نجاح في بيئة معقدة: تدريس القانون الدولي الإنساني في غزة

قانون الحرب / مقالات

نجاح في بيئة معقدة: تدريس القانون الدولي الإنساني في غزة

من فعاليات تعليم القانون الدولي الإنساني لطلاب الجامعة. الصورة من جامعة غزة في صيف 2018. تصوير: أحمد جندية- جامعة غزة

حققت الأطراف غير الرسمية المعنية بنشر وتدريس القانون الدولي الإنساني في قطاع غزة؛ نقلة نوعية خلال الأعوام القليلة الماضية بهذا المجال؛ وذلك على النقيض مع الظروف السائدة، فقد شهد قطاع غزة ثلاث عمليات عسكرية واسعة النطاق راح ضحيتها المئات، ودمرت أعيانًا مدنية وممتلكات ثقافية يتعذر حصرها، وذلك إلى جانب حصار امتد على مدار السنوات الـ12 الماضية وأثر على جميع مناحي حياة المدنيين في قطاع غزة.

هذه الظروف كانت كفيلة بعرقلة الجهود السابقة نحو نشر وتدريس القانون الدولي الإنساني، وبزعزعة ثقة وإيمان المجتمع الفلسطيني بهذا القانون، ولكن ما حدث هو العكس تمامًا.

إن ما حدث ليس محض صدفة، وليس كذلك مجرد رد فعل إيجابي -كما ينظر إليه البعض – بل هو نتيجة لجهود معتبرة لعبت فيها الجامعات والمدارس والمعاهد على اختلاف أنواعها، والمنظمات الأهلية الفلسطينية، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، أدوارًا ومساهمات إيجابية، فبدلًا من أن يفقد الطالب الجامعي ثقته بالقانون الدولي الإنساني، ويتحول إلى شخص متطرف برأي سلبي، تجاه فعالية هذا القانون وآلياته ووسائل تنفيذه، برز طالب لديه شغف باستطلاع ودراسة وتفحص هذا القانون.

كلمة السر

يبقى السؤال المحير، ما هو السر الذي يقف خلف تحقيق هذه النقلة النوعية في تدريس القانون الدولي الإنساني في قطاع غزة؟ وكيف جرى ذلك على النقيض مع الظروف الحالية؟ 

أعتقد أن السر يكمن في وصفة تضافرت فيها عدة عوامل، حققت هذه النقلة النوعية ذات الطابع المزدوج، فمن ناحية تطور تدريس القانون الدولي الإنساني إيجابيًّا؛ وانتقل تدريسه من مجرد موضوع في مساق جامعي إلى مجالات تركيز، وصولًا إلى برامج كاملة على مستوى البكالوريوس، ومن ناحية أخرى أخذ عدد الطالبات والطلاب الراغبين في دراسة القانون الدولي الإنساني يتزايد بشكل ملحوظ، فعلى سبيل المثال قبل أعوام قليلة بالكاد، كان يصل عدد الطلبة المسجلين بمجال تركيز القانون الدولي الإنساني بجامعة فلسطين في غزة إلى 15 طالبًا وطالبة، ولكن مع مطلع العام الدراسي الحالي 2018/2019 بلغ عدد هؤلاء الذين اختاروا مجال التركيز بشكل طوعي 49 طالبًا وطالبة.

إن الدافعية الذاتية للطلبة الجامعيين في قطاع غزة شكلت رأس الحربة؛ فأضحت في نظرهم دراسة القانون الدولي الإنساني مسألة تتعدى الامتحانات لتصل لكونها أسلوب حياة يتمحور برغبتهم في الحياة الآمنة والمستقرة.

في غمار ذلك، حدثني أحد الطلبة أثناء حفل تخرجه العام الماضي؛ عن تجربته مع دراسة القانون الدولي الإنساني، قائلًا: «إنني بعد هذه التجربة الرائعة أدركت معاني أن هنالك قوانين خلقت على مر العصور لحماية الإنسان والإنسانية من شرور الحروب، واليوم أعرف كيف يمكن لي أن أساهم في دعم الضحايا من أبناء شعبي وصولًا لحقهم في الإنصاف القانوني الدولي»، فيما ذكرت لي طالبة تدرس القانون الدولي الإنساني «كم هي مفزعة أصوات الصواريخ والقذائف في قطاع غزة، التي تلازمني ككوابيس مؤلمة، فقد كان بالإمكان تجاوزها لو التزمت الأطراف بتطبيق القانون الدولي الإنساني، وهذا ما سوف أسعى إليه من دراستي لهذا القانون أن أجنب غيري ويلات كوابيس الحروب».

إن الدافعية الذاتية والرغبة الشخصية، نجحت بفعل البيئة الخصبة التي وفرتها الجامعات الفلسطينية في غزة عبر سعيها، في تطوير المناهج الأكاديمية وفتح آفاق جديدة تتجاوز الدراسة التقليدية، وتذهب نحو دراسة بطرق مبتكرة تلامس القضايا الراهنة.

وقد ساهم بالأمر، توفر كادر أكاديمي من ذوي الخبرة العملية، الذين اعتمدوا طرق تدريس جذابة تجاوزت النمطية في التدريس لتصل لطريقة تشاركية، أعطت ومنحت الطالب دورًا واسعًا في العملية التدريسية، فانتقل من مجرد متلقن إلى طالب يحلل ويناقش ويتدرب ويكسب المهارات والخبرات، ويمنح الفرص لإبداء رأيه بكل شجاعة.

لقد نظر العديد من الطلبة لمشاركة زميلاتهم وزملائهم في برامج المسابقات الصورية والدورات التدريبية والمسابقات البحثية؛ التي تنظمها الجامعات بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر وغيرها من المنظمات الأهلية والدولية غير الحكومية، نظرة تنافسية. فأصبح لديهم شغف ورغبة في المشاركة والسفر والفوز واكتساب المعرفة وحتى اكتساب الشهرة المهنية والعملية. لذا سعى الطلبة جاهدين للإبحار في دراسة فرعي القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان؛ فانخرطوا بدراستهما على المستوى الجامعي الأول، وكذلك على المستوى الجامعي الثاني، فأغلب دارسي الماجستير في القانون العام، خصصوا رسائلهم البحثية عن موضوعات القانون الدولي الإنساني.

كما لعبت النتائج التي حصدها زملاؤهم السابقون في هذا المجال دورًا معتبرًا، فأغلبهم ممن تخرجوا مثلًا من مجال تركيز القانون الدولي الإنساني في جامعة فلسطين، وجدوا فرص عمل لدى المنظمات الدولية وغير الدولية العاملة في قطاع غزة، وبعضهم أصبح يشار إليه بالبنان في مجال التدريب وبناء القدرات، وبالتالي أصبحوا قصة نجاح في ظروف فلسطينية تصل فيها البطالة بين رجالات القانون إلى مستويات مرتفعة جدًّا.

لعب اهتمام الإعلام الفلسطيني والعربي الرسمي وغير الرسمي المكتوب منه والمرئي والمسموع، باستضافة نشطاء حركة حقوق الإنسان، والمحاميات والمحامين الذين يدركون جوهر القانون الدولي الإنساني، دورًا في تعزيز الرغبة والدافعية لدى الطلبة الفلسطينيين في قطاع غزة، فالظهور الإعلامي وعلى الرغم من أنه محفوف بالمخاطر إلا أنه يشبع الرغبة الشخصية في الحصول على قسط من الشهرة.

على عجالة، هذه العوامل التي شكلت كلمة السر خلف هذا التطور الإيجابي في حالة تدريس القانون الدولي الإنساني في قطاع غزة، ما يفرض على أقل تقدير من أهل الاختصاص في الجامعات الفلسطينية وكذلك الشركاء المحليين والدوليين والسلطات المحلية؛ أن يفكروا جديًّا بالطرق الكفيلة لتطوير هذه النقلة النوعية واستثمارها بما يضمن فتح آفاق جديدة أمام هؤلاء الدارسين من الطلبة في القانون الدولي الإنساني.

نقلة نوعية

الأدوار غير الرسمية التي ساهمت في تحقيق هذه النقلة النوعية متشعبة جدًّا، أتوقف هنا عند اثنتين منها؛ الأولى تتمثل بمساهمة كليات القانون التي أولت اهتمامًا بمجال تدريس القانون الدولي الإنساني، أما الثانية فمساهمة اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

تعطي المساقات المختلفة الطالب نظرة معمقة على القانون الدولي الإنساني، خاصة في ضوء ما يرافقها من أنشطة تنفذ بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي تتعاون مع كليات القانون في تنظيم أكثر من حدث علمي وعملي في مجال القانون الدولي الإنساني، عززت المعارف والعلوم والمهارات التي يتلقاها الطالبات والطلاب في الجامعة.

مع هذا النجاح وهذه النقلة النوعية، إلا أن التفكير نحو المزيد من التطور أمر واجب ولا مفر منه لضمان أن تعيش هذه الزهور في حديقة القانون الدولي الإنساني، فلا بد فعلًا من التفكير الجدي بآفاق المستقبل، وقبل ذلك التفكير في تجاوز أو على أقل تقدير احتواء المعيقات الحالية بالعمل على تحديث المراجع العلمية والأكاديمية المستخدمة في التدريس بما يستجيب للتطورات المتلاحقة في القانون الدولي الإنساني، والسعي لتوفير أدلة تدريبية للمدرس والطالب على حد سواء لبيان وتوضيح أساليب وأدوات وطرق التدريس الحديثة، بالجانبين النظري والعملي، فضلًا عن أهمية إيجاد نظام تعليمي متكامل الجوانب، ينقل للطالب المعارف النظرية والمهارات العملية خاصة الكامنة في أفضل الممارسات العملية في القانون الدولي الإنساني، بما يتيح الفرص أمام الطالب للانخراط في العمل القانوني الإنساني.

كما أنه من الواجب السعي لتعزيز توظيف التكنولوجيا الحديثة في تعليم القانون الدولي الإنساني، بما يضمن جعلها أداة عملية وعلمية تساهم في زيادة معارف الطلبة في هذا القانون، وهنا أقترح تطوير برنامج تعليمي على الهواتف الذكية، أو تطوير موقع إلكتروني متخصص لتعليم القانون الدولي الإنساني، من شأنه توفير مساحة لتجميع ممنهج للمراجع الإلكترونية وغيرها من الممارسات العملية.

أخيرًا، فإن الأمل ما زال معقودًا على توسيع دائرة تدريس القانون الدولي الإنساني ليصبح لدى الجامعات الفلسطينية برامج خاصة على مستوى الماجستير والدكتوراه، ما يتطلب تعزيز دور الجهات الرسمية وخاصة وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، والجهات شبه الرسمية وخاصة اللجنة الوطنية الفلسطينية للقانون الدولي الإنساني. 

اقرأ أيضا: أماني الناعوق، كأس العالم في روسيا وكأس القانون الدولي الإنساني في غزة

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا