تتجاوز المدن التاريخية والآثار والاحتفالات الثقافية أجيال البشر، جيلًا بعد جيل، فتساعد على بناء شعور بالتماسك الاجتماعي وتعزيز الحس الفردي والجماعي بالهوية والإنسانية. فمن «تَدمر» إلى «تمبكتو»، رأينا أن تدمير المواقع الثقافية والدينية في أثناء النزاعات المسلحة له آثار نفسية عميقة على الأفراد والشعوب، إذ تنفصم الصلاتُ بين الناس وذاكراتهم القومية، ويصابون بصدمات نفسية ويتعرضون لاضطهاد. لذلك، لا بديل عن الاعتراف بحماية الممتلكات الثقافية ومعالجتها بصورة أفضل باعتبارها قضية إنسانية قائمة بحد ذاتها.
في الشهر الماضي، ألقت التوترات السياسية المتزايدة بين الولايات المتحدة وإيران الضوءَ على قضية التدمير المتعمد للتراث الثقافي وماذا ستعني هذه الخسارة للشعب الإيراني. ومما يبعث على الارتياح الشديد بالنسبة لكثيرين أن الحماية القانونية للممتلكات الثقافية بموجب القانون الدولي الإنساني قد قوبلت باحترام في النهاية. ومع ذلك، فقد أبرز هذا التوتر بين البلدين، مرة أخرى، الخطرَ الذي يهدد التراث الثقافي في أوقات النزاع المسلح، وأبعاد الصلات بين الناس وثقافاتهم.
يتعين على الجهات الإنسانية الفاعلة العاملة في مناطق النزاع أن تتبع نهجًا مزدوجًا لحماية الممتلكات الثقافية: الأول، عن طريق تعزيز الامتثال لأحكام القانون الدولي الإنساني المتعلقة بحماية واحترام الممتلكات الثقافية لجميع الأطراف الفاعلة في النزاع.؛ والثاني، عن طريق الاعتراف بحماية الممتلكات الثقافية باعتبارها قضية إنسانية يجب إدماجها في إعداد برامج الحماية.
الهجمات المتعمدة على المواقع الثقافية بوصفها جريمة حرب
لا شيء جديدًا بشأن شن هجمات متعمدة تستهدف التراث الثقافي في أثناء النزاع المسلح، فلطالما عمدت الأطراف المتحاربة إلى استهداف الممتلكات الثقافية على وجه التحديد لأن هذه المواقع – المهمة للإنسانية كلها على المستوى العالمي وللشعوب المحلية على وجه الخصوص – لها قيمة رمزية ضخمة تتجاوز بكثير الحاضر السياسي. وتتجاوز مثل هذه الهجمات الفرد وتستهدف بدلًا من ذلك تاريخًا كاملًا لشعب ما، لإحداث أعمق أثر ممكن في الإضرار بالمستهدفين، بتدمير ذاكرتهم.
وبسبب فداحة هذا الدمار ، يمكن أن تشكل الهجمات المتعمدة ضد المواقع الثقافية المشمولة بالحماية جريمةَ حرب. إن حماية الممتلكات الثقافية مصونةٌ باتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح وبروتوكوليها لعامي 1954 و 1999، التي تعتبر أجزاء كبيرة منها قانونًا عرفيًّيًا. وتُعد حماية المواقع الثقافية والدينية في أثناء النزاع المسلح أيضًا التزامًا على الأطراف المتحاربة بموجب البروتوكولين الإضافيين الأول والثاني لاتفاقية جنيف (1977)، وقد يشكل تدميرها المتعمد في النزاعات المسلحة الدولية انتهاكًا خطيرًا (تصل إلى حد تصنيفها جريمة حرب).
قد يتطابق التدمير المتعمد للممتلكات الثقافية أيضًا مع تعريف جريمة الحرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، الذي توصل، في عام 2016، إلى أن أحمد المهدي مذنبٌ في جريمة الحرب المتمثلة في توجيه هجمات متعمدة ضد الآثار والمعالم التاريخية والمباني المخصصة للعبادة في يونيو ويوليو 2012 في تمبكتو، مالي.
في هذه المحاكمة الأولى للمحكمة الجنائية الدولية بشأن تدمير التراث، أقر السيد المهدي بأنه مذنب وحُكم عليه بالسجن 9 سنوات. كما حُكم على السيد المهدي بتسديد 2.7 مليون يورو تعويضات لمجتمع تمبكتو، إقرارًا بالضرر الكبير الذي وقع على السكان المحليين نتيجة تدمير مبانيهم الدينية والتاريخية.
وعلى الرغم من كل صنوف الحماية القانونية والمحاكمة الناجحة في المحكمة الجنائية الدولية، ما تزال المواقع الثقافية تتعرض لهجمات ونهب وتدمير. وتشمل الأمثلة البارزة مؤخرًا تدمير أجزاء من تَدمر وحلب في سوريا.
الدمار المزدوج لـ «التطهير الثقافي»
في أشد الحالات تطرفًا، يُعد الهجوم على ثقافة معينة هجومًا يستهدف مجموعة معينة من الأشخاص. وقد وصفت اليونسكو هذا «التطهير الثقافي» بأنه إاستراتيجية متعمدة تسعى إلى تدمير التنوع الثقافي من خلال الاستهداف المتعمد للأفراد الذين تم تحديدهم على أساس خلفياتهم الثقافية أو الاإثنية أو الدينية، إلى جانب الهجمات المتعمدة على أماكن العبادة وحفظ الذاكرة والتعلم.
استخدمت بعض الأطراف المتحاربة في النزاعات أسلوبَ التطهير الثقافي لتدمير الأدلة على وجود مجموعة معينة في بقعة، أو حتى ذكرى الأشخاص الذين عاشوا في مكان ما. وقد صاحَب هذا الأسلوب عمليات الطرد الجماعي واستُخدم في التطهير الاإثني. وأمكن رصد ذلك التكتيك في أثناء الحرب البوسنية في 1992-1995. فقد عُثر على العديد من الضحايا المسلمين بعد الحرب في مقابر جماعية، جثامينهم تحت أنقاض مساجدهم التاريخية – وهي جريمة بشعة ترمز إلى أن الشعب وثقافته دُمِّرا وأُزيلا من المكان.
أحد الأمثلة على ذلك هو مسجد ألادجا Aladza Dzamija، المعروف باسم «المسجد المتعدد الألوان» الذي بُني عام 1551، وهو واحد من أهم المباني العثمانية في يوغوسلافيا السابقة. هُدم المسجد في عام 1992 وألقي القرويون المسلمون في مقابر جماعية تحت الأنقاض في نهر سيهوتينا Cehotina. وقد تبين أن خسارة التراث، وتحديدًا ما إذا كان قد أعيد بناؤه أم لا، يُعد عاملًا مهمًّا في قرار المجتمعات المضطهدة باختيار العودة إلى ديارها بعد طردها أو لا.
في عام 2014 استهدف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الشعب الإزدي استهدافًا منهجيًّيًا، وهو أحد أقدم الأقليات وأكثرها تعرضًا للاضطهاد في العراق، بعد أن استولى المسلحون على منطقة سنجار. وثَّقت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عمليات التطهير الثقافي والقتل الجماعي والاغتصاب كسلاح حرب والعبودية الجنسية الوحشية، وخلصت إلى أن الجماعات المسلحة ربما ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية.
في أثناء تلك الفترة، قام المسلحون بتسوية 68 موقعًا مقدسًا للإزديين. تقول «ناتيا نافروزوف» Natia Navrouzov مديرة التوثيق بجمعية يازدا الخيرية: «المعابد والمواقع الثقافية مهمة للغاية للإيزديين لأنهم لا يملكون بلدًا، وليس لديهم مكان يمكن أن يقولوا عنه إنه ملكهم … وبالنسبة لهم، لم يكن من المتصور العودة والعيش مرة أخرى في تلك المنطقة من دون وجود معابدهم فيها». ويعيش الإزديون منذ ذلك الحين وهم يشعرون بانفصالهم عن تراثهم، مصدومون ومضطهدون.
في مثل هذه الحالات، يكون من المستحيل فصل العنف الموجَّه ضد مجموعة من الناس عن الهجمات الموجهة ضد ثقافتهم، وغالبًا ما تكون أسباب هذه الهجمات متشابهة: إرهابهم أو إزاحتهم أو محو أثرهم تمامًا. إن حماية الممتلكات الثقافية ليست ترفًا. ووفقًا للظروف، يمكن أن تكون هذه الحماية حاجة أساسية ذات تبعات خطيرة على المديين القريب والبعيد على الأشخاص المتضررين إذا لم تُلبَّى هذه الحاجة.
حماية الممتلكات الثقافية عمليًّا في العمل الإنساني
الثقافة جزءٌ منا جميعًا. هي جزء من هويتنا. وهي مهمة بالنسبة لشعورنا بالانتماء. وغالبًا ما تميزنا الثقافة بوصفنا مختلفِين. ويمكننا، بناء على ذلك، ربط ثقافتنا وتاريخنا بحمايتنا لأنفسنا، وهذا التميز يتسبب في بعض الأحيان إلى تعرضنا لأضرار وأذى. وعن طريق الاعتراف بأن الثقافة هي امتداد للبشر وكرامتهم وهوياتهم وتاريخهم، فإننا نفهم حماية الثقافة باعتبارها شاغلًااً إنسانيًّيًا، تمامًا مثل ما ننظر إلى التعليم والمأوى والحماية.
وبرامج الحماية الإنسانية، في السياقات التي يحدث فيها قمع ثقافي وتدمير وتطهير اإثني في نفس وقت شن الهجمات على المجتمعات، يجب أن تتضمن الاحتياجات الثقافية للأشخاص المتضررين. إن حماية الممتلكات الثقافية مدرَجة ضمنًا بالفعل في مبادئ الحماية من خلال الإشارة إلى التدخلات المناسبة ثقافيًّيًا. وقد آن أآوان إدراج هذه المبادئ صراحة كقضية قائمة بحد ذاتها.
لكل الاحتياجات الإنسانية – مثل الأمن الغذائي ، والصحة ، والمأوى – تأثير ضمن السياق الثقافي للأشخاص المتضررين، وقد نضطر إلى الاستجابة لأثر قضايا برنامج حماية الممتلكات الثقافية. على سبيل المثال، قد تكون سبل كسب العيش في مكان ما مرتبطة بالسياحة الثقافية. وقد يحتاج العاملون في مجال الصحة إلى علاج المرضى الذين يعانون من الآثار العقلية المترتبة على الدمار الثقافي. وقد يلزم إنشاء مأوى بالقرب من الأماكن ذات الأهمية الثقافية حتى يتمكن الناس من الوصول إلى تلك الأماكن.
وقد تُنفَّذ فعلًا هذه الأنواع من الاعتبارات الثقافية إلى حد معين عن طريق تحديد أبعاد السياق الثقافي وضمان استجابة مناسبة ثقافيًّا. ومع ذلك، فعن طريق النظر إلى ما وراء السياق الثقافي والنظر بجدية إلى برامج الحماية الثقافية بوصفها قضية قائمة بحد ذاتها، لا سيما في الحالات التي يكون فيها التراث الثقافي قد تضرر أو دُمِّر، فقد يكون للاحتياجات الإنسانية الأساسية نتائج إنسانية أكثر نجاحًا وقوة.
ومع المضي قدمًا، ستدعم «اللجنة الدولية للدرع الأزرق» دوائر العمل الإنساني حتى تكفل إدراج برامج حماية الممتلكات الثقافية بصورة ملائمة في المشروعات الميدانية ومبادرات صنع السياسات ودبلوماسية العمل الإنساني. ومن خلال القيام بذلك، نهدف إلى العمل على نحو أوثق من أجل تلبية احتياجات الأشخاص المتضررين الذين تخدمهم المنظمات الإنسانية.
نشرنا في السنوات الأخيرة عدة مساهمات حول حماية الممتلكات الثقافية، انظر مثلا:
محمد سامح عمرو، «الحماية المعززة» للممتلكات الثقافية في فترات النزاع المسلح
عاطف عثمان، إبادة ذاكرة الإنسان: لم حاولت أيديولوجيات القرن العشرين تدمير الكتب والمكتبات؟
نُشر هذا المقال بالإنجليزية في مدونة «القانون الإنساني والسياسات»، وقد نقل عاطف عثمان النص إلى اللغة العربية. للاطلاع على أصل المقال، انقر هنا.
تعليقات