تأخر هذا المقال طويلًا.. تأخر بقدر ما تعهدت لـ«الإنساني» أن يكون بين دفتي المنشور الدوري، وبقدر ما تعهدت لنفسي ألا أكتب إلا لخاطر من أعمل لإيصال أصواتهم. تأخر اثنين وعشرين عامًا. عمر اعتناقي لمذهب الصحافة وأوجاعها، وأكثر من نصف عمري قليلًا.
غطيت عن كثب كل الحروب الإقليمية والدولية ذات الصلة منذ العام 2003 وحتى يومنا هذا. غطيتها كبيرها وصغيرها. حاورت كل الأطراف المعنية والمتناحرة حرفيًّا، في الاستوديو وعلى الأرض وفي الميدان. استمعت إلى كل السرديات وناقشتها، حللتها وراكمت النتائج والتعقيدات والخافي منها والعبر. أمضيت آلاف الساعات في البحث عن أصول الصراع وتشابكاته، عن أبعاد كل اقتتال، قبليًّا وعقائديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا. استمعت إلى الناس على الأرض في كل يوم وفي كل مناسبة، حاورتهم – فهم في النهاية أصحاب الأرض والرأي والحجة والمعاناة.
هم من تطالهم الحرب وأوزارها حتى لو استفاد من فظائعها غيرهم. خصصت قسطًا معتبرًا من مساري المهني والأكاديمي في تتبع السلاح في الشرق الأوسط وخارجه، الرسمي منه والمتسلل في الأسواق السوداء، وفي دهاليز غسل الأموال والاتجار غير المشروع في البشر والآلة.
طيلة اثنين وعشرين عامًا، أصِلُ محلَّ عملي في الصباح الباكر لأستذكر لحوارات في المساء، العالم هذا المساء أو بلا قيود أو نقطة حوار أو النشرات الإخبارية. أحتسي القهوة بلا حساب ولا رادع.. أدقق.. أدقق كثيرًا.. كي أجابه غريمي الأول لاثنين وعشرين عامًا: الحرب. أكم من صرخات واستغاثات أرقتني ليلًا ونهارًا، في العراق وأفغانستان وفي دارفور وغزة وغيرها.
استذكرت على عشرات الخرائط المتحولة كأنها الرمال المتحركة الحرب في سورية وفي اليمن وفي ليبيا. غطيت من المواقع مجريات الربيع العربي وما تبعه – في مصر – في تونس – في سورية في خضم الحرب – في أوروبا إلى حيث فر اللاجئون برًّا وبحرًا، وكأنني عاهدت الغارقين في القوارب الورقية أن أكمل رحلتهم وأُسائل المتسببين، كي لا تضيع أسماؤهم في البحر كالأسماك النافقة. جلس أمامي أفخم الساسة والمعارضين والقادة العسكريين وأبرز الحقوقيين والإغاثيين وأصحاب القرار. جلسوا أمامي بمناصبهم ومن دونها، بحججهم وبلاها.
أسأل وأدقق وأتحدى وأستدرك وأحاجج. رصدت عمري الماضي والمقبل لو كتب لي الاستمرار تحت كل ما يهدد الصحافيين لتقصي الحقيقة. فلست أعرف للصحافي مهمة أخرى لربما أسهل أو أكثر راحة أو رفاهية أو رضا من أولي الأمر. هذه أمانة الصحافي والطريق الوحيد الذي أجدد العهد أن أسلك.
الحرب: الإنسان في مواجهة الآلة
منذ طفولتي كانت تشغلني جدًّا الحرب.. دوافعها.. أدواتها.. تكتيكاتها.. والأهم.. على رأس من تقع، ومن يدفع أثمانها الغالية.. بدايتي مع التفكر في شأن الحرب نشرات الأخبار، التي لم تكن تصمت في منزلنا.. ناغورنو قره باغ، حرب البوسنة، الانتفاضتان الفلسطينيتان والرد الإسرائيلي العسكري والأمني عليهما، حرب الخليج الأولى – ثم غزو الكويت وحرب الخليج الثانية – عاصفة الصحراء وصولًا للحظة التحاقي بالركب لحمل المشعل بعد أن كنت متتبعة نهمة ومهتمة حثيثة.
في كل مرة كان سجال يرهق عقلي الصغير حتى إنني قبل ثلاثة أعوام كتبت عنه مقالًا.. ترى على بيت من سقط الصاروخ الأول في كل حرب؟ على رأس من؟ ماذا كان الأطفال فاعلين وكيف كانت حال البيت؟ في عرف الحروب التقليدية كثيرٌ من الحروب شُنت ليلًا.. وكأن قدر الضحايا أن تباغتهم الحرب بِخسَّتها قبل صواريخها وطيرانها ومدرعاتها المصفحة.
تعددت الأسباب والذعر واحد
راقبت مرارًا النظرة التي تقف بين وقع الهول وضحيته. ذلك الذعر الذي عايشته على الأرض وفي كل مفردات عملي لتغطية الحروب والنزاعات، الذعر الذي تُفصِّله الخطب والملمات حتى قبل أن يكتمل وقعها. رأيتها مئات، بل لربما آلاف المرات، على الشاشة وعلى الأرض وفي الميدان تلك النظرة.. التي لا تفرق بين حرب أو إرهاب أو كارثة.. كلها أسباب للموت والتشرد والضياع. للهرب نزوحًا أو لجوءًا أو في عرض البحر. كلها بلا استثناء الوجه الآخر للنسخة الأسوأ للذكاء البشري أو غبائه لا يهم. إنها الحرب يا سادة. وجه الموت.
شاهدت الهول يحدق في عيني بثبات، في عيني مريم – رضيعة سورية فقدت كل من لها قبل عمر الستة أشهر – حملت مريم وضممتها بالقرب من حلب. وقفت على الخط الفاصل بين سورية وتركيا إلى حيث فرت وعشرات آلاف آخرين. حاورت أطفالًا ويافعين عما جرى وعما يريدون أن يجري. سقطَت قبل وصولي إلى أضنة قذيفة وقَفْتُ على فوهتها أراسل زملائي في لندن. غيَّر هؤلاء الأطفال حياتي، وجعلوا لشغفي بالحرب وقعًا وكتلة ونبضًا أحافظ على ثباته.
الميليشيات.. وأنا
لما قررت العودة للبحث الأكاديمي للحصول على درجة الماجستير من إحدى أرفع الجامعات البريطانية مكانة وأكثرها تخصصًا، لم يرد بذهني خيارات أخرى غير التخصص في دراسات الحرب النقدية. لا حبًا في فنون الحرب بقدر شغفي بدراسة علومها بتعمق وبشكل علمي موضوعي لا تذروه الرياح كما طوت صرخاتٍ كثرًا نددت بها في كل مضمار، اللهم إلا في الوجدان الشعبي وأروقة المحاكمات الدولية.
سعيت لدمج القانون الدولي ودراسة الحرب فخرجت رسالتي المتواضعة عن الميليشيات ودورها في تغيير وجه الحرب في الشرق الأوسط، منذ تكوين طلائع «الجهاديين في أفغانستان» والعرب الأفغان. نزحوا من الشرق الأوسط وعادوا إليه.. عادوا أناسًا آخرين ونفوسًا أخرى. وليومنا هذا يدفع الجميع باهظ الأثمان. عنوان رسالتي التي حصلت بها على درجة الماجستير في العلاقات الدولية ودراسات الحرب النقدية هو: «الميليشيات – من؟ كيف؟ لماذا؟ كيف تغير وجه الحرب في الشرق الأوسط؟» – السالف نشرها على موقع «أكاديميا» لدراسة الأبحاث والرسائل العلمية.
ما هي الحرب إذن؟
رصدْتُ في الكتابة الأكاديمية ما أظن أنه فقر شديد في الإنتاج العلمي عن الحروب اللاتقليدية في الشرق الأوسط، وتركيز مكثف على الجماعات الجهادية الراديكالية، ربما لاهتمام الساسة والباحثين بها في ربع القرن الأخير.
منذ بداية عملي في الصحافة تغير تعريف الحرب وأدواتها تغيرًا ليس بالهين. فالواقعية الكلاسيكية في علوم السياسة الدولية عرفت في أحد مناهجها «العنف المقنن» باعتباره ذلك المُحتَكَر من قبل الدولة – أي الجهة الحاكمة ذات السيادة – سواء منفردة أو بإيكال هذا العنف إلى وكلاء وأدوات وأجهزة.
الذي تغير باختصار هو انتفاء هذا التعريف بإيكال بعض اللاعبين خارج سلطة الدولة العنف لأنفسهم، ومنافسة الدولة في استخدامه إلى الدرجة التي قد يصبح أحد هؤلاء اللاعبين أو بعضهم أو حتى كلهم أقوى من الدولة إلى الحد الذي يحتكرون هم فيه العنف بدلًا عنها، فتنتفي سلطتها وفقًا لهذا المنهاج الكلاسيكي على الأقل.
الحروب الجديدة: أفغانستان كانت البداية
ما أتحدث عنه أعلاه هو تحديدًا ما حدث في أفغانستان إبان حرب المجاهدين والعرب الأفغان ضد الاتحاد السوفيتي، بمساعدة أميركية وبتصدير للجهاديين من ساسة مواطنهم إلى أفغانستان. زادت قوة المقاتلين الأفغان والتنظيمات الجهادية – طالبان والقاعدة طبعًا على رأسهم – إلى الحد الذي تغولت قدراتهم من امتلاك وسائل العنف إلى احتكاره، حتى انفردت طالبان بحكم الدولة حرفيًّا لتمكنها من أدوات العنف وتفوقها عسكريًّا على الأرض.
نموذج آخر يختلف جذريًّا تمثل في قدرات الجماعات الجهادية في مصر في التسعينيات وتحول استراتيجيتها من محاربة «العدو القريب» داخل دولها، في حرب امتدت من الخمسينيات حتى السبعينيات – إلى «العدو البعيد» المتمثل في عدو خارجي كان الاتحاد السوفيتي تارة ثم أصبح الولايات المتحدة والغرب تارة أخرى.
رصدت في خبرتي المهنية والبحث الأكاديمي في آنٍ معًا وبالتزامن ثلاثة أوجه سأُفَصِّلها من واقع الخبرة العملية لما أعنيه بـ «تغير وجه الحرب في الشرق الأوسط»: سلطة الدولة – علاقة الدولة بالعنف كأداة لفرض النظام – وانبثاق أنماط جديدة من الحرب استجابة للوسائل غير التقليدية والتكتيكات التي اعتمدتها الميليشيات والجماعات المسلحة الأخرى في حروبها في الشرق الأوسط.
الميليشيات تداولت أدوات العنف بين الدولة أو أجهزتها وبين نفسها كوكيل رُحب به إلى حين في حالة أفغانستان، ثم أصبح غير مرغوب في وجوده، ما أهَّل الحروب التقليدية في المنطقة للخروج عن هذا النمط لاستيلاد أنماط أخرى، منها على سبيل المثال لا الحصر الحرب بالوكالة، التي نشهدها الآن على أكثر من صعيد: محلي، وإقليمي، ودولي.
11 أيلول/ سبتمبر: إشارة البدء لحرب ولعملي الصحافي
في البدء كان الحادي عشر من سبتمبر، أولى تجاربي المهنية في دراسة الميليشيات والجماعات المسلحة، متمثلة في تنظيم القاعدة. كنت في بداية عملي كمذيعة للأخبار وقارئة للنشرة في الإذاعة المصرية العريقة – المدرسة الأولى. كان الخبر مقتضبًا ويبدو مشهدًا سينمائيًّا رديء الصنع، على الرغم من محاولة منفذي العمل إحداث الإبهار. أظن أنه سيبقى الأكثر مباغتة في وجدان المعاصرين، لا بفعل التوقيت فحسب وإنما للمفعول به الذي لم يكن أبدًا ليحسب ولا في أسوأ كوابيسه أن يتجرأ عليه تنظيمٌ على أحسن الفروض جيد الإعداد غزير التمويل ساهم هو ذاته في دعمه.
قرأت الخبر الذي باغتنا في صيغة «في هذا النبأ العاجل» وأنهيته. ثم جاء دور زميلي وأحسب أنه كان العملاق الأستاذ محمود سلطان ليقرأ جوانب وردت للخبر ثم تحليلًا مبدئيًّا ثم خبرًا تلاه. كثفت تركيزي وتركت التفكر مليًّا لما بعد النشرة. خرجت في استراحة الإذاعة المصرية وقد كانت براحًا صاخبًا يتحدث فيه الجميع عما جرى ومن نفذه وكيف ستكون تبعاته. وجدت في المحادثة هوى فجلست أستمع وكنت حينها أصغر المذيعات سنًّا، فلزمت الصمت أستمع وأفكر وأتعلم بانتقائية. كل ما يجول بعقلي وأنا أكتب الآن أنْ من كان منا – معشر الصحافيين خاصة – ليتوقع كيف سيتغير وجه العالم بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، وأي تغيير..
الدولة واحتكار العنف
حينها وبعدها بحوالي عشرين عامًا، لما درست الحرب أكاديميًّا، فهمت أن العلاقة بين الدولة والمؤسسات البيروقراطية المخولة بتنظيم احتكار الدولة للعنف تمتد في علوم العلاقات الدولية إلى أصل تعريف الدولة في عدة مذاهب سياسية على رأسها الواقعية الكلاسيكية. الشرطة، الجيش، القوات الخاصة، المخابرات، وغيرها – كلها أجهزة تمكن الدولة من احتكار العنف بالوكالة المباشرة في المذهب الواقعي الكلاسيكي.
من هذا المنطلق، يكمن تعريف السيادة في الواقعية في عدة عوامل من بينها حق الدولة وقدرتها في احتكار أدوات العنف من خلال مؤسسات محددة توكل لها الدولة هذه الأدوات. من هذا المنطلق، من البديهي لهذا المذهب أن يشكك في «سيادة الدولة» إذا ما فقدت بعض أو كل هذه الأدوات للاعبين آخرين غير مخولين من قبلها بوكالة ممارسة العنف المقنن.
«الحرب على الإرهاب»
وإذا كانت الجماعات المسلحة، من بينها ما يمكننا اصطلاحًا تعريفه بالميليشيات تزعزع سيادة الدولة من هذا المنطلق، فإن المرتزقة أو المقاتلين الأجانب «خصخصة العنف» المستجلبين من الخارج يهددون في بعض الأحيان وجودها المباشر. عملت على تغطية تبعات هذا الصراع بين المقاتلين الأجانب والمحليين والحكومة الأفغانية وتعاظم قدرات القاعدة، الذي تجلى في الهجوم على المصالح الأمريكية في كينيا وتنزانيا، ثم في هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر.
في هذا السياق، تجلى كذلك مفهوم آخر وهو «الدولة المُعيلة»، أو الدولة الراعية لأنشطة جماعة أو حكومة ما لتمكينها من أدوات العنف والسيادة، ما تبلور فيما بعد في حروب الوكالة في المنطقة.
حاورت أيمن دين – الجهادي السابق الذي كانت مهمته تجنيد الجهاديين للقاعدة، والذي غيرت هجمات كينيا وتنزانيا مسار حياته – ذات المسار الذي اقتفيته بمساعدة زميل خبير بالجماعات الجهادية لأصِلَ إلى المسؤول السابق بالاستخبارات الأمريكية والبريطانية ريتشارد باريت المعني بمشروع إعادة تأهيل الجهاديين والعملاء المزدوجين السابقين من أمثال دين ليعملوا على إنهاء وجود الجهاد الراديكالي ورموزه. الحواران بُثا ضمن برنامج بلا قيود على شاشة بي بي سي باللغتين.
إيكال العنف
الآن كيف تتم عملية «إيكال العنف» من طرف ذي سيادة أو نفوذ لطرف آخر متمثل في أفراد أو جماعات أو أجهزة أو حتى دول؟ ما يحدث اختصارًا بشكل تطبيقي هو كهرم مدبب رأسه إلى الأعلى، ودعونا نؤشر للعنف بسهم يتجه للأسفل من رأس الهرم إلى قاعدته. ثلاث مراحل توضح هذه الصورة: أولًا– «مَركَزَة» العنف، أي احتكار الدولة للعنف من حيث المبدأ.
ثانيًا– تراتبية العنف، أي تدرج السلطة والقدرة على التحكم في هذا العنف من رأس الدولة إلى سلطة الحكم بمؤسساته إلى الأجهزة الأصغر والأقل امتيازات وسلطة، وحتى الأفراد القائمين على تنفيذ محددات ممارسة العنف باستخدام أدوات محددة كالقانون، السلاح، التشكيلات المدربة، الموارد، إلى آخره.
وثالثًا– تحديد المسافة بين الحاكم والمحكوم في ضوء مدى التمكن من الاحتكار التام أو الجزئي لهذا العنف، ثم الانفراد بـ«إيكاله» إلى الكيانات المخولة بممارسته تحت سلطة الدولة سواء من داخل الدولة أو استجلابًا من الخارج.
يقودنا هذا إلى تصنيف نظام الحكم في دولة ما – ضمن أدوات أخرى للقياس – من حيث مقدارُ مركزية القرار ومدى السيطرة عليه ليمتد خط بياني من أقصى التطرف السياسي لنقيضه، من السيطرة الكاملة (الأنظمة الاستبدادية أو الفاشية) إلى الدولة الفاشلة (فقدان الدولة كامل سيطرتها على العنف مبدأ وأدوات) وما بين النقيضين.
من المفيد بمكان أن نشير إلى أن هذه الآلية، تمكننا ضمن أدوات أخرى كصحافيين وباحثين من قياس معدل الالتزام بمبادئ الحكم الرشيد بشكل أو بآخر. فمثلًا كلما زادت سطوة القانون على الهرم من رأسه لأصول قاعدته، يمكن القول بشيء من التعميم غير المخل بالضرورة، إن احتكار العنف يسير وفق آلية الاكتتاب المجتمعي وأن الجميع أمام القانون سواسية، من ثم فإن احتكار السلطات للعنف ليس مطلقًا. بالتالي فإن صورة الديمقراطية كمبدأ وممارسة في هذه الدولة يسير على نحو محكم، والعكس صحيح.
كيف تعرف الميليشيا إذن؟
لفظة «ميليشيا» تبقى من أكثر التعريفات حساسية اصطلاحًا في الشرق الأوسط، وربما خارجه، لا لكونه لفظًا محملًا سياسيًّا بشكل قد لا يكون دومًا محمودًا، وإنما – وفق خبرتي في استخدام المصطلح في الحوارات والتغطيات الصحافية – لتبارز الأطراف المتناحرة أو المتنافسة على السيادة داخل دولة أو أخرى باستخدام نعت «الميليشيا» على كل من عداها، في محاولة للاستئثار بالأحقية في احتكار العنف كما سبق وأسلفنا، من ثم شرعنة وجودها وسيادتها.
إجمالًا، يمكن اصطلاحًا إطلاق مصطلح الميليشيا على كل قوة مسلحة خارج سلطة الدولة – حتى وإن استعانت بها مرحليًّا، مثلها كمثل حركات التمرد، والجماعات أو القبائل، المسلحين المؤدلجين كالحركات الجهادية الراديكالية والفصائل المنشقة عن أجهزة شرطية أو عسكرية رسمية وغيرها. هذه الجماعات تعمل في نطاقات قد تتمايز بين المحلي والإقليمي وحتى الدولي كتنظيم القاعدة وتنظيم جماعة الدولة الإسلامية وغيرهما.
إلا أن الميليشيا يمكنها دون غيرها أن تأتمر بأمر الدولة أو أن تؤدي بشكل متصل أو منفصل كأذرع عسكرية للدولة، ومن الممكن ضمها للواء الجيش أو قوات الأمن وغيرها ضمن محاولات الدولة تقنين أو شرعنة وجودها لغرض ما. من هنا يكمن الاعتقاد في أن الفارق بين الميليشيا وعصابات المافيا على سبيل المثال يتمثل في مشروع سياسي عادة يحرك الميليشيات أو موظِّفَها حتى لو انطوى الأمر على قدر من التربح، والمثال على ذلك المرتزقة الأجانب الذين يُستعان بهم مقابل المكافآت أو الأجر أو الامتيازات لتمكين طرف سياسي ما من السيادة.
الدولة والميليشيات ومفهوم السيادة
بشكل تفصيلي، تتراوح علاقة الدولة بالميليشيات والجماعات المسلحة ما بين ١. التعايش، ٢. التواؤم، أو ٣. المواجهة. هذه الأنماط من التفاعل قابلة للتغير وفقًا لتنامي قدرات الميليشيات من حيث العدد ودرجة التسلح والقدرات الكامنة والمهارات القتالية وتنامي أو تراجع الظهير الشعبي والتحالف من قوى داخلية أو خارجية إضافة للتمويل ووجود وكيل أو مُعيل سياسي أو تمويلي في الداخل أو الخارج.
كنت شاهدة على الأنماط الثلاثة للتفاعل بين الدول والجماعات المسلحة. هذه المعاملات السالف ذكرها وغيرها تمثل تحديًا للدولة ومبدأ «التمكن» من السيطرة كليًّا أو جزئيًّا على أدوات العنف واحتكاره. منهاج دولة ما في التعامل مع القوى المسلحة كالميليشيات يعتمد في محدداته على مدى توافق مشروع الميليشيا مع أو ضمن مشروع الدولة وكذلك حجم الميليشيا وثقلها.
جدير بنظرة معمقة هنا أن نبحث في دور الظهير أو العائل الشعبي للميليشيات. قد تكون العلاقة طبيعية في حال انبثاق الميليشيا ذاتها من سياق قبلي أو عشائري أو مذهبي ما، وقد يكون التعايش إيجابيًّا كتقديم الحماية والملاذ والدعم أو حتى التمويل من الحاضنة المجتمعية للميليشيا، أو سلبيًّا بعدم التعرض لها أو الإرشاد عنها لأذرع الدولة أو لمؤسسات القانون والأمن.
التحدي الأبرز أمام الميليشيا فضلًا عن معاملات الأمان والمهارات القتالية وفنون الاختباء والمناورة، يكمن في التمويل والإمداد. لهذا السبب يتعين على الميليشيا أن ترسم بعناية استراتيجيتها المحلية لجمع، وتحويل والإبقاء على مصادر تمويلها وتسليحها، بل والقدرة على تسويق نفسها للممولين والقدرة على المناورة في تغييرهم وجذبهم تحت المتغيرات المختلفة – في علوم الدراسات الأمنية والعسكرية تُسمى هذه «نظرية تعبئة الموارد» – والتي لا تستثني البحث الدائم عن الدعم المحلي والحواضن الاجتماعية. تنظيم القاعدة كان النموذج الأكثر مهارة بهذا الصدد، استلهامًا من تنظيمات «العدو القريب» كتنظيمي الجهاد والتكفير والهجرة وغيرهما في الربع الأخير من القرن العشرين.
من يحتكر العنف يحكم
منذ التدخل الأمريكي في أفغانستان، واجه التعريف الكلاسيكي الواقعي للدولة باعتبارها المحتكر للعنف تحديًا كبيرًا. فلما تعاظمت قدرات المجاهدين لتتغول على الدولة في أفغانستان، بدا جليًّا أمران: ١. أن المسيطر على أدوات العنف يسيطر على صنع السياسة ومفهوم السيادة، و ٢. أن الحروب بالوكالة قطعًا وسيلة أكثر أمانًا وأكثر فاعلية وأقل خسائر لمواجهة العدو (الاتحاد السوفيتي في هذه الحالة).
حينها تحولت أفغانستان لدولة فاشلة بالمفهوم الكلاسيكي لأنها فقدت تمامًا مبدأ احتكار العنف وفقدت القدرة على إدارة أدواته – بل وتحولت تحت حكم طالبان إلى مدير ثانوي لمؤسسات العنف المقنن. حتى إن حركات مثل طالبان وتنظيم الدولة الإسلامية فيما بعد أدارت مفاصل في الدولة لا علاقة لها بالعنف، وإنما بالتمويل مثل آليات فرض الضرائب على الأفراد والأعمال، إنفاذ الشق العقابي من تأويلها للشريعة وغيرها من إجراءات بسط الهيمنة على الموارد وأدوات الترهيب «النظام» في الدول والأقاليم التي تولت زمام الحكم فيها.
لكن الدليل الأهم على إمكانية تغير المعيل أو الموكل باستمرار، كان دخول الولايات المتحدة في حرب مع تنظيم الدولة الذي ضم كثيرين من أصدقاء الأمس من العرب والمجاهدين الأفغان لما تغيرت المصالح، وتغول الوكيل على الموكل. كنت شاهدة على ذلك مرتين، مرة إبان حكم طالبان لأفغانستان قبل الحرب الأمريكية 2001.
وأخرى هذه الأيام مع عودة طالبان للمربع رقم واحد كاسحة معها المشروع الأمريكي الذي اجتث حكم الحركة قبل عشرين عامًا على أمل ألا تقوم له قائمة أخرى. السؤال الصحافي الذي سألته إبان حكم طالبان الثاني لمسؤولين أفغان كثر كان من بينهم الرئيس السابق حامد كرزاي قبل عدة أعوام، ومسؤولين عسكريين وأمنيين أمريكيين وبريطانيين متنفذين – هل انتهت إذن الحرب الأمريكية على «الإرهاب» بخسارتها؟ لم يعطني أحد إجابة شافية حتى الآن.
الحروب الجديدة
كنت شاهدة على الحروب التقليدية والجديدة في آنٍ معًا. من المنصف بمكان القول إن تيار الحروب غير التقليدية سواء عن بعد أو بالوكالة أو بالضربات المحدودة لأغراض الاحتواء أو التعامل أو رد الفعل جاءت بعد الغزو الأمريكي للعراق بسنوات.
فتجربة الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان منذ 2001 كلفت إدارتَيِّ بوش الأب والابن الكثير على مستوى النفوذ والشرعية الدولية وحتى على الصعيد الداخلي بسبب الخسائر البشرية المادية للحربين، والإخفاق في القضاء نهائيًّا على مسببات «الخطر» حتى لو بدا آنيًّا أنها انتفت وتم القضاء عليها، سواء في حالة طالبان 2001 أو نظام الرئيس الراحل صدام حسين 2003.
الحروب الصغيرة ليست بصغيرة
اللافت أن تعريف الحروب غير التقليدية (الجديدة) من الناحية التقنية لا يستثني الحرب التي يمتلك أحد طرفيها جيشًا كاملًا أو قوات نظامية غير أجنبية، أو يستخدم الوسائل والتكتيكات الخاصة بالحرب التقليدية، فإذا ما كان أحد الخصمين يستخدم تقنيًّا قوات غير نظامية أو غير تقليدية التسليح مثلًا، أو حتى يستخدم تكتيكات حرب الشوارع أو العصابات، فيمكننا القول إنها «حرب صغيرة» أو حرب غير تقليدية اصطلاحًا، وهذا ما ذهب إليه كثير من الأكاديميين المعاصرين، حتى لو لم يكن نطاق هذه الحرب صغيرًا بالمفهومين الجغرافي أو التقني أو حتى الديمغرافي.
من هذه الفرضية، يمكننا القول إن وجود الميليشيات والقوات غير النظامية والمرتزقة، كل على حدة في الحروب الأخيرة في الشرق الأوسط، لم يغير فقط تعريف الدولة والسيادة والعلاقة بين الدولة ومحيطها، بل علاقة الدولة والدول الموكلة بأدوات العنف ووسائله كذلك، إذ اضطرت لتغيير تكتيكاتها المعتادة في الحروب التقليدية للتمكن من مواجهة المقاتلين غير المنضوين تحت أجهزة ومؤسسات الدولة.
من ثم ظهرت بعض الأنماط الجديدة للقتال كحروب الشوارع والحروب عن بعد والحروب بالوكالة مثالًا لا حصرًا، وبُعثت أخرى قديمة في فنون القتال والتخطيط كاستجلاب المرتزقة وتجنيد الميليشيات المحلية والضربات النوعية وغيرها.
انتهاء أقول هذه القراءة لا تتسع لكل حوار ولكل تقرير ولكل شهادة، لكنها مجرد اجتهاد في رصد تجربتي المهنية في دراسة الحرب والقوات غير النظامية، وكيف كنت شاهدًا صحافيًّا على تغير وجه الحرب في منطقتنا طيلة أكثر من عشرين عامًا.
الآراء والتحليلات الواردة في هذا المقال لا تعبر ولا تعكس بالضرورة رأي اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
نُشر هذا المقال في العدد 70 من مجلة «الإنساني» ضمن ملف العدد عن «أنسنة الإعلام». للاطلاع على محتويات العدد، انقر هنا. للاطلاع على العدد كاملًا، انقر هنا
شكرأ