نُشر هذا المقال في العدد 31 من مجلة «الإنساني»، الصادر في ربيع 2005.
من المعروف أن النضال النسوي أو حركات حقوق المرأة ليسا مقتصرين فقط على أصل غربي. ففي عدد من المستعمرات الآسيوية والشرق أوسطية، ظهرت “قضية المرأة” في بدايات القرن العشرين جنبًا إلى جنب مع النضال القومي ضد الاستعمار.
في حين كان ينظر للنساء المسلمات، تاريخيًا، بوصفهن ناقلات للتقاليد الثقافية، ومدافعات عن القيم القومية، صرن الآن موضوعًا جديدًا للسجال. وهو السجال المتقد حول أدوار النساء في الإسلام التي ينظر إليها الكثيرون أيضًا باعتبارها مصادر للفوضى الأخلاقية والاجتماعية.
فبتحديهن لكل من الأيديولوجيات التقليدية والأبوية، صار النساء المسلمات يمثلن اليوم صوتًا قويًا للتغيير. ومن المهم ذكر أن بعض عناصر الحركة النسوية الإسلامية والحركة النسوية العلمانية تعملان معًا للضغط من أجل إنجاز الإصلاحات التعليمية والقانونية. فمن خلال الإعلان عن المشكلات المشتركة، على غرار الوقاية من العنف المنزلي والتمييز بين الجنسين، حدث الاتصال بين النساء المسلمات وبين الحركات والمنظمات النسوية عبر العالم، كما نمت بين الاتجاهين الروابط العابرة للقوميات والهويات. مع وضوح بعض الانقسامات بين المنظمات والجماعات النسائية حول مواضيع مثل الحجاب الإسلامي، الذي تحول إلى رمز للدفاع عن الإيمان، وتماسك العائلة، والهوية الإسلامية، على نحو ما يعتقد بعض رجال الدين. رغم ذلك، نجد التقارب بين بعض عناصر الحركة النسوية الإسلامية وبين المسلمات العلمانيات يستند إلى وجود قاعدة عملية للتعاون بين الطرفين.
وتواجه النساء المسلمات ثلاث جبهات في آن معًا. فهن يمثلن أولًا هوية إسلامية في صراع غير مسبوق على الأغلب مع النظم السياسية الحديثة ونخب الدولة. كما أن عليهن، ثانيًا، أن يناضلن ضد الأصوليين الإسلاميين، وأفكارهم، ومؤسساتهم، وأهدافهم التي يرفضنها بشدة. وأخيرًا، وعلى نفس الدرجة من الأهمية، فإنهن يجدن أنفسهن في مواجهة مباشرة مع الثقافة الأبوية التي تتحكم في مجتمعاتهن. لذا احتدمت قضايا حقوق النساء بفعل المصاعب التي تواجهها النساء المسلمات في ظل الثقافة الأبوية الجامدة في أغلب الأحوال.
وقد قاد “التضامن عبر الحدود” إلى دعم حقوق النساء داخل الثقافات وعبرها، ولكنه يقع في علاقة إشكالية مع اتساع وتعقد المواضيع الاجتماعية. ومع أن هذه التضامنية العالمية تجري مقاومتها في مواضع عديدة من العالم الإسلامي، فإن تمكين المرأة ينظر إليه باعتباره الترياق الأكثر فعالية ضد التطرف في العالم الإسلامي.
إعادة بناء التفكير الإسلامي والتحليل المتعلق بالنوع
اكتسب التحليل المتعلق بالنوع “الجنسي” في دراسة الثقافة والسياسات الثقافية أهمية جديدة بفعل النشوء المتزامن والمتناقض غالبًا للطروحات والشبكات المتعددة الجنسية والتحالفات العابرة للقوميات التي تعترض مسار التحديث. وتشهد الانقسامات بسبب الجنس حول أوضاع المرأة في المؤتمرات الدولية على هذا الواقع. وفي نفس الوقت، أوجد الاهتمام بالوقاية من العنف المنزلي وتحسين النظم القانونية والاجتماعية للنساء فضاء استطراديًا جديدًا للحوار بين الحركة النسوية الإسلامية والحركة النسوية العلمانية. وقد أحدث هذا التطور تشددًا مركزيًا ومقاومة لكل من عمليات التغيير في أوضاع وحقوق النساء في العالم الإسلامي. وفي مقدمتها الطرق التي تعيد بها النساء تعريف العقيدة والتفاوض حول التحديث.
وقد احتدم التوتر بين النظم السياسية وبين الهوية الإسلامية، عبر العقدين الماضيين. وفي القلب من هذا التوتر كان السجال حول دور وأوضاع النساء، الذي لم يتوقف فقط عند حدود المطالبة بل مثل أيضًا واحدًا من أكبر المتغيرات الاجتماعية التي تعتمل في العالم الإسلامي. وعلى نحو متزايد، أصبح وضع المرأة في المجتمع والعائلة بؤرة تركيز متقدمة للتغيير المحتمل في المجتمعات الإسلامية.
ومع أن الكثير من التطور الذي حققته النساء كان له تأثير بعيد على الساحات السياسية والتشريعية، ظلت قوانين الأحوال الشخصية تقاوم التغيير. وقد حدث ذلك لأن العائلة تواصل احتلال الموقع المركزي في المجتمعات الإسلامية، سواء ثقافيًا أم تاريخيًا. فكيف يمكن توفيق أوضاع العائلة مع حقوق النساء في العمل ضد إرادة أزواجهن وأيضًا، وعلى نحو خاص، في حالات الإرث، والزواج، والطلاق، ورعاية الطفل، بينما لا يزال حق النساء في حرية تنظيم النسل أمرًا متنازعًا عليه.
وبفعل مركزية الوضع الذكوري، نجد أن السلوكيات الثقافية السائدة تجاه النساء ووضعهن الجنسي تتجسد في مفهوم أن النساء “موضوع للإغواء ومصدر محتمل للفوضى الاجتماعية والأخلاقية”. وفي هذا السياق، غالبًا ما تعمل الأفكار القومية على وضع سياسات تفرق بين الجنسين يتم فيها تحديد وضع النساء في دورهن الرمزي كأمهات، أو كقائمات على إعادة إنتاج المواليد للأمة، وكناقلات لتقاليدها الثقافية. وهو ما يتبدى رمزيًا في فرض الطرق التي يجب أن تحمي بها النساء أجسادهن وسلوكهن.
لذا أصبح دور وأوضاع النساء المسلمات، كما يلاحظ أحد المراقبين، موضوعًا للتسييس لأعلى درجة كما أصبح رمزًا مشحونًا في المعركة الثقافية بين العالم الإسلامي والغرب، وداخل العالم الإسلامي نفسه. وفي الوقت الذي أضعفت فيه الهيمنة السياسية والثقافية للغرب من القدرة على استخدام لغة الحقوق الأساسية الغربية وموضوع حريات النساء بالمجتمعات الإسلامية بدعوى اتهام هذه المفاهيم بعدم الأصالة الثقافية.
وعلى الرغم من المقاومة المحافظة، فإن وجهات النظر فيما يخص دور النساء في المجتمعات الإسلامية شهدت تحولًا عميقًا خلال القرن العشرين. لقد أصبحت النساء المسلمات قوة جديدة واضحة المعالم لها حضور جلي في الحياة العامة، وذلك بفعل الإصلاحات التعليمية وتعاظم معدلات تعليم الفتيات.
ومع ذلك، فهناك الكثير من العقبات التي تكتنف طريق نضال النساء من أجل المساواة. بعض هذه العقبات متصل بالوضع الاقتصادي السياسي، والبعض الآخر متصل بالسياقات الاجتماعية الثقافية والعقيدة، أو كما يشير أحد المراقبين بالقول: “إن معركة النساء المسلمات حول، التمييز الجنسي، والطبقي، والسلطة السياسية والاقتصادية، غالبًا ما تدور حول الإيمان الديني والهوية”.
ومن المعروف أن التفكير النسوي أو حركات حقوق المرأة ليسا مقتصرين فقط على أصل غربي. ففي عدد من المستعمرات الآسيوية والشرق أوسطية، ظهرت “قضية المرأة” في بدايات القرن العشرين جنبًا إلى جنب مع النضال القومي ضد الاستعمار. حتى أن بعض الداعيات لحقوق المرأة سافرن إلى خارج بلادهن للمشاركة في المؤتمرات الدولية. وبطبيعة الحال، فإن الناشطات في مجال القضايا النسوية بالمجتمع الإسلامي، شأنهن في أي مكان آخر، ينتمين لاتجاهات متعددة ويمثلن وجهات نظر متنوعة.
ومع إدراكهن لهويتهن وحقوقهن، وكذلك لمكانتهن في التاريخ، فإن العديد من النساء المسلمات صرن شديدات التوق والحماس للعولمة. ففي سياق عولمي يعرف بتشارك المشكلات، وتقاسم المعايير، جنبًا إلى جنب مع تنوع الهويات والروابط العابرة للقوميات، فإن الدعوة لمركزية دور المرأة يتسع نطاقها كما أصبحت تعمل على تكييف الظروف التي يمكن بها محاصرة التمييز والدفاع عن الإصلاحات الاجتماعية والتشريعية.
ويسعى الدارسون الداعون إلى مواءمة حقوق الإنسان في المجتمعات الإسلامية، إلى تبيان وسوق المسوغات الإسلامية فيما يخص حقوق النساء. وهم يدفعون بأن تبني هذا النهج في الخطاب يتكامل بالتأكيد مع المعركة السياسية من أجل الدعوة لحقوق النساء والدفاع عنها، وليس بديلًا لها. كما يحذر البعض من استخدام الأصول الإسلامية كجزء من استدعاء قوانين الطبيعة، وهي القوانين التي تميز ضد النساء بجعلهن مختلفات عن الرجال. ومثل هذا النموذج للنفاق في مسائل حقوق النساء، كما يلاحظون، لا تنفرد به المجتمعات الإسلامية؛ فهو مثال للاستراتيجية البلاغية الزائفة للتعدي على مبدأ مساواة النساء كما ورد في القانون الدولي ووثائق الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان مثل اتفاقية إلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة.
لكن البعض الآخر يذكر بأن النساء المسلمات عليهن استلهام الخبرة من المرحلة الاستعمارية والسياسات التقليدية الأبوية إذا شئن إتمام مهمتهن بشأن الأصالة الذاتية. “فعليهن أن يرفضن” كما تصر إحدى الداعيات النسويات الإيرانيات “لكي يحددن هويتهن كمناهضات للعالم الخارجي”. ومن الجدير بالذكر هنا أن أدوات الاتصال الحديثة، مثل الإنترنت، عملت على نشر المزيد من الأهمية للاجتهاد، وقادت النساء إلى تحدي القيم، والمؤسسات، والنظم القانونية الذكورية المركزية.
السياسات الثقافية والمتعلقة بالنوع
هناك مظهر مهم، إن لم يكن مسيطرًا، للحياة في العالم الإسلامي، وهو أن السياسات الثقافية التي تصارع حول المعايير والرموز الثقافية غير منفصلة عن السياسات المتعلقة بالنوع التي تناضل بها النساء من أجل السلطة والنفوذ على الأصعدة المحلية والقومية والدولية. وواحد من أشد التحديات، المتعلقة بالأفكار، وضوحًا التي تواجه حقوق النساء في العالم الإسلامي هو موضوع هوية النوع. وخلال معظم القرن العشرين كان موضوع هوية البلدان الإسلامية يصطبغ بالنقاش حول دور وأوضاع النساء المسلمات. ومع اعتبارهن رمزًا للهوية الوطنية، واجهت النساء المسلمات تحديًا رهيبًا في الدعوة للتحديث وتطبيق مفاهيم التحديث بغير فقدان انسجامهن مع ثقافتهن. وقد ناضلن لزمن طويل للحفاظ على هويتهن بطريقة حديثة. وضمن معظم رموز الهوية نجد الرمز المتمثل في الزي والنظام الأخلاقي الاجتماعي الإسلامي البديل.
وبعد ستة عقود من موت أتاتورك، وجدت تركيا نفسها مدفوعة لإعادة تحديد هويتها الإسلامية على الصعيدين السياسي والاجتماعي. وذلك بعدما حقق مظهر التحديث الذي عممته النخب العلمانية عبر فترة تناهز السبعين عامًا نتائج إيجابية للمرأة التركية. وما فرض التعليم الإلزامي لمدة ثماني سنوات وسن قانون يسعى لمنع العنف العائلي إلا مثلين لهذه المنجزات. ففي 1981، أصبحت تركيا البلد الإسلامي الوحيد الذي شرع الإجهاض بناء على طلب المرأة. وفي رد فعل على عملية علمنة البلاد، تكونت حركة النساء المسلمات، بعدما ترعرعت في ظل الإصلاحات الكمالية، وبعد أن عملت على فصل نفسها عن الإسلام الأصلي.
وفي إيران، تسببت أسرة بهلوي (1925-1979) وبرنامجها التحديثي في اندلاع المقاومة الإسلامية التي اتخذت من الحجاب الذي ارتدته النساء رمزًا للمقاومة ضد نظام الشاه. وفي حقبة ما بعد الثورة الإسلامية، تم إلغاء قانون حماية الأسرة لعام 1967، الذي كان قانونًا علمانيًا وضع حدودًا على الحق المطلق للرجال في تطليق زوجاتهن، كما وضع حدًا للسن القانونية للزواج، برفعها إلى الثامنة عشرة، ومع إلغاء هذا القانون اختصر الحد الأدنى للسن القانونية لزواج الفتيات إلى الرابعة عشرة.
وكرد فعل على ذلك تعالت في العقد الثاني بعد الثورة دعوة النساء الإصلاحيات إلى إعادة العمل بقانون حماية العائلة لعام 1967. والآن نجد أن هناك العديد من القيود التي تعتري العلاقة بين الجنسين، مثل الحقوق الخاصة، والحجاب، أو الحرية الجنسية والتمييز، وهذه القيود ما زالت تواصل صبغ العلاقة بين الجنسين. لذا تحاول الحركة الإصلاحية النسائية أن تكون بمثابة مشكلة موجهة بعد إخفاقها في تحدي الأصولية والأبوية.
ومع ذلك، نلاحظ في الأعوام الأخيرة ظهور انشقاق ملحوظ بين النساء التقليديات المتشددات وبين دعاة الحركة النسوية غير المحافظات لصالح الإصلاح من جهة أخرى، كما نلاحظ حدوث التقارب بين بعض العناصر النسوية المتدينة والعناصر النسوية العلمانية حول أمور تتعلق بقانون الطلاق، وحقوق رعاية الطفل، والنفقة ضمن أمور أخرى. وبشكل خاص وثيق الصلة بهذا التحليل نلاحظ استمرار نضال النساء الإصلاحيات، المتدينات والعلمانيات معًا، لبناء توافق على الأقل بخصوص بعض المواضيع، من بينها الوقاية من العنف المنزلي والدعوة للمساواة بين الجنسين.
تحرر الأصوات والأفعال
إن انطلاق الإمكانيات الجديدة وانتشار الأفكار النسوية يشيران إلى تغيرات مأساوية في العالم الإسلامي. ويمكن هنا تحديد شكلين لهذا التغيير أولهما بنيوي والثاني تصوري. وتترافق مادة التغيير البنيوي مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية والنمو الذي تحققه المجتمعات الإسلامية. فقد ساعد نمو فرص التعليم والعمل للنساء في العالم الإسلامي على تكوين أفكار جديدة ومناهج لها آثار عميقة على هذه المجتمعات. كما أدت إتاحة إمكانيات التعليم للنساء في عدد من الأقطار إلى نمو المشاركة السياسية للنساء. أضف إلى ذلك أن الدراسات المتعلقة بالنساء شرعت في الاهتمام بوسائل الاتصال الحديثة والرسائل التي تبثها مع نمو استخدام هذه الوسائل من جانب الدولة والمجموعات الإسلامية والمنظمات غير الحكومية في المجتمع المدني بهدف تعزيز أوضاع النساء إزاء العائلة وزيادة الدعم لحقوقهن.
شغل منشيبوري (Mahmood Monshipouri) وقت كتابة المقال منصب أستاذ بجامعة كوينيبياك الأمريكية. والمقال المنشور عبارة عن صفحات مقتطفة من دراسة بنفس العنوان نشرت بمجلة الدراسات الدولية: International Studies Journal.
Comments