بلا رتوش: زمن الأنقاض

العدد 30 / بلا رتوش

بلا رتوش: زمن الأنقاض

تتوارد الخواطر في رأس مارتا الصغيرة وهي تسرع الخطى في هذا الصباح لتلحق بمواعيد العمل الجديد الذي حصلت عليه بعد عناء مرير.

لا أحد يمكن أن يتخيل حالها في تلك الأيام العصيبة التي سارت فيها من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى مدينة ومن هضبة إلى سهل حتى عبرت الحدود كلاجئة وشاهدة على قسوة الحرب في بلادها التي اختيرت كميدان للحرب بين عدة أطراف اتفقوا جميعًا على شيء واحد هو مكان القتال.

عانت مارتا طويلًا حتى بعد أن عبرت الحدود، بفعل تنقلها من مدينة إلى أخرى ومن عمل إلى آخر، كبائعة شاي، وخادمة في المنازل ومربية أطفال. حتى قادتها أقدارها بعد عبور الحدود إلى عاصمة الجوار فسكنت في أطراف المدينة مع امرأة من مواطنيها كانت من نفس قريتها في وطنها الأصلي.

في ذلك الحي الراقي وجدت لنفسها عملًا كخادمة تقوم بنظافة المنزل وتغسل الملابس والأواني. تغسل كل شيء إلا أحزانها، وترتب كل شيء إلا أقدارها. أقدارها التي قضت بأن تفصل من العمل لسبب غريب هو إجادتها للغة الإنجليزية. فلقد ضاقت بها ذرعًا ابنة صاحب الدار نتيجة فهمها للإنجليزية أكثر منها. وهي اللغة التي علمتها لها “أماندا” موظفة الإغاثة التي كانت مستقرة بقريتهم قبل الحريق.

تذكرت مارتا كل هذه الأحداث وهي تسرع الخطى حتى بلغت إشارة المرور عند تقاطع الشارع الرئيسي. كان ذلك هو المكان الذي وعد تسفاي بانتظارها فيه. تسفاي الشخص الوحيد الذي تعرفه منذ طفولتها. وهو الابن البكر لأسرة كانت ثرية قبل اندلاع الحرب.

رأته من على البعد وهو ينظر لساعته بعصبية. كان دقيقًا في مواعيده كعادته دائمًا. لا بد أنه غاضب بعض الشيء عليها لأنها تأخرت قليلًا. يعجبها كثيرًا هذا الشاب بشكله الغريب. شعره الطويل وقميصه المهترئ وبنطال الجينز المتسخ دائمًا هكذا كان دائمًا لا يهتم بمظهره بالرغم من ثرائه الذي كان.

كان دائمًا يردد: “لا يمكن أن أحس بأناقتي إلا وسط قومي وفي وطني فقط”. بادلها التحية وهو يحثها على الإسراع في السير حتى يعرفها على مكان عملها الجديد. وفي الطريق راح يحدثها عن أصحاب الشركة.

– “هم قوم مهذبون يمتلكون شركة صغيرة ويحاولون أن يتوسعوا في أعمالهم مع شركات أخرى. قطعًا سيعجبك العمل معهم. فقط أتمنى ألا تتباهى ببراعتك في اللغة الإنجليزية حتى لا تفقدي عملك مرة أخرى. أنا لا أحب أن تكوني بعيدة عني، فهذا الموقف قريب لمكان عملي وبذا من الممكن أن ننصرف سويًا”.

كان موقع الشركة حقًا رائعًا. الطابق الثاني في بناية تتوسط قلب سوق المدينة. بالداخل كان اللون الأبيض هو اللون السائد، وكان هناك جهاز للكمبيوتر من النوع الرخيص وآلات كاتبة ترسل طرقاتها لتفيد بأن هناك عملًا دؤوبًا. ولاحظت أن كل من بالمكان منهمك في عمله.

كان المطبخ نظيفًا. وقد تفحصته منذ أن دخلت فهو مكان عملها الجديد. وكان عليها أن تقوم بخدمة الضيوف ونظافة المكاتب قبل حضور الموظفين. وقتها راحت تتخيل أنهم لا بد يكسبون جيدًا كما قال تسفاي فهذا موقع لا يستطيع أحد استئجاره إلا بعد دفع مبلغ كبير.

لم تعلم مارتا بأن الشركة تعاني من بعض المتاعب المالية إلا بعد عدة شهور عندما لاحظت أن عدد الموظفين راح يتقلص. ثم بدأت الأمور تسوء معها بعد أن قرر تسفاي أن يغادر إلى جبهة القتال.

“لا يمكن أن أظل هنا. وهناك يتحدد مصير وطني. إنهم يتقدمون نحو العاصمة. العار لي لو مكثت هنا دون أن أشارك”.

كانت هذه آخر كلماته قبل الرحيل. بل كانت آخر كلمات سمعتها منه، فقد علمت بمصرعه بعد سفره بثلاثة أشهر.

وقتها أظلمت الدنيا في عينيها ولم تجد ما تتعلق به سوى دفن أحزانها في العمل. فصارت تبدأ يومها من الصباح الباكر تنظف المكتب وتجهز الشاي ثم ترد على التليفون لحين حضور السكرتيرة. وفي المساء تذهب للدراسة بإحدى مدارس الإرساليات، ثم تعود في نهاية المساء تجرجر رجليها جرًا إلى حيث تسكن.

في آخر الليل كانت مارتا تأوى إلى الفراش كأنها جثة هامدة لا يتحرك منها سوى عينين تحملقان في الظلام. تتخيل تسفاي ولا تبحث عن أحد يواسيها سواه. ماتت الأنوثة فيها وماتت الرجولة في نظرها بموت تسفاي. لم تكن تفكر قط في رجل تدفن أحزانها بين ذراعيه.

كان أكثر ما يقلقها تزايد الصداع الذي تحس به منذ عدة أيام. كأن شيئًا ما بداخل رأسها يتصدع. ذلك الصداع الحاد الذي أصيبت به منذ سماعها خبر وفاة تسفاي العزيز.

المصائب لا تأتي فرادى. فقد أصبحت الشركة التي تعمل فيها مهددة بالإفلاس وسرعان ما اقتصر عدد الموظفين على المدير والسكرتيرة وموظف ثم مارتا وتم بيع جزء كبير من أثاث الشركة. ولكن شبح الإفلاس لم يتوقف بل استفحل.

“أي مارتا العزيزة الطيبة، نحن محاصرون بالديون كما ترين كنت أتمنى لو نستطيع الصمود لفترة ولكن!”.
قال المدير هذه العبارة وهو يحاول جاهدًا أن يخفي ألمه ولكنها لم تمهله. ولم يستغرق الأمر كثيرًا. خرجت بعدها لتودع الموظف الوحيد بالشركة والسكرتيرة. وقد أصرت أن يتقبلوا منها صورة فوتوغرافية لمنظر طبيعي من بلادها.

ضاع تسفاي وضاعت الوظيفة!.

عادت مبكرة في هذا اليوم وراحت تساعد المرأة التي تسكن معها. وأخيرًا لم تجد بدًا من الاستلقاء على السرير وهي في شبه إغماء.

في الصباح وعندما حاولت العجوز أن توقظها لاحظت أنها ترقد بطريقة غريبة. كانت تتوسد ذراعها وتضطجع على جانبها الأيمن وهي تحملق بعيدًا كأنما تتخطى بعينيها الحدود. وتنفذ بهما إلى ما وراء الأفق.
“مارتا استيقظي لقد أسقط الثوار العاصمة!”.

لكنها لم تتحرك. كل شيء فيها وحولها كان ساكنًا إلا صورة لشاب وسيم سقطت من يدها واستقرت على الأرض. كانت الصورة لتسفاي بملابس الميدان.

في المستشفى علم المرافقون للجثمات أن الفقيدة كانت تعاني من انفجار في الدماغ.

في مساء نفس اليوم أذاع المذياع أن هناك أمة قد ولدت من جديد ترفع شعار البناء بعد زمن الأنقاض.

نُشر هذا الموضوع في العدد 30 من مجلة «الإنساني» الصادر في العام 2005

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا