يخلق بيئة خطيرة تتيح، من ناحية، سهولة إساءة استخدام المرافق الطبية لتحقيق أغراض عسكرية، وتمكن المهاجمين بسهولة، من ناحية أخرى، من إطلاق ادعاءات تفيد ارتكاب هذه الأعمال، مع صعوبة دحضها. وتتفاقم المشكلة بسبب عدم وجود شفافية حاليًا من جانب القوات المسلحة بشأن مجموعة من المعلومات الحاسمة: ما إذا كانت الإجراءات العملياتية الموحدة والخطط العملياتية مصممة لتجنُّب ممارسة الأنشطة العسكرية في المرافق الطبية بقدر الإمكان؛ وما إذا كانت تحدِّد المواقف الاستثنائية التي قد تبرر هذا الاستخدام، والقيود التي تظل سارية، حتى في مثل هذه الحالات؛ وما إذا كانت تلك الإجراءات والخطط توجِّه التقييمات التي تشير إلى استخدام المرافق الطبية في أعمال ضارة بالعدو، وما الإجراءات المعمول بها لاتخاذ القرار بشأن عواقب هذه النتيجة، بما في ذلك التواصل مع الخصم والمسؤولين عن المرافق الصحية لاتخاذ ما يلزم حيال هذه الحالات. ومن الناحية العملية، من شأن وجود مثل هذه الوثائق والإجراءات العسكرية أن يساعد المتحاربين على الوفاء بالتزاماتهم باحترام المرافق الطبية.
ومن المهم التأكيد على أن إساءة استخدام المستشفى لارتكاب أعمال ضارة بالعدو، لا يجعله تلقائيًّا هدفًا عسكريًّا مشروعًا، بموجب الإطار الوقائي الذي يرسيه القانون الدولي الإنساني. فقبل أي هجوم، يتعين على الطرف الذي يفكر في مثل هذا الإجراء أن يقرر – بما يتماشى مع مبدأ التمييز المقرر في القانون الدولي الإنساني – ما إذا كان المستشفى، نظرًا إلى إساءة استخدامه، يستوفي تعريف الهدف العسكري المكون من شقين، وذلك عملًا بالمادة 52 (2) من البروتوكول الأول الإضافي.
التحذير كضمانة قبل توجيه أي رد عسكري على فقدان الحماية الخاصة
بعد الانتهاء إلى نتيجة مفادها وقوع عمل ضار بالعدو، وقبل توجيه أي طرف في نزاع أي رد عسكري، يتعين على هذا الطرف، أن يصدر إنذارًا يحدد، كلما اقتضى الأمر ذلك، مهلة زمنية معقولة لوقف هذه الأعمال، على ألا يُوَاجَه هذه الإنذار بالتجاهل[v]. وعلى عكس الإنذارات الواجبة كجزء من الاحتياطات الممكنة لحماية المنشآت المدنية الأخرى، والتي يمكن الاستغناء عنها عندما لا تسمح الظروف العسكرية بذلك، لا يمكن التنازل عن هذه الضمانة الأساسية في حالة المرافق الطبية بحجة توافر ضرورة عسكرية. ذلك أن الإنذار هنا له غرض مختلف، ألا وهو توفير ضمانة إضافية لتجنُّب العواقب الوخيمة التي قد يتعرض لها المرضى والطاقم الطبي والمرفق الطبي نفسه من جراء أي رد عسكرية على فقدان الحماية الخاصة. وبالتالي يعطي الأفضلية للتواصل مع أولئك الذين يرتكبون أعمالًا ضارة بالعدو على الحاجة إلى الحفاظ على عنصر المفاجأة من الناحية التكتيكية، والذي يضيع عند إنذار الخصم بالهجوم، وذلك حتى يتسنى إيقاف هذه الأعمال وإجلاء الأشخاص المشمولين بالحماية. فعندما تتوقف الأعمال الضارة بالعدو، لا يصح تنفيذ أي رد عسكري على الإطلاق ضد أي مرفق طبي.
وينبغي أن يسمح هذا الإنذار أيضًا باتخاذ الترتيبات اللازمة لتأمين الإجلاء الآمن للمرضى، متى أمكن، في ضوء أي رد عسكري وشيك. وأخيرًا، ينبغي أن يسمح هذا التقييم بالتحقق من مزاعم الأعمال الضارة بالعدو وتصحيح أي أخطاء في هذا التقييم. وفي الممارسة العملية، تطرح أسئلة من قبيل: مَن هم المستهدفون بالإنذار؟ وكيف ينبغي إقامة قنوات تواصل معهم؟ وما أكثر قنوات التواصل فاعلية لتحقيق ذلك؟ وما العوامل التي تحدد المهلة الزمنية المناسبة للامتثال لهذا الإنذار؟ وكيف ينبغي تقييم الامتثال له؟
تقليل أثر أي رد عسكري على فقدان الحماية الخاصة إلى أدنى حد ممكن
حتى عندما يفقد المستشفى ما يتمتع به من حماية خاصة ويغدو عرضة للهجوم، تظل الأطراف المتحاربة ملزمة بجمع الجرحى والمرضى وتقديم الرعاية إليهم، وهو ما يكون من المستحيل تحقيقه دون وجود مرافق صحية عاملة. وقد يحتج البعض بأن الالتزام الشامل برعاية الجرحى والمرضى يفرض قيدًا قانونيًا إضافيًا إلى جانب قاعدتي التناسب والاحتياطات، وهو ما يُحوِّل كفة الميزان لصالح الحفاظ على الوظائف الطبية بقدر الإمكان، حتى عندما تصبح المستشفيات عرضة للهجوم.
ويثير هذا الطرح تساؤلات منها كيف يؤخذ في الاعتبار في عمليات تقييم التناسب ما يلحق بالسكان المحليين المتضررين أساسًا بشكل مباشر من العمليات العدائية، ما يطالهم من أثر طويل الأمد جراء الهجمات على المستشفيات عند التخطيط للعمليات العسكرية، عندما لا يتواجد سوى عدد قليل من المرافق داخل المنظومة الصحية يقدم خدمات طبية متخصصة لإنقاذ الأرواح، مثل رعاية الأمهات أو الأطفال أو العناية المركزة. ومن حيث الاحتياطات، ثمة تساؤل عن كيفية تجنُّب الضرر العرضي الذي يلحق بالمرافق الصحية والذي يؤثر على تقديم الرعاية الصحية، وتقليله في كل الأحوال، مثل انقطاع الكهرباء وإمدادات المياه وطرق وصول المرضى ومقدمي الرعاية الصحية وتسليم الإمدادات الطبية. وفي هذا الصدد، يثور سؤالان هما: هل ثمة وسائل وأساليب حربية معينة ينبغي تجنُّبها امتثالًا للالتزام الذي مفاده اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة في الهجوم؟ وما الممارسات الجيدة الموجودة لإدارة إجلاء المرضى – بما في ذلك مرضى النقاهة بعد العمليات الجراحية والمرضى المقيمون في العناية المركزة، وأيضًا أولئك الذين يواجهون مخاطر خاصة أو لديهم احتياجات خاصة – وكذلك الطاقم الطبي، لضمان استمرارهم في تلقي الخدمات الطبية؟
وأخيرًا، عندما يُستخدم مرفق طبي لارتكاب أعمال ضارة بالعدو، ولكن يمكن، في وقت لاحق، استعادة الخدمات الطبية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن أن يستفيد هذا المرفق الطبي مجددًا من الحماية الخاصة؟
إن استرداد الحماية الخاصة أمر مرغوب فيه من وجهة نظر إنسانية؛ حتى يتمكن الجرحى والمرضى من الاستفادة من الرعاية الطبية دون عوائق[vi]. وعلاوةً على ذلك، تفيد الحجة التي تُطرح لصالح فقدان الحماية الخاصة مؤقتًا لا دائمًا أن التصنيف القانوني لمنشأة ما أثناء الأعمال العدائيَّة قد يتغير بأن تصبح هدفًا عسكريًّا بعد أن كانت عينا مدنيةً، على حسب الأحوال السائدة في وقت معين. ولذلك، قد يصبح المستشفى هدفًا عسكريًا ما دام مستوفيًا لمعايير “الهدف العسكري”. وبعد ذلك، عندما لا تتوافر هذه الظروف، تنتفي صفة “الهدف العسكري” عنه، ويعود مرة أخرى إلى التمتُّع بحماية خاصة من الهجمات.
ولكن هل يستعيد المستشفى الذي يُستخدم مرارًا وتكرارًا لارتكاب أعمال ضارة بالعدو الحماية الخاصة تلقائيًّا كلما توقفت مثل هذه الأعمال؟ يرى البعض أنه في مرحلة ما، قد يؤدي الاستخدام المتكرر لمستشفى بهذه الطريقة إلى تبرير تغيير مركزه القانوني تغييرًا دائم الأثر بأن يصبح هدفًا عسكريًّا. ومع ذلك، حتى في مثل هذه الحالات، لا ينبغي أن تُستبعد استبعادًا قاطعًا إمكانية استرداد الحماية الخاصة. ولكن على المستوى العملي، قد يؤدي الاستخدام الخاطئ المتكرر إلى إضعاف ثقة العدو، وهو ما يمتد ليشمل الحماية الخاصة التي يتعين عليه توفيرها. وهذا يثير سؤالًا حاسمًا حول المؤشرات والوقائع التي يحتاج إليها الخصم للتأكد من أن المستشفى سوف يصبح مرة أخرى مخصصًا للأغراض الطبية دون غيرها. إن استعادة الحماية قد يتطلب ما هو أكثر من مجرد استئناف الخدمات الطبية – إذ تتطلب إعادة بناء الثقة في الوظيفة الإنسانية البحتة التي يؤديها المستشفى، وهو مبدأ يقع في صميم القانون الدولي الإنساني.
مصادر:
[i] اتفاقية جنيف الأولى بشأن تحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان، 12 آب/أغسطس 1949 (“اتفاقية جنيف الأولى”)، المواد 19 و21 و22؛ واتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب، 12 آب/أغسطس 1949 (“اتفاقية جنيف الرابعة”)، المادتان 18 و19؛ والبروتوكول الإضافي لاتفاقيات جنيف المؤرخة 12 آب/أغسطس 1949، المتعلق بحماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية (البروتوكول الأول)، 8 حزيران/يونيو 1977 (“البروتوكول الأول الإضافي”)، المادتان 12 و13؛ والبروتوكول الإضافي لاتفاقيات جنيف المؤرخة 12 آب/أغسطس 1949، المتعلق بحماية ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية (البروتوكول الثاني)، 8 حزيران/يونيو 1977 (“البروتوكول الثاني الإضافي”)، المادة 11؛ ودراسة اللجنة الدولية المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني العرفي: https://ihl-databases.icrc.org/ar/customary-ihl/rules (“اللجنة الدولية، الدراسة المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني العرفي”)، القاعدة 28 الواجبة التطبيق في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية.
[ii] اتفاقية جنيف الأولى، المادة 33(2).
[iii] البروتوكول الأول الإضافي، المادة 12(4)؛ واللجنة الدولية، التعليقات على المادة 12 من البروتوكول الأول الإضافي، الفقرة 540؛ وانظر الإيضاحات المقدمة في دراسة اللجنة الدولية المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني العرفي، القاعدة 28.
[iv] تعليق اللجنة الدولية المُحدَّث (2016) على المادة 21 من اتفاقية جنيف الأولى، الفقرة 1840؛ وتعليق اللجنة الدولية (1987) على المادة 13 من البروتوكول الأول الإضافي، الفقرة 550.
[v] اتفاقية جنيف الأولى، المادة 21؛ واتفاقية جنيف الرابعة، المادة 19؛ والبروتوكول الأول الإضافي، المادة 13(1)؛ والبروتوكول الثاني الإضافي، المادة 11(2)؛ وانظر الإيضاحات المقدمة في دراسة اللجنة الدولية المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني العرفي، القاعدة 28.
[vi] تعليق اللجنة الدولية المحدث (2016) على المادة 21 من اتفاقية جنيف الأولى، الفقرة 1856.
نشر هذا المقال بالانكليزية على مدونة القانون الإنساني والسياسات
تعليقات