نحن أكثر من ذوات تسكن أجسادًا؛ فلذواتنا امتدادات رقمية أيضًا. وفي كل لحظة ننتج مزيدًا من البيانات، ومع أن هذه البيانات أحيانًا ما تكون تحت السيطرة إلا أن فقدان السيطرة عليها يشهد تزايدًا.
هذه البيانات غير المتحكم بها – هذه البيانات الوصفية «ميتاداتا» (Metadata)– غالبًا ما تتولد من تفاعلنا مع الآخرين وتحركاتنا وعواطفنا بل وسكوننا. ومع أن البيانات الوصفية تتجاوز سيطرتنا فهي في متناول أيدي الكثيرين. فنادرًا ما يمر يوم من دون أن تطالعنا الأخبار بنبأ أو حدث عالمي يتعلق بالبيانات: ثغرة في شركة تتعامل مع البيانات الوصفية (مثل: إكويفاكس Equifax)، أو أخطاء في تبادل بيانات وصفية ضخمة (فيسبوك وشركات الهواتف المحمولة) أو بيانات محدودة للغاية (غرامة بنك كومنولث)، أو التأثير في الانتخابات (تحويل البيانات الوصفية إلى استخبارات سياسية) أو شن الحرب (هجمات بطائرات مسيّرة).
لكن مهلًا! دعنا نعود للوراء خطوة – قبل أن نحاول حل مشكلات العالم، حبذا لو حاولنا مواجهة المشكلة التي تطل برأسها أمام قِطاع العمل الإنساني وحماية المستفيدين من الخدمات. تتسم حماية المستفيد الرقمي – أي تلك البيانات التي تخرج عن نطاق سيطرته – بقدر كبير من المراوغة بالنسبة لقطاع العمل الإنساني مقارَنةً بحماية الشخص نفسه جسديًّا. ففي حين أن المنظمات والمؤسسات الإنسانية صارت خبيرة في الحماية الجسدية، إلا أن ثمة دروسًا كثيرة تتعلمها بشأن الحماية الرقمية للأشخاص. وما من مؤسسة يمكننا أن نشير إليها باعتبارها تضطلع بهذا العمل على نحو جيد. ويتعين أن تضطلع قطاعات معدودة بهذا العمل على وجه السرعة. ورغم كل هذا القدر من الحماس في قطاع الرقمنة، فإننا لم نر حتى الآن حماسًا مماثلًا بشأن الحماية.
الشخص الرقمي
معك حق – فعبارة «شخص رقمي» تخلِّف في الذهن انطباعًا مزدوجًا بأنها عتيقة، وفي الوقت نفسه موحية بخيال علمي. في صيغتها المعتادة، أجب عن هذا السؤال: عندما تقدم سيرتك الذاتية إلى إحدى جهات العمل، كيف يمكن التأكد فعليًّا من صحة أيٍّ من ادعاءاتك الواردة فيها؟ ربما الحال أننا نثق في أنك لا تكذب في ما دوَّنت في سيرتك، أو لعلنا سنسعى وراء معلومات إضافية للتحقق من صدق المعلومات التي أوردتها، فنتواصل مع الجامعة لنتأكد من أنك تخرجت فيها بالفعل، ونتواصل مع جهات العمل المذكورة في سيرتك لنتيقن من أنك كنت تعمل لديها وما إذا كنتَ شخصًا مثيرًا للمشكلات. فإذا كنت تتعامل مع رب عمل حريص، فلعله سيجري مكالمات هاتفية فعلًا ليتأكد من صحة المعلومات التي ذكرتَها. خطوات التحقق في العالم الواقعي تستغرق وقتًا وجهدًا في الاتصال بآخرين وتسجيل ما يقولون.
الإصدار 0.1: البيانات والبيانات الوصفية تتحدث مع الفرد
لكن على الأرجح، وبصورة متزايدة في المستقبل، سيتحقق رب العمل من المعلومات عبر السجلات الإلكترونية التي تنشرها الجامعات (ربما عبر سلسلة الكتل « » Blockchain؟). ويرجع إلى الحسابات الشخصية عبر وسائل الإعلام الاجتماعي (كي «يتحقق» من أشياء أخرى أكثر مما ذكرتُ آنفًا – أنا على يقين من ذلك). هذا النوع من المعلومات يُنشر ويكون في متناول اليد ولا يتطلب جهدًا كبيرًا مماثلًا. والمثير لأقصى قدر من الاهتمام أنك – أنت المتقدم للوظيفة – ربما لا تعرف أن رب العمل يفعل كل هذا، فهذا يتجاوز قدرتك على السيطرة. أصدقاؤك وجهات اتصالك في وسائل التواصل الاجتماعي، كيف تتصرف عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتدير سجلاتك المالية والائتمانية – جميع هذه البيانات من المحتمل أن تكون في متناول الآخرين، بعيدًا عن سيطرتك، بل ومن دون معرفتك أصلًا.
وعلى الأرجح يعالج أرباب العمل هذه المعلومات، دون أن تدري أنت بذلك أو بما يفعلون بهذه المعلومات. والآن فكِّر في الشخص في البيئات التي تعمل فيها، وكيفية التحقق من المعلومات التي تباشرها المنظمات العاملة في مجالك. قد يجري جزء كبير من هذا التحقق حاليًّا «ماديًا» و«تناظريًّا»، أيْ بالتعامل مع الناس بوصفهم بشرًا وبسؤالهم والاستماع إلى قصصهم. أما في المستقبل – إن لم يكن هذا واقعًا بالفعل – سنستخدم أيضًا التحقق الرقمي (ربما كبديل للطريقة الحالية). فما الداعي لأن نسأل شخصًا عن قصته وتجاربه، في حين أننا يمكننا قراءة المعلومات في قواعد البيانات المخزنة؟ وهذا يحدث بالفعل إلى حد ما. انظر إلى كيفية تحققنا من هويات المستفيدين من المساعدات والخدمات. نحن لا ننظر إليهم، وإنما إلى بطاقاتهم، وننظر، بتواتر متزايد، إلى نظم القياسات الحيوية الخاصة بهم.
كل ما قلته آنفًا يحدث الآن، سواء للمرشح لنيل وظيفة أو لمن يطلب الحماية. دعنا نطلق على ما سبق «الشخص الرقمي: الإصدار 0.1». لقد بدأنا بالفعل في التعامل مع الأشخاص كما لو كانوا كائنات رقمية، ولم نؤد أي شيء فعليًا لتطبيق أية حماية رقمية ذات معنى. فالبيانات لا تُحفظ حفظًا آمنًا، ولا يُتحقق منها فعليًّا، وللبيانات صوت أعلى من الفرد. وفي حين أن هذا قد يبدو بعيد الاحتمال بالنسبة للبعض، فإن الفاعلين الرئيسيين في قطاع العمل الإنساني يتحدثون بالفعل عن نهج للحماية «تحرّكه البيانات».
الإصدار 1.0: البيانات والبيانات الوصفية تتحدث بدلًا من الفرد
في المستقبل، لن يُعتمد على الشخص الرقمي من أجل «التحقق» من روايات الفرد – إذ سيُعتمد عليهم لحكي الروايات ذاتها. والشخص الرقمي 1.0 (ويُرجى التحلي بالصبر معي مع نظام الترقيم المضحك الذي أستخدمه الآن، لأنك تستطيع أن ترى بالفعل إلى أين تؤول الأمور) هو الشخص الذي لا يملك السيطرة على الكشف عن البيانات.بدلًا من رؤية أنفسنا متجسدين في النسخة 0 أو النسخة 1 في محاولة منا للتعامل مع الأشياء المادية، تخيل المستفيدين كما وصفتهم آنفًا وهم لا يسمح لهم بالتحدث إلا عندما يُتحدَّث نيابة عنهم. هذا هو الشخص الرقمي 1.0 الذي يملك «بيانات وصفية» يتحدث نيابة عن الفرد. بمعنى أنه بدلًا من طرح أسئلة، لماذا لا نبحث مباشرة في البيانات الوصفية، معلومات حول التعاملات التي أدوها؟ فما الداعي لأن نسأل عن العلاقات الأسرية في حين أن بإمكاننا التحقق من أحدث المكالمات المتكررة التي أجروها؟ وما الداعي لأن نسأل عن وضعهم المالي واحتياجاتهم في حين أن بإمكاننا أن نطلب من البنوك، الشريكة لنا، الحصولَ على بيان بوضعهم المالي ونفقاتهم في إطار «برامج التحويلات النقدية»؟ وما الداعي لأن تسأل عن الطريق الذي سلكوه ليصلوا إليك في حين أنك بإمكانك أن تطلب من شركة الهاتف المحلية جميع البيانات المتعلقة بحركة الهاتف الذي يحمله المستفيدون؟
روعة هذه البيانات تكمن في أنها تكاد لا تنطق كذبًا: فالفرد ليس بوسعه أن يتحكم في إنشاء البيانات الوصفية أو منع إنشائها. فاستخدام الشخص الهاتف ومنع الهاتف من تسجيل موقعه في الوقت نفسه أمرٌ يتجاوز قدرته. ليس بيد الأفراد أن يمنعوا البنوك من استخراج تاريخ التعاملات البنكية بالتفصيل. وباستثناء ما إذا عزف الناس عن التواصل من الأساس، فمن المستحيل منع الهاتف والشركة التي تشغله من استخراج المكالمات التي أجريت ومع من أجريتها ومدتها ونمط تكرارها.
وفي مثال أساسي محزِن عن إساءة استخدام البيانات التي قد يمارسها البعض، كشفت الواشنطن بوست* في 30 أيار/ مايو عن كيف أن مسار أي هاتف على سطح كوكبنا يمكن أن يُتتبَّع عن طريق ثغرات قديمة في البنية الأساسية للهواتف المحمولة التي لم يعبأ أحد بإصلاحها. والآن، إذا ما احتفظنا بهذه البنية التحتية – التي نعتمد عليها في كل ثانية من حياتنا – بهذا المستوى من انعدام الأمن المعلوماتي فهل يمكنك أن تتخيل كيف نتعامل مع البيانات؟ لكن كل ما ذكرنا آنفًا واقع بالفعل. فعلى سبيل المثال لطالما استخدم القطاع المالي بيانات المعاملات المالية لإنشاء ملفات ائتمانية للأشخاص. وهذا القطاع ينظر الآن في البيانات الوصفية أيضًا. ورأينا بالفعل كيف بدأت بعض المنتجات المالية تقرر ما إذا كنتَ تستحق أموالًا ائتمانية أو لا، ليس على أساس ما تقول بل على أساس عدد المرات التي تهاتف فيها والدتك.
الإصدار 2.0: الشخص الذي ينشئه القطاع الإنساني
الشخص الرقمي 2.0 هو الشخص الذي يتحمس له القطاع الإنساني. فهذا هو العالم الذي تجد فيه بيانات هاتفك والمعلومات عن معاملاتك المالية ليس لها معنى بما يكفي لأنها لا تسجل اهتماماتك ونواياك بوضوح كافٍ. وبالإضافة إلى ذلك، تلك البيانات عادة ما تنظمها قوانين حماية البيانات، أو على الأقل هذه هي الحال بالنسبة للأوروبيين. لكن نسخة ويب 2.0 (هذا المصطلح المريع) بدأت تستخرج المزيد من البيانات الوصفية، المرتبطة بكم هائل من معلومات وبيانات أخرى تُستقى عبر الانترنت مثل: تصفح الويب والصداقات والعلاقات الأخرى (المعروفة وغير المعروفة) وعادات الشراء. وبدأتْ ترسم صورة مختلفة بالكامل أو صورة محسنة تجعل شركات مواقع التواصل الاجتماعي تساوي مليارات الدولارات. وعلى سبيل المثال، في عام 2017 قدمت شركة «فيس بوك» في أستراليا عرضًا زعمت فيه أنها تمكنت من تحديد المراهقين الذين يشعرون بأنهم «عديمو القيمة».والآن فكِّر في ما يمكن أن تفعله شركة فيس بوك، في خدماتها المتعددة، بهذه البيانات التي ينشئها المستخدمون. واسأل نفسك ما التحليلات التي تخرج بها شركة فيس بوك من وراء أنشطتك مع الآخرين.
لكنها بيانات مسخَّرة لخدمة الخير!
أنت على معرفة بالفعل بالشخص الرقمي 2.0 لأنك سمعت بالفضائل والمزايا. غالبًا ما توضع هذه الفكرة في إطار «بيانات لخدمة الخير»، وهكذا تروجها شركات البيانات، بما فيها شركات مواقع التواصل الاجتماعي، وبهذه الطريقة أيضًا تباع الفكرة للقطاع الإنساني. فكِّر في كل مرة تواصَلَ معك موقع فيس بوك ببيانات يمكن أن تساعدك على إنجاز عملك. وفكِّر في الناس الذين يستخدمون خدمات مواقع الإعلام الاجتماعي للتواصل معك أو بمن تتصل في إطار عملك. وفكِّر إلى أيِّ مدى، قلَّ أو كثُر، يمكنك أن تسيطر على البيانات من الأساس. ثم فكِّر كيف كشف النقاب عن أن فيس بوك يمرر ملايين البيانات لشركات مثل «كمبريدج أناليتيكا» من دون ضمانات. وفكِّر في ما قالته «كمبريدج أناليتيكا» عما تفعله بهذه البيانات وفكِّر أيضًا في ما تفعله عشرات، إذا لم تكن مئات، الشركات الأخرى في هذه اللعبة.
بالطبع ترغب فيس بوك وغيرها من الشركات في بيع فكرة «بيانات لخدمة الخير». فهذا يساعدهم على غسل نموذجهم التجاري. وهو نموذج يجب غسله. واتضح مؤخرًا أن موقع فيس بوك يجمع قدرًا هائلًا من التسجيلات الهاتفية من مستخدمي الموقع من دون تحكم حقيقي في هذه الممارسة (لا سيما في الهواتف الأقدم التي تعمل بنظام أندرويد، الذي يستخدمه أغلب الناس الذين يرغبون في قدر أكبر للحماية). فهل يقع هذا ضمن البيانات التي تعرض فيس بوك «مشاركتها» مع القطاع الإنساني تحت مظلة «خدمة الخير»؟ عقدت شركة فيس بوك، التي تصمُّ آذانها عمدًا، مؤتمرها الدولي الثامن في أيار/ مايو الماضي إذ أعلنت أنها تريد أن تمد ذراعها إلى الهند وبنغلاديش وباكستان حتى تسهِّل على الناس التبرع بالدم. كما أنها ترغب في أن تساعد الناس في مشاركة قصصهم الخاصة عن الأزمات. وأعلنت فيس بوك عن تطبيقها الخاص بالمواعدة.
وتصرح الشركة بأنها تحاول أن تستفيد من أخطائها. فقد قالت رئيسة قسم «الخير الاجتماعي»:
يجتمع الناس عبر فيس بوك ليساعد بعضهم بعضًا في أوقات الحاجة، ونحن نبتكر منتجات تجعل هذا الأمر أسهل. ونحن ننصت دومًا للآخرين ونتعلم من مجتمعنا حتى نتأكد من أننا نبتكر أدوات يمكن للناس استخدامها لفعل الخير في العالم.
وإذا كانت شركة فيس بوك تنصت وتتعلم، فالأفضل أن يتحدث القطاع الإنساني إليها ويعلمها.
يحق لهذا القطاع أن يعبِّر عما تعني الحماية
هذه هي اللحظة المناسبة لسماع صوت القطاع الإنساني وتحديد اتجاه العالم، إذ إن الأمر يتعلق بصون الكرامة الرقمية للناس. نبِّه الناس إلى أن القلق يساورك بشأن المخاطر التي تحيق بالشخص المشمول بالحماية الرقمية، وأنك مهتم بجعل العالميْن الرقمي والمادي مساحة آمنة للناس. وإلَّا، كما يحدث بالفعل داخل القطاع الذي تعمل به، فسوف تواصل رحلتك في مسار الحماية «المستندة إلى البيانات»، التي تنظر باهتمام متناقص للفرد وتستهلك وتولِّد بيانات عن الأفراد دون اعتبار للكرامة أو الإنسانية ودون كفالة قاعدة الإحجام عن إلحاق الضرر.
نُشر هذا المقال بالإنجليزية في مدونة «القانون الإنساني والسياسات»، وهي إصدار تابع لـ«المجلة الدولية للصليب الأحمر»، تحت عنوان «حماية المستفيد الرقمي». وقد نقل عاطف عثمان النص إلى اللغة العربية.
ملحوظة: لا يجوز أن تُحمل المنشورات والنقاشات في مدونة «القانون الإنساني والسياسات» على أنها تعبر عن مواقف اللجنة الدولية للصليب الأحمر بأيِّ حال، ولا يبلغ محتوى المدونة مستوى السياسات الرسمية أو المبدأ ما لم يشر إلى ذلك صراحةً على وجه الخصوص.
تعليقات