لا ينسى الناس أحبتهم المفقودين مطلقًا. فتحرص العائلات كل الحرص على ذكراهم. ولا يهم عدد السنوات التي تمر، ولا مقدار تعافي البلد من النزاع المسلح ونجاحه في إعادة إعمار بنيته التحتية وأنظمته، إذا لم تلقَ قضية الأشخاص المفقودين الاهتمام المناسب. تشكل قضية الأشخاص المفقودين صدعًا عميقًا، قد يمنع أي بلد من التعافي الكامل. وهنا تكمن ضرورة أن نولي ملف المفقودين وعائلاتهم مزيدًا من الاهتمام، من أجل حماية أنفسنا وأسرنا، ولمساعدة العائلات على معرفة مصير أحبتها، ولمصلحة مجتمعاتنا على نطاق أوسع، بتمكينها من التعافي والمضي قدمًا.
ولدنا ونشأنا في منطقة عانت مرارًا جراء النزاعات وغيرها من الأزمات الإنسانية على مدار عقود، وشهدنا عددًا من هذه النزاعات والأزمات – التي تتضمن حالات العنف الأخرى والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تؤدي إلى زيادة الهجرة غير النظامية، التي تأثرت بها جميع دول المنطقة تقريبًا، حاليًّا أو في الماضي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. لذا يتعين علينا وضع مثل هذه المبادرات في صدارة أولويات المنطقة كما نعلم كلنا أن الماضي بلا شك يؤثر على مستقبلنا وطريقة تعايشنا، كما أنه أيضًا يوجهنا من خلال التعلم من دروسه المستفادة حول كيفية الحد من هذا الحزن والألم وتجنبه في المستقبل.
أثار كل هذا العديد من الأسئلة المهمة الناشئة عن إدراكنا بأن احتمالية فقدان أي شخص يعيش في هذه المنطقة، أو يعمل في مناطق متضررة من النزاع، أو فقدان أحد أفراد عائلاتنا أو أصدقائنا، أعلى مما نتوقع. وتبقى الأسئلة التي تطاردني: هل يحظى هذا الموضوع بالاهتمام الذي يستحقه؟ هل نفعل ما يكفي لمنعه؟ هل يحمينا القانون في هذا الشأن؟ كيف نريد أن يحمينا القانون؟ هل هناك أي شيء بخلاف القانون قد نحتاجه لضمان هذه الحماية؟ هل تمتلك المنطقة ما يلزم – من المعرفة والخبرة والقدرة – للتصدي لهذه المأساة؟
قضية ملحة
قضية المفقودين – أي الأشخاص الذين لا يُعرف مصيرهم ومكان وجودهم – هي قضية عالمية وتزداد إلحاحًا في منطقتنا حيث يتزايد عدد الأشخاص المفقودين بشكل مستمر. وبشكل عام، فإن الأشخاص المفقودين هم إحدى تبعات حالات النزاع المسلح وحالات العنف الأخرى والكوارث الطبيعية والهجرة. وبالتالي، يختفي الأشخاص، على سبيل المثال لا الحصر، إما بسبب عدم قدرتهم على التواصل مع عائلاتهم بعد الفرار من الخطر، أو احتجازهم أو التحفظ عليهم دون إمكانية الوصول إلى وسائل الاتصال، أو تجنب المفقودين أو عائلاتهم البحث عن أحبائهم خوفًا من الأعمال الانتقامية من أطراف النزاع. وفي حالة الوفاة، وهو الاحتمال الأكبر لمصير المفقودين سواء أثناء الأزمات الإنسانية تلك أو في أعقابها، تظل الرفات إما مجهولة الهوية أو لا يمكن التعرف عليها أو لا يُعثر عليها أبدًا. ومن المرجح أن تترك تلك الجثث أو تدفن في قبور مجهولة أو بطريقة، أو في موقع، يحط من كرامتها.
وفي كل الأحوال، تعاني عائلات المفقودين من آلام الابتعاد عن أحبائهم، وعدم القدرة على رؤيتهم، أو على الأقل معرفة مصيرهم، أيًّا كان. بل يعيشون في مفارقة يومية من الشعور بالذنب حول ما إذا كان عليهم التمسك بأدنى أمل في أن أحباءهم على قيد الحياة، ويفعلون أقصى ما في وسعهم للعثور عليهم، أو التخلي عنهم وتقبل الاحتمال الأكبر بأنهم لن يعودوا أبدًا – ولكنه تقبل غير مُجدٍ، مع عدم وجود جثة الشخص لدفنها، ولا قبر لزيارته ولا مراسم لتلقي العزاء.
غيض من فيض
العراق: خلال زيارتي لسجن في بغداد، طلب مني مدير السجن، وقد تجاوز سن الخمسين، ملء طلب للبحث عن شقيقه الذي فقد الاتصال به منذ حرب الخليج الأولى في العام 1991 (نزاع سابق نتج عنه مئات الأشخاص المفقودين). وبمجرد وصولي إلى مكتبي، تبينت أنه وعائلته قد قدموا بالفعل أكثر من طلب للبحث عن شقيقهم المفقود. وها أنا، في ظل نزاع آخر في العراق، الذي يخلفه العديد من النزاعات وحالات العنف الأخرى. أكم من عائلات أخرى تعيش هذا الألم وهذه الحيرة.
ليبيا: استمرت مئات العائلات الليبية في إحضار الطعام والمال والملابس لأقربائهم في أحد السجون حتى عام 2011 ليكتشفوا أنهم قُتلوا منذ عام 1996. لم يكن لتلك العائلات أي دليل على بقاء أحبائهم على قيد الحياة ولا أي اتصال هاتفي معهم ولا حتى زيارتهم، ولكنهم كانوا متلهفين للاعتقاد بأن أقرباءهم كانوا على قيد الحياة وآمنين في أماكن الاحتجاز. حتى إنهم استمروا في إرسال الطعام والمال إليهم تحسبًا أن يحتاجوا إليه.
سورية: تلقينا طلبات للبحث عن مئات المفقودين من أطراف النزاع المختلفة، وكانت تضم عشرات الأطفال والنساء الذين فُقدوا خلال انفجار واحد أثناء تبادل بين الجماعات المسلحة من غير الدول والقوات الحكومية، ولم يكن من الممكن التعرف على الجثث بسبب الانفجار، كما نقلت فرق الطوارئ الجرحى إلى تركيا لتلقي العلاج من دون التعرف على هويتهم. تواصلت في ذلك الوقت مع إحدى المفقودات في تركيا وهي فتاة تبلغ من العمر 12 عامًا، كانت في حالة صدمة وقد انفصلت عن عائلتها وخضعت للعديد من العمليات الجراحية وحدها. ولحسن الحظ، تمكنا من لم شمل الفتاة بأسرتها، ولكن بالنسبة للعديد من الآخرين، سواء من هذا الحادث أو غيره الكثير، لا تزال العائلات ممزقة دون أي اتصال.
وما هذه القصص إلا غيض من فيض في بحر من ألم وعذاب لا نهاية لهما، عانت وما زالت تعاني منه المنطقة. الألم لا يزول، والعائلات لا تستسلم، ولا يمكن للعائلات أن تفقد الأمل بغض النظر عن أي مصاعب خارجية قد يواجهونها وهنا أطلب منكم التأمل للحظة في كل قصة من تلك القصص، والشعور بها عميقًا داخلكم، وتخيل حياة كل شخص مفقود وكل فرد من عائلته وما يشعرون به من يأس.
في منطقتنا، تتجلى أزمة الأشخاص المفقودين وعائلاتهم في كل مكان حولنا، ولكن يبدو أن الكثير منا يغض البصر عن ذلك الأمر، عن قصد أو عن غير قصد، حتى أصبح «تجاهلًا يوميًّا». فإذا أدركنا المشكلة وتوقفنا لحظة لنفكر فيما حولنا، فسنكتشف وجود المشكلة تلقائيًّا في كل مكان – وهو ما يُسمى تأثير بايدر ماينهوف.
وفي منطقتنا لا يتطلب الأمر منا إلا أن: إذا ننظر إلى الأشخاص من حولنا، نشاهد ونستمع ونقرأ الأخبار، ونطلع على مناهجنا التعليمية وغيرها، و نلاحظ/ننظر إلى النصب التذكارية «للجنود المجهولين» في العديد من الدول العربية، و نتذكر أسرى الحرب أو المحتجزين أو الجرحى الذين كانوا أو لا يزالون في عداد المفقودين طوال الحروب العديدة التي شهدتها المنطقة) على سبيل المثال الصراع العربي الإسرائيلي، وحرب الخليج الأولى، وحركات التحرير، والنزاعات المستمرة في اليمن وسوريا والعراق ودول غيرها( قد نرى حينئذ كثيرًا من اللاجئين أو طالبي اللجوء الذين فقدوا الاتصال بعائلاتهم، وعائلات فقدت الاتصال بأحبائها في رحلتهم للعثور على حياة أفضل وأكثر أمانًا، وأشخاص وُضعوا في المنفى دون إمكانية التواصل مع عائلاتهم، وعائلات فقدت الاتصال بأحبائهم عقب اعتقالهم أو اختطافهم، وضحايا لم يمكن التعرف على هوياتهم أو العثور عليهم في ظل الحرب، وكثير من الجثث مجهولة الهوية. والقائمة لا تنتهي.
ومع ذلك، من المهم أن نتذكر أن مأساة المفقودين وعائلاتهم موجودة في التاريخ العربي والإسلامي منذ زمن بعيد. وينعكس ذلك في التطور التاريخي التدريجي للقواعد والأعراف المتعلقة بالمفقودين وعائلاتهم المنصوص عليها في القوانين الدولية والوطنية وشريعتنا الإسلامية السمحاء.
مقيمون في الذاكرة
وكما هو واضح، استمر هذا الواقع المؤسف في العصر الحديث. وتتابع اللجنة الدولية وحدها حاليًّا أكثر من 145 ألف حالة مفقودين في جميع أنحاء العالم، معظمهم فقدوا في السنوات الأخيرة وتحديدًا من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. على سبيل المثال، في عام 2018 فقط، تلقت اللجنة الدولية أكثر من 40 ألف طلب لحالات أشخاص مفقودين، مع وجود ثلاث دول من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – هي العراق وسورية واليمن – من أصل الدول الخمس التي تلقت اللجنة الدولية منها أحدث حالات المفقودين.. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأرقام ليست سوى جزء صغير من إجمالي عدد الأشخاص الذين يُعتقد أنهم في عداد المفقودين.
وعليه، يتعين علينا اتخاذ المزيد من الخطوات الأكثر ملاءمة لمحاولة كسر الحلقة المفرغة ومنع التاريخ من تكرار نفسه. من وجهة نظري، هذا هو السبيل الوحيد لإحداث فرق في حياة عدد لا يُحصى من الأشخاص المفقودين وعائلاتهم الموجودين في الوقت الحاضر وفي المستقبل. علاوة على ذلك، هذه أفضل طريقة لإحياء ذكرى المفقودين الذين لم يُعثر عليهم والعائلات التي لم تحظَ بفرصة لمعرفة مصير أحبائهم على الإطلاق. ولكي يحدث ذلك، نحتاج كخطوة أولى إلى مراجعة الضمانات والتدابير الحالية المعمول بها من أجل تحديثها حسب الاقتضاء بهدف التصدي لهذه المشكلة المتزايدة في المنطقة بشكل أفضل لحمايتنا جميعًا. لذلك يجب علينا جميعًا التفكير في الإطار القانوني والممارسات التي من شأنها تنظيم مثل هذه الضمانات والتدابير ووضعها موضع التنفيذ.
نٌشر هذا المقال في العدد 69 من مجلة «الإنساني» الصادر في خريف/ شتاء 2021. وقد كُتب النص في الأصل بالإنجليزية، ونقلته سالي طلال إلى العربية.
للاطلاع على محتويات العدد، انقر هنا. للاطلاع على العدد كاملًا، انقر هنا.
يمكنكم الحصول على عدد مطبوع من المجلة التي توزع مجانًا من خلال بعثاتنا في المنطقة. انقر هنا لمعرفة عناوين البعثات.
Comments