هدف واحد ومرجعيتان.. حماية المدنيين بين القانون الدولي الإنساني والشريعة الإسلامية

القانون الدولي الإنساني

هدف واحد ومرجعيتان.. حماية المدنيين بين القانون الدولي الإنساني والشريعة الإسلامية

في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، جمعت ورشة عمل مشتركة بين اللجنة الدولية للصليب الأحمر وجامعة الأزهر الشريف في القاهرة خبراء في الفقه والقانون الدولي الإنساني حول سؤالٍ مركزي: كيف تُبنى جسورٌ عملية بين قواعد هذا القانون والقيم الراسخة في التراث الفقهي والأخلاقي الإسلامي؟ جاءت الورشة ضمن مسارٍ حواريٍّ تعمل فيه اللجنة الدولية على استكشاف المشتركات وتعزيز الفهم المحلي للقواعد الإنسانية، عبر شراكاتٍ مستدامة مع مؤسسات دينية وتعليمية مؤثّرة.

شهدت الورشة منذ لحظاتها الأولى قدرًا لافتًا من التوافق بين المشاركين حول المبادئ الإنسانية التي لا ينبغي أن تهتزّ مهما اشتدّت النزاعات المسلحة: حمايةُ المدنيين، وصونُ الكرامة الإنسانية، والمعاملةُ الإنسانية للأسرى/المحتجزين لأسبابٍ تتصل بالنزاع (أشخاصٌ تحت سلطة طرفٍ في النزاع). غير أنّ هذا الاتّفاق الواسع على ما ينبغي حمايته فتح سريعًا بابًا لنقاشٍ أعمق: من أين يستمدّ الإنسانُ التزامَه بهذه القيم، وأيُّ مرجعيةٍ تُغذّي هذا الوازع الداخلي (الضمير الأخلاقي) لسلوكه في النزاعات المسلحة؟

هل يكفي الوازع الديني؟

في كلمةٍ افتتاحية قُدِّمت بوصفها «بيانًا تأسيسيًا» لرؤية الأزهر، وضعَ الدكتور محمد مهنا، أستاذ القانون الدولي العام بكلية الشريعة والقانون، سؤالَ الالتزام الأخلاقي على طاولة النقاش معتبرا أن «التحدّي الحقيقي للقانون الدولي الإنساني هو كيفيةُ التوفيق بين متطلبات العمليات العسكرية والبعد الإنساني». ورأى مهنا أنّ صعوبةَ التطبيق لا تكمن في نصوص القانون ذاتها بقدر ما تكمن في دوافع الامتثال.  وقدّم، بحسب تعبيره، قراءةً تصف القانونَ الدولي الإنساني المعاصر بأنه «مدوّنةٌ علمانية تختزلُ القانونَ إلى مجرّد ضوابطٍ… يُنظر فيها إلى العقوبة»، في مقابل بديلٍ يستند إلى البعد العقدي (الإيماني)؛ إذ يمتثلُ المقاتل، كما يقول، للمبدأ والقيمة نظرًا إلى صاحب المبدأ – أي إلى الله – لا اتّقاءً لشرطيٍّ أو لعقوبة.

من جانبها، رأت آنا براتس، رئيسة بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في القاهرة، أنّ المعضلة لا تكمن في نقص القواعد بقدر ما تكمن في الفجوة بين النص والواقع؛ إذ قالت إن «قلقنا الأكبر حاليًا هو التطبيق غير الكافي والتفسير المتساهل للقانون الدولي الإنساني، والذي يهدف إلى حماية المدنيين، ومعاملة أسرى الحرب معاملةً إنسانيةً كريمةً، وحماية البنية التحتية المدنية، وإبقاء هذا المسار مفتوحًا للعودة إلى الحياة الطبيعية». ومع ذلك، لم تقدّم براتس القانونَ الدولي الإنساني بوصفه غريبًا عن المنطقة، بل أشارت إلى أنّ «الشريعة الإسلامية كانت سبّاقة في إضفاء الطابع الإنساني على النزاعات المسلحة» قبل قرونٍ من تدوين اتفاقيات جنيف، بما رسّخته من قواعدٍ تضبط سلوك القتال وتضع كرامة الإنسان في الصدارة.

يظلّ الوازع الداخلي – الديني والأخلاقي – عنصرًا أساسيًا في تعزيز الامتثال، بحسب خبراء اللجنة الدولية. غير أنّهم أكّدوا أنّه لا يُعدّ وحدَه ضمانةً كافية، وشدّدوا على ضرورة إسناد هذا البعد الروحي إلى أعمدةٍ مكمِّلة تضمن إدماج القانون حتى يتم تنفيذه واحترامه على أرض الواقع: إدماج القواعد في التعليم (تحويلها إلى مناهج وسياسات وإجراءات تشغيلية)، وترجمتها إلى تدريبٍ عمليٍّ مستمر، وإقامة آلياتٍ فعّالة للمساءلة والعقاب. وفي هذا السياق، حذّرت بسنت عبد المجيد، المستشار القانوني الإقليمي في اللجنة الدولية، من أنّ التعويل على الضمير وحده قد لا يكفي «لردع الانتهاكات في ظلّ تعقيدات الطبيعة البشرية والسياسية» ما لم تسانده جهودٌ وأنظمة موازية تعالج على نحوٍ أكثر وضوحًا أوجه القصور والتحدّيات التي تواجه الأنظمة القانونية الدولية الحالية في ظل التعددية المعقّدة اليوم.

القانون الإنساني عند «مفترق طرق»

كما قدّمت عبد المجيد تشخيصًا حادًّا لوضع احترام القانون الدولي الإنساني، واصفةً إيّاه بأنّه يمرّ «بمفترق طرقٍ يهدّد المنظومةَ بالتفكّك». وعزت هذا التدهور إلى عوامل متداخلة، منها اتّساع رقعة النزاعات وطول أمدها، وتكرار الانتهاكات، وضعف رد المجتمع الدولي، وهو ما فاقم مشاعر الإحباط وزعزع الثقة في فاعلية المنظومة القانونية والأخلاقية الدولية. ومن هذا التشخيص، انفتح النقاش على تحديات القانون الدولي الإنساني في النزاعات المسلحة المعاصرة، وعلى سُبلٍ عملية لردم فجوة الامتثال بين النص والواقع.

وحول أكبر التحديات التي تعترض احترام القانون الدولي الإنساني، اتفق الحضورُ على أنّ تعثّر منظومة الحوكمة الدولية أمام الانتهاكات يفاقم صعوبة إنفاذ القواعد. وأشارت النقاشات إلى تزايد لجوء بعض الدول إلى استخدام القوة لحسم نزاعاتها، مع اتساع تأويل حق «الدفاع الشرعي عن النفس» المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة (المادة 51)، والذي يحظر التهديد أو استخدام القوة دون مبرر قانوني.

وأكّد المشاركون أنّ هذا الجدل يخصّ حظر استخدام القوة فور نشوب نزاع مسلح (المادة 2)، بينما يظلّ القانون الدولي الإنساني – بوصفه «قانون النزاعات المسلحة»، مستقلًّا عن مشروعية اللجوء إلى القوة، ويلزم جميع أطراف النزاع باحترام قواعد حماية المدنيين، ولا سيما مبادئ التمييز والتناسب والاحتياطات. لذلك دعت المداخلاتُ إلى التركيز على تعزيز احترام هذه القواعد على الأرض، عبر التعليم والتدريب والإنفاذ، ودمج العقيدة في وتعزيزها في الثقافات المحلية، بدل الانزلاق إلى سجالاتٍ سياسيةٍ حول مشروعية استخدام القوة.

عقبات الإنفاذ: بين «الدفاع الشرعي» وتسييس المصطلحات

وفي هذا السياق، يرى أستاذُ القانون الجنائي بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، الدكتور عادل خراشي، أنّ خللَ الامتثال ترافقه – بحسب تعبيره – ازدواجيةٌ في المعايير؛ إذ توسِّع قوى كبرى تأويلَ «الدفاع الشرعي» ليشمل ما يُسمّى «الضربات الاستباقية» (توجيه ضربة قبل وقوع هجومٍ وشيك) لتبرير أعمالٍ عسكرية.

تحدٍّ آخر يظهر في التوتّر بين بعض أطر مكافحة الإرهاب (تشريعات وعقوبات وسياسات تستهدف الأعمال الإرهابية) وبين الالتزامات بموجب القانون الدولي الإنساني. فالأطر التي سادت في العقدين الأخيرين تميلُ – عمليًا – إلى التعامل مع كثيرٍ من الجماعات المسلّحة بوصفها «خارجةً عن القانون» على نحوٍ شامل، بما يثير التباسًا مع منطق القانون الدولي الإنساني الذي يفرض التزاماتٍ متكافئة على جميع أطراف النزاع – دولًا وجماعاتٍ مسلّحة منظّمة – دون أن يضفي شرعيةً على أيٍّ منها. ويعني ذلك، على سبيل المثال، أنّ القانون لا يجيز سوى استهداف الأهداف العسكرية مع احترام مبادئ التمييز والتناسب والاحتياطات، بصرف النظر عن توصيف الطرف المقابل.

في هذا السياق، طرحت بسنت عبد المجيد، المستشار القانوني الإقليمي في اللجنة الدولية، سؤالًا بلاغيًا يبيّن أثر هذا التوتّر على حوافز الامتثال: «لماذا قد تمتنع جماعةٌ مسلّحة عن إيذاء أسيرٍ، أو ارتكاب انتهاكاتٍ جسيمة أخرى، إذا كانت تخشى أن تُعامَل، في كلّ الأحوال، بوصفها «إرهابية» وتواجه عقوباتٍ جسيمة؟». وأشارت إلى أنّ القيود الواسعة على المعاملات مع الجماعات المصنّفة إرهابية قد تعرقل وصولَ المساعدة الإنسانية المحايدة (تقديم الإغاثة على أساس الحاجة فقط ودون تمييز) إلى سكّانٍ محاصَرين، بل وقد تُعرِّض العاملين الإنسانيين لمخاطر قانونية، ما لم تُحدَّد استثناءاتٌ إنسانيةٌ واضحة أو آلياتُ ترخيصٍ شفّافة تُمكّن من أداء الواجب الإنساني مع احترام متطلبات الامتثال.

وعلى الجانب الآخر، تُحظَر، بموجب أطر مكافحة الإرهاب الدولية والوطنيّة، أيّ أشكالٍ من «الدعم المادي» أو الموارد للجماعات أو الأفراد المُدرَجين على قوائم الإرهاب، وهو ما قد يعرّض العمل الإنساني للخطر ويضع الأنشطةَ المحايدة وغير المتحيزة للمنظمات الإنسانية، مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي تقرّها اتفاقيات جنيف والتزمت بها الدولُ الأطراف كافة، في موضع الشكّ والالتباس. لذلك، من المهم حمايةُ «المجال الإنساني» (المساحةُ الآمنة والمحايدة التي تُمكّن من الوصول وتقديم المساعدة) الآخذِ في التقلّص.

تحديات التقنيات الحديثة

تناولت الورشةُ كذلك تحدياتٍ ميدانيةً ناشئة مع تطوّر التكنولوجيا وطبيعة القتال. فقد أوضحت بسنت عبد المجيد أن الأنظمة الذاتية التشغيل/المستقلة (أنظمةٌ قد تُحدِّد وتُهاجم أهدافًا دون تدخّلٍ بشريٍّ مباشر في لحظة الإطلاق) تثير أسئلةً صعبة حول القدرة العملية على التمييز بين مقاتلٍ يباشر القتال وبين شخصٍ كف عن المشاركة في القتال (جريحٌ ممدّد ينزف، وهو شخصٌ أصبح أو اكتسب صفة محميّ لا يجوز استهدافه). ومن ناحية أخرى، الحرب السيبرانية أثبتت أن الأعمالُ العدائية لم تعُد محصورةً في الرصاص والقذائف؛ إذ بات ممكنًا تنفيذ هجومٍ سيبراني (عمليةٍ رقميةٍ تُعطِّل بنيةً تحتيةً حيوية) يُوقف مستشفى بالكامل، بما قد يفضي إلى وفياتٍ بين المدنيين من دون إطلاق طلقةٍ واحدة، بينما تتمتع الوحدات الطبية بحمايةٍ خاصّة، ويُحظر استهدافها أو تعطيل وظائفها الإكلينيكية.

وفي البيئات الحضرية، مع تنامي النزاعات المسلّحة غير الدوليّة ووجود جماعاتٍ مسلّحة منظّمة لا تمتلك بنًى عسكريةً تقليدية يحدث تقارُبٌ بين الأهداف العسكرية والأعيان المدنيّة واختلاطٌ بين المقاتلين والمدنيين، ما يرفع مخاطر الخسائر البشرية. وحتى مع احترام مبدأ التمييز (تحديد الأشخاص المدنيين والأعيان المدنيّة مقابل الأهداف العسكريّة)، يبقى تطبيق مبدأ التناسب (ألا تكون الخسائرُ العرضيّة المتوقَّعة في المدنيين والأعيان المدنيّة مفرِطةً قياسًا بالميزة العسكريّة المباشرة والمتوقَّعة) محاطًا بإشكالاتٍ تأويليّة، الأمر الذي يستدعي احتياطاتٍ إضافية (اختيار وسائل وأساليب أقلّ ضررًا، والتحذير المسبَق حيثما أمكن، وتكييف قواعد الاشتباك) لضمان حمايةٍ أفضل للمدنيين.

وفي حروب المدن وحالات الحصار، يبرز خطرُ الإضرار بالمدنيين: إذ يُحظَر تجويعُ المدنيين كأسلوبٍ من أساليب الحرب، وتظلّ على الأطراف واجباتُ التمييز والتناسب والاحتياطات، بما في ذلك دراسة الوسائل البديلة وتمكين مرور الإغاثة الإنسانية حيثما أمكن. وقد طُرِحت في النقاش أسئلةٌ حول «الإجابات الصحيحة» حين تتقاطع هذه الوقائع. واتفق الحضور على الحاجة الماسة إلى نقاشٍ عامّ وإرشاداتٍ عملياتية أوضح لتطبيق مبادئ التمييز والتناسب والاحتياطات في سياقات النزاعات المسلحة غير الدولية، خاصة مع ازدياد الجماعات المسلحة غير الحكومية التي لا تملك بنى عسكرية تقليدية، بما يوفّر لمتخذي القرار والقادة الميدانيين أدواتٍ عملية تقلّل الكلفة الإنسانية المتوقعة عند توظيف هذه الوسائل في المدن.

أمّا عن استخدام الدروع البشرية (اتّخاذ وجود المدنيين وسيلةً لدرء الهجوم) فالقاعِدةُ القانونيّة واضحةٌ في تحريمه. غير أنّ التطبيق العملي يظلّ معقّدًا: إذ قد يصعب على المهاجم التمييز بين مقاتلٍ يحتمي عمدًا وبين مدنيٍّ مُكرَهٍ على البقاء. وفي جميع الأحوال، لا يُعفي استخدامُ الدروع البشرية الطرفَ المهاجم من واجباته في اتخاذ الاحتياطات وتقليل الأذى العرضي، كما لا يُسقط حمايةَ المدنيين المُكرَهين.

وثارت أسئلة عملية في النقاش: ما مسؤوليات الطرف المهاجم عندما يُواجه دروعًا بشرية؟ وهل أن وجودُ أشخاصٍ أمام هدفٍ عسكري أكان طوعًا، بما قد يثير مسألة «المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية» (قيامُ المدني بعملٍ يؤثّر مباشرةً في قدرات الخصم أو عملياته فيفقد الحماية طوال مدة المشاركة)، أم كان تحت إكراه أو في إطار احتجاز رهائن (أشخاصٍ محرومين من الحرية ومحمّيين قانونًا)؟ وكيف يمكن التحقّق من ذلك في ضباب المعركة؟

إزاء هذا اللايقين، أكد خبراء اللجنة الدولية أن الأصل يبقى في افتراضَ الصفة المدنيّة، وتظلّ على المهاجم مسؤولية اتخاذ احتياطات ممكنة عمليًا: جمعُ معلوماتٍ كافية، اختيار وسائل وأساليب أقلّ إضرارًا، الإنذارُ المُسبَق حيثما أمكن، وتعديلُ أو إلغاءُ الهجوم إذا كانت الخسائرُ العرضيّة المتوقَّعة مفرطةً قياسًا بـالميزة العسكريّة المتوقَّعة (مبدأ التناسب). وفي المقابل، لا يُعفي وجودُ الدروع البشرية الطرفَ المدافع من التزاماته بعدم وضع الأهداف العسكريّة داخل المناطق المدنيّة أو بالقرب منها واتّخاذ التدابير اللازمة لتقليل المخاطر على السكّان.

ضعف المساءلة الوطنية والدولية

رأى بعضُ المشاركين أنّ اتّساعَ الانتهاكات يرتبط بضعفِ المحاسبة وانحسارِ الردع. فعلى المستوى الوطني، ما تزال الملاحقاتُ على جرائم الحرب محدودةً في بلدانٍ عدّة، بالرغم من وجود أطرٍ تشريعية في بعضها، ولا سيّما بموجب مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي (محاكمةُ الجرائم الخطيرة بصرف النظر عن مكان ارتكابها أو جنسية الفاعل). وأكد المشاركون أنّ إغلاق فجوة الامتثال يمرّ عبر التنفيذ الوطني الفعّال (تحويل الالتزامات الدولية إلى قوانين وإجراءات داخلية): إدراجُ الانتهاكات الجسيمة وجرائم الحرب في التشريعات مع عقوباتٍ رادعة واضحة، وتمكينُ ولايةٍ جنائيةٍ واسعة، وعلى الأقلّ ولاية عالمية للانتهاكات الجسيمة، وإتاحةُ مسارات التسليم أو الاسترداد عندما لا تُباشَر المحاكمة داخليًا.

هذا التوجّه ليس خيارًا سياسيًا فحسب، بل التزامٌ تعاقديّ: إذ تُوجِب اتفاقياتُ جنيف على الدول سنَّ تشريعاتٍ جزائيةٍ فعّالة للانتهاكات الجسيمة والبحثَ عن المشتبه بارتكابها وتقديمَهم إلى محاكمها بغضّ النظر عن جنسيتهم، أو تسليمَهم إلى دولةٍ متعاقدةٍ أخرى مختصّة لمحاكمتهم. وقد اتّسع في سنواتٍ أخيرة نطاقُ إدراج هذه الجرائم في القوانين الوطنية لدى عددٍ متزايدٍ من الدول، غير أنّ الحاجة ما تزال قائمةً إلى تعزيز هذا المسار واستدامته عبر بناء القدرات القضائية، وتفعيل التعاون القضائي الدولي، وضمان اتساق التشريعات مع الالتزامات الدولية.

أمّا محكمةُ العدل الدولية فلا تملك أدواتِ تنفيذٍ مباشرة – فيما عدا إذا كان مجلس الأمن جزءا من الدعوى – وتعتمد أحكامُها على امتثال الدول. فيما تقيد ولاية المحكمةُ الجنائية الدولية معاييرُ الاختصاص الإقليمي/الشخصي/الزماني، إضافةً إلى مبدأ التكامل (تتدخل عندما تكون الدول غير راغبةٍ أو غير قادرةٍ على التحقيق والمقاضاة)، وهو ما يُبقي العديدَ من الوقائع خارج نطاقها ما لم تقع إحالةٌ أو قبولٌ للاختصاص.

بناء الوعي عمل جماعي

اتجهت توصياتُ الورشة إلى تعزيز أدوات المساءلة على نحوٍ ينسجم مع التزامات الدول الأطراف كافة بموجب اتفاقيات جنيف، بوصفه جهدًا دوليًا يتطلّب عملًا متوازيًا على المستويين الوطني والدولي: تحديث التشريعات الوطنية وبناء القدرات، وتفعيل التعاون القضائي عبر المساعدة القانونية المتبادلة والتسليم، ومواءمة سياسات مكافحة الإرهاب مع «الاستثناءات الإنسانية» (آليات ترخيص/إعفاء تُمكّن من إيصال الإغاثة المحايدة دون تعطيل) لضمان الوصول. ودعا خبراءٌ مشاركون إلى خطواتٍ تشريعيةٍ عملية تشمل إدراج الانتهاكات الجسيمة وجرائم الحرب في القوانين الوطنية بعقوبات رادعة، وتمكينَ ولاياتٍ جنائية أوسع، بما فيها الاختصاص العالمي حيثما لزم، وإنشاء آليات تحقيق وملاحقة متخصصة، كما طرح بعضُهم خيارَ الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، وفق الأطر الدستورية لكل دولة، بوصفه مسارًا قد يُسهم في تقوية مسارات العدالة والمساءلة.

وطُرحت في ختام ورشة العمل مبادراتٌ أكاديمية لاستثمار النتاج العلمي للأزهر؛ إذ اقترح الدكتور محمد مهنا أن تستفيد اللجنةُ الدولية من رسائل الدكتوراه في جامعة الأزهر عبر ترجمتها وتعميم خلاصاتها على نطاقٍ أوسع. وشدّد المشاركون كذلك على توسيع دائرة التوعية والتدريب بهذه المبادئ والقواعد؛ فلا يقتصر الأمر على جامعة الأزهر أو الأوساط الأكاديمية والعسكرية النخبوية، بل يمتدُّ إلى جميع الجامعات ووسائل الإعلام الوطنية لنشر الثقافة الإنسانية على أوسع نطاق – وهو ما أشارت اللجنةُ الدولية إلى اتساقه مع برامجها القائمة للتعاون مع مؤسسات الدولة المصرية.

وخَلُصت الورشةُ إلى أنّ الامتثال المنشود يقتضي الجمع بين الوازع الداخلي (الإيمان/الضمير الأخلاقي) وآليات المساءلة والإنفاذ القانوني معًا. وتوافَق المشاركون على بلورة هذه القيم المشتركة كأرضيةٍ معرفيةٍ وتدريبية يمكن البناءُ عليها ومتابعتُها في الخطوات اللاحقة.

ختاما، فإن بناء مجتمعاتٍ أقدر على الصمود مرهونٌ بترسيخ القيم الإنسانية المشتركة في الوجدان العام. ومبادئ القانون الدولي الإنساني – كحماية الحياة والكرامة الإنسانية أثناء النزاعات المسلحة – هي قيمٌ أخلاقية عالمية ينبغي أن تتحوّل إلى سلوكٍ يومي وثقافةٍ مجتمعية. وكلّ فردٍ في المجتمع، من القارئ العام إلى رجل الدين وصانع القرار، مدعوٌّ للتفكير في دوره ضمن هذا الالتزام الإنساني.

وإذا أدركنا أنّ الالتزام الحقيقي ينبع من الاقتناع الداخلي بقدسية الحياة وكرامة الإنسان، اتّضح لزوم تكاتف الوازع الأخلاقي مع قوة القانون لضمان احترام تلك المبادئ في أصعب الظروف. إنّها دعوةٌ مفتوحة كي يصبح القانون الإنساني جزءًا من ضميرنا الجمعي، فنرفضَ الانتهاك ونناصرَ الضحايا – لا لأنّ القانون يُلزمنا فحسب، بل لأنّ إنسانيّتَنا تقتضي ذلك.

أمّا من منظورٍ عملي، فإنّ ترجمة هذه الرؤى إلى واقعٍ ملموس تتطلّب جهدًا دوليًا متّسقًا تباشِرُه الدولُ الأطراف كافة بموجب اتفاقيات جنيف، وتتتكامل فيه أدوارُ المؤسّسات التشريعية والدينية والتعليمية والإعلامية. فعلى الصعيد التشريعي، ركّزت التوصيات على تعزيز الأطر الوطنية للمساءلة عن جرائم الحرب عبر مواءمة القوانين مع الالتزامات الدولية، وإدراج الانتهاكات الجسيمة بعقوباتٍ واضحة، وتمكين ولاياتٍ جنائيةٍ أوسع، بما في ذلك الاختصاص العالمي حيثما لزم، وتفعيل التعاون القضائي. كما طُرح خيارُ الانضمام إلى الآليات القضائية الدولية، وعلى رأسها المحكمة الجنائية الدولية، بوصفه مسارًا قد يدعم الردع والإنفاذ. وبالتوازي، تُعزَّز برامجُ التوعية والتدريب والمناهجُ التعليمية وخطابُ الإعلام العام لترسيخ ثقافة احترام القانون على أوسع نطاق. كما وتضطلع المؤسّسات الدينية بدورٍ محوري في إبرازهذا البعد الأخلاقي والعقدي، بما يؤصّل احترام كرامة الإنسان كواجبٍ إيمانيٍّ يعزّز الامتثال. وعلى المؤسّسات التعليمية إدماجُ مفاهيم القانون الدولي الإنساني في المناهج والبرامج التدريبية، وتوجيهُ البحوث إلى نقاط الالتقاء بين التعاليم الدينية والقواعد الدولية لتكثيف الفهم المحلي.

Share this article

تعليقات

There is no comments for now.

Leave a comment