«كان أفضل العصور، كان أسوأ العصور»: قصة مدينتين في أعقاب النزاع

قانون الحرب

«كان أفضل العصور، كان أسوأ العصور»: قصة مدينتين في أعقاب النزاع

ICRC

ما بين طرفة عين وانتباهتها يمكن أن تنتقل مدينة من حالة الازدهار والسِّلم إلى حالة الخراب فتستحيل إلى أطلال من جراء الحرب. يتوقف الأمر على كيفية تكشّف فصول النزاع وكيف تفي أطراف النزاع بالتزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني قبل المعارك أو في أثنائها أو بعدها. فعلى ذلك يعيش سكانُ المدينة تجربةَ ما بعد الحرب بطرق مختلفة تمام الاختلاف. في هذا المقال الذي هو جزء من سلسلة “القانون الدولي الإنساني في أعقاب اندلاع النزاع”، تبعث المستشارةُ القانونية للجنة الدولية للصليب الأحمر، كيليزيانا ثين، هذا النذير في صيغةٍ قصصيةٍ، فتمهد الطريقَ لمزيد من النقاش بشأن تداعيات النزاع واستمرار التزامات الدول وأطراف النزاع بالقانون الدولي الإنساني والالتزامات الأخرى.

في روايته “قصة مدينتين” المنشورة عام 1861، نقل تشارلز ديكنز بعدسةٍ أدبيةٍ معاناةَ الأشخاص الذين عاشوا أثناء الثورة الفرنسية. ووظف ديكنز في هذا العمل مدينتين: لندن باعتبارها ملاذًا آمنًا وإن لم يكن محصَّنًا ضد المعاناة، وباريس المدينة التي ارتعدت فرائصها في “عهد الإرهاب”. الروايةُ في ظاهرها قصةٌ عن حاضرتين، لكن مدارَها في واقع الأمر هو البشر، ساكنو المدينتين.

يرجع أصل كلمة “مدينة (city)” إلى الكلمة اللاتينية civis وتعني “رجل المدينة”. أما الكلمة اللاتينية التي تعني “مدينة” بوصفها مكانا فهي urbs. وعلى ذلك فالمعنى الأصلي لكلمة “المدينة” يدور حول الناس. وعندما نتحدث عن حرب المدن اليوم – حتى ونحن نتحدث عن الأضرار المادية التي تكبدتها المدن نفسها –إنما نعني معاناةَ ساكنيها، بشكل مباشر أو غير مباشر، التي تهمنا بصفتنا عاملين في المجال الإنساني.

في القصة المتخيلة التي ابتدعتُها، اختلقتُ مدينتين من وحي الخيال، ولنخلع عليهما اسمين: دارني وكارتون. في بداية قصتنا، هاتان المدينتان متشابهتان للغاية. وهما عاصمتا بلديهما، والمركزين الرئيسيين للمال والأعمال في البلدين. يبلغ عدد سكان كل منهما زهاء 2.5 مليون نسمة، وعمل كثيرون من السكان في مجالي المال والأعمال، وكانوا ميسوري الحال ويحظون بخدمات جيدة. وكانت المدينتان تصارعان جائحة كوفيد-19 بمعدلات تحصين واستشفاء مماثلة.

ثم جاء اليوم الذي تعرضت فيه المدينتان لهجوم شنته جماعة مسلحة من غير الدول، وهو نزاع مسلح غير دولي تقليدي. لن تركز قصتنا على كيف تصرفت الجماعة المسلحة من غير الدول، ولا كيف استجابت سلطات الدولة، ولا كيف أرسلت دول أخرى دعمًا عسكريًا جويًا كثيفًا بشدة من ضمن أشكال الدعم الأخرى. إنما تُعنى قصتُنا بما يعقب المعركة بالنسبة لمدينة دارني ومدينة كارتون، فقد استعادت القوات الحكومية المدينتين، وانتهت الأعمال العدائية النشطة حيث تحركت القوات لتعزيز جيوب المقاومة الصغيرة المستمرة في بقية البلاد، وإنهاء العمليات العسكرية فنعمت الدولتان بالسلام مرة أخرى.

عندما انتهى النزاع أخيرًا، كان لتطبيق الأطراف للقانون الدولي الإنساني (أو عدم تطبيقه) في أثناء الأعمال العدائية تداعيات على المدى البعيد على المدينتين وسكانهما. مدينتان خربتان، مبانيهما مدمرة بالأسلحة المتفجرة الثقيلة، وشبكات الكهرباء والاتصالات فيهما معطلة بسبب الهجمات الحركية والسيبرانية، وسقط من سكانها آلاف القتلى والجرحى. للوهلة الأولى قد يقول قائل إن قصتيْ دارني وكارتون كانتا متشابهتين وأنهما ستظلان كذلك. إلا إن مصيريهما يختلفان بالفعل، وذلك لأن قصة كل مدينة منهما قد اتخذت بالفعل منعطفات مختلفة في أثناء النزاع نفسه.

“… لا يمكن أن يخرج من رحمِ القَمعِ سوى القمعُ نفسه …”

في أعقاب استعادة سلطات دارني المدينة، استحثت السلطاتُ نظامها القائم المعني بتسجيل القبور على مباشرة عمله ومكَّنت فرقَ الطب الشرعي الحكومية والعاملة في المجال الإنساني من المساعدة في تحديد هوية الموتى وإبلاغ العائلات بمصير أحبائها. كانت السلطات تجري هذا النظام بفعالية قبل فترة طويلة من النزاع وكانت قادرة على تفعيله على الفور.

في أثناء النزاع، عندما غادر المدنيون من مدينة دارني التي يسيطر عليها المتمردون إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، وجد البعض ملاذًا في مخيمات النازحين داخليًا. أُديرت هذه المخيمات إدارة جيدة، وفُحص الأشخاص عند وصولهم وسُجلت أسماؤهم. وقد مكّنت هذه الخطوة السلطاتِ من توثيق الأشخاص، الأمر الذي يَسَّر عودة النازحين إلى المدينة في أعقاب النزاع. وفُصل مَن حُددت هوياتهم بوصفهم منتمين إلى الجماعة المسلحة ووضعوا رهن الاحتجاز مع ضمانات إجرائية لمراقبة التهديد الأمني الذي يشكله أفرادها.

مع تلاشي حدة النزاع، تم تحديد بعض الأشخاص باعتبارهم ما عادوا يشكلون تهديدًا أمنيًا، وأُطلق سراحهم وجُمع شملهم مع عائلاتهم. بالنسبة للأشخاص الذين لم يذهبوا إلى مخيمات النازحين ولكنهم بدلًا من ذلك تم تهجيرهم مع أفراد عائلاتهم أو أصدقائهم أو نزحوا إلى مدن مختلفة، كان وصولهم إلى الخدمات الإنسانية أقل، لكن تمكن العديد منهم من الاحتفاظ بوظائفهم رغم دفعهم إيجارٍ أكبر، وعانوا من حياة أكثر حرمانًا بوجه عام. كانت إعادة التوطين في منازلهم القديمة بعد النزاع أسهل بالنسبة لأولئك الذين لم يعتادوا على العيش في المخيمات.

أما على الجانب الآخر في مدينة كرتون، فقد تناثرت جثث القتلى في الشوارع لعدة أيام إثر اشتباكات مسلحة. لم يكن في المدينة سوى فريق أساسي للطب الشرعي ضمن قوات الشرطة. وليس في المدينة منظومة قائمة للاضطلاع بالعمل أو دعم مستودعات الجثث في أثناء النزاع. كانت رائحة الجثث لا تطاق، وتتحمل العائلات آلامًا قاسية. انتقل المدنيون إلى خارج المدينة في أثناء النزاع، وكثيرون منهم نزحوا إلى مخيمات النازحين التي أقيمت في اللحظة الأخيرة بتنظيم محدود. أجريت تصفية شاملة فتم بموجبها فصل الرجال والفتيان الذين تزيد أعمارهم عن 12 عامًا عن زوجاتهم وعائلاتهم وأمهاتهم. وأما النازحون الذين تجنبوا المخيمات فصاروا معدمين مع مرور الوقت.

كانت مرافق الاحتجاز في كارتون مكتظة وفي حالة سيئة – ولا تزال. ولم تكن فيها عمليةٌ لتقييم التهديدات الأمنية الفردية، الأمر الذي كان من شأنه التمكين من الإفراج عن المحتجزين بشكل أسرع في أعقاب النزاع. وانسحبت بالكامل الدول من غير الأطراف التي كانت تدعم مرافق الاحتجاز ولم تضع أي ضمانات إجرائية أو آليات للمراقبة. أما الأشخاص الذين أُفرج عنهم من الاحتجاز أو معسكرات النازحين فكانوا عرضة للوصم، فليس بوسعهم الحصول على وظائف أو الوثائق المهمة التي تمكِّنهم من الحصول على معاشات تقاعدية واستعادة ممتلكاتهم. سقط هؤلاء في طي النسيان.

“اليوم الذي ينفقه المرءُ على الآخرين لا يَضيعُ أثرُه في نفسه”

في نهاية الأعمال العدائية النشطة، ومع خروج القوات وحلول سلام نسبي في كل مدينة من المدينتين، بدأت السلطات في دارني في إعادة بناء البنية التحتية. استمرت الحكومة في أثناء النزاع في دفع رواتب الموظفين العاملين في البنية التحتية الأساسية، ما مكّن من إجراء إصلاحات أساسية واستمر العمل رغم الهجمات المتكررة وانقطاع التيار.

في أعقاب ذلك، تم تركيب مولدات كهربائية عند اللزوم، وأُصلحت مضخات المياه، وجُددت المستشفيات. أُعيد فتح المدارس تدريجيًا، وبدأت حياة الأطفال تعود إلى وضعها الطبيعي. وطُلب من الدول غير الأطراف في النزاع دعمَ مشاريع إعادة البناء. ومُنحت المنظمات الإنسانية تطمينًا أمنيًا للمساعدة في المشاريع الإنسانية. كما مولت الدولُ من غير الأطراف في النزاع هذه المنظمات مباشرة دون قيود أو مخاوف. واستمرت عمليات إزالة الألغام الأرضية والذخائر العنقودية (ونحن هنا أمام نوع من الإخفاق لدى الجانبين في الامتثال للقانون الدولي الإنساني في أثناء النزاع، وهو ما وجب تصحيحه بهذه العمليات) وغيرها من مخلفات الحرب غير المنفجرة، حتى يتمكن المدنيون من العودة إلى منازلهم وأماكن عملهم وحقولهم.

وفي مدينة كارتون تعطلت الخدمات الأساسية عن عمدٍ في أثناء النزاع المسلح ولم تدعم سلطاتُ الدولة ولا المتمردون استمرارَ أداء البنية التحتية الأساسية خدماتها، إذ لم يكن بالإمكان إجراء صيانة لها، ولم تدفع رواتب الموظفين. واتخذت الدولة إجراءات صارمة ضد المنظمات الإنسانية وتواجدها في المدينة، قائلةً إن النزاع انتهى وأن وجودها غير مطلوب. أما بالنسبة للمنظمات المعدودة المسموح لها بالبقاء، مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر فقد كان تمويل المشاريع الإنسانية يمثل تحديًا لها بسبب العقوبات أو قوانين مكافحة الإرهاب، التي منعت أي أنشطة تمويلية يمكن أن تفيد الحكومة غير المعترف بها في كارتون.

تعرضت المدارس في كارتون لهجوم مباشر أو تضررت بسبب الآثار الارتدادية لاستخدام الأسلحة المتفجرة في أثناء النزاع. وتعذَّر على الأطفال استكمالَ تعليمهم سنوات عديدة في جميع أنحاء المدينة وفي مخيمات النازحين داخليًا. في غضون ذلك، فشلت الحكومة في إعادة بناء المدينة؛ فمواردها قليلة، والموظفون الذين كانوا يعملون في تلك المرافق لم يحصلوا على رواتبهم لفترة طويلة أو غادروا أماكنهم. وكان على المدنيين العائدين إلى المدينة إعادة بناء منازلهم باستخدام موارد قليلة، وكانت إمكانية حصولهم على الكهرباء والماء محدودة، إضافة إلى مشكلة مخلفات الحرب غير المنفجرة التي تهدد أرواحهم وسبل عيشهم. وبالنسبة للمستشفيات، تسبب نقص الكهرباء وخاصة المياه النظيفة في المزيد من الأمراض والمشاكل في رعاية الجرحى والمرضى.

“حشد غفير من البشر ومع ذلك فثمة عزلة تخيّم عليهم”

فقدت كل عائلة في كارتون فردًا من أفرادها. كان هؤلاء الأحبة الغائبون إما في مراكز الاحتجاز أو في مخيمات النازحين أو خارج البلاد أو في عداد الأموات، وأحيانًا دون تسجيل أسمائهم. لم يكن ثمة منظومة قائمة تدعم العائلات في العثور على أحبائها. وبدا أن السلطات في كارتون لا تتحمل أي مسؤولية تجاه المفقودين. وكانت المصالحة بين الأطراف المتحاربة والمدنيين الذين تحيزوا سياسيًا أو دينيًا في النزاع تمثل تحديًا.

بعد ذلك دخل بعض الناس في دارني في عداد المفقودين أيضًا، إذ رغم جميع الاحتياطات المتخذة ينجم عن النزاعات دائمًا دخول الأشخاص في عداد المفقودين. ولكن الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر تمكنت من تفعيل برنامجها لإعادة الروابط العائلية، في أثناء النزاع. وحتى خارج مخيمات النازحين وُضعت أنظمةٌ لتتبع المدنيين النازحين. وتم تفعيل القانون القائم المعني بالمفقودين ووُضعت آلية للبحث عن المفقودين لمحاولة اكتشاف حقيقة ما حدث لأفراد الأسرة الذين دخلوا في عداد المفقودين. وبدأت التحقيقات في جرائم الحرب وغيرها من انتهاكات القانون الدولي الإنساني. ومن أجل تيسير عملية السلام، مُنح أفراد القوات المتمردة عفوًا. أما مَن ثبت في حقهم ارتكاب جرائم حرب من كلا الجانبين فقد واجهوا الملاحقة القضائية. وقُدمت تعويضات للمدنيين المعنيين وأمكن المضي قدمًا في المصالحة.

وهنا تشرف قصتنا وما تحمله من عظة على الانتهاء؛ فإعادة البناء جارية في مدينة دارني، ويتمكن المدنيون من البدء في مواصلة حياتهم في أعقاب النزاع المسلح هناك. في حين، لا تزال مدينة كارتون في حالة خراب؛ فحياة المدنيين الذين عادوا أو الذين لم يغادروها محفوفة بالمخاطر، فهم في حالة استضعاف مزرٍ وليس لديهم سوى القليل من الدعم أو لا دعم على الإطلاق. وقد غذى السخط والوصم النزاع من جديد، ودارت رحى العنف. أما مدينة دارني فتنعم بسلام دائم.

دائمًا ما تكون الحرب كارثية، ولكن مع وجود الآليات الصحيحة وتطبيق القانون الدولي الإنساني والدعم الإضافي من الدولة والدول الأخرى من غير الأطراف في النزاع والدعم المقدم من الجهات الفاعلة الإنسانية والتركيز على المدنيين الضعفاء والمصالحة في أثناء النزاع وبعده، لم يعد استمرار المعاناة الإنسانية أمرًا حتميًا في أعقاب الحرب.

يحدونا الأمل في أن تتمكن مدينة كارتون التي ابتدعها خيالنا وتلك المدن الحقيقية التي تعاني في أعقاب النزاع من وأد الأعمال العدائية الجديدة وإعادة البناء كما فعلت مدينة دارني المتخيلة، بفضل فهم التزامات القانون الدولي متى اندلعت الحرب، والاستعداد والتخطيط لها، والالتزام بها في أثناء النزاع وفي نهايته. ولو شئنا اقتباس نص آخر من الرواية ذاتها مناسب للمقام لَما وجدنا أفضل من تنبؤ ديكنز لمدينة باريس التي تخيلها: “إني لأرى مدينة بديعة وشعبًا متوقد الذكاء ينهضان من الدرك الأسفل لهذه الهاوية.”

نُشر هذا المقال في الأصل في مدونة «القانون الإنساني والسياسات». وقد نقل عاطف عثمان النص إلى العربية. 

اقرأ أيضا:

كيليسيانا ثيين، أما آن لكل هذا أن ينتهي؟قصة متخيلة تفتح نافذة على معاناة المدنيين في أعقاب النزاعات

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا