بينما ينهضُ العالمُ كلَّ صباحٍ على ضجيج المدن المضيئة، أستيقظُ في مدينتي على أصواتٍ أخرى. ارتجاجاتُ الزجاجِ في المتاجرِ القريبة، نحيبُ طفلٍ لم يتعلمْ بعد أنْ يُفرّقَ بين صفيرِ الرصاص وصوتِ الريح، وخطواتُ أقدامٍ تبحثُ في الأنقاض عن شيءٍ من الأمس.
“المدينةُ التي تحترق، تحفظ أسرارنا أكثر مما نحفظها نحن.” – جين غودال
أكتبُ لأني لا أريدُ أنْ يُختصرَ الوجعُ السوريُّ في أرقامٍ وتقارير. نحن لسنا أعدادًا في نشراتِ الأخبار، نحنُ وجوهٌ لها أسماءٌ وحكاياتٌ وذاكرة ممتلئةٌ بتفاصيل صغيرة كنا نعتقد أنها عادية، حتّى أصبحت أحلامًا بعيدةَ المنال.
في أحياءٍ أنهكتها الحربُ، صارت النساء هنّ الحارساتُ الباقياتُ للدفاعِ عن الحياة. تحملُ إحداهن خبزًا من فرنٍ يتنفسُ رمادًا أكثر مما يتنفس دقيقًا، بينما تديرُ أخرى بيتًا بلا جدرانٍ كاملة، وتزرعُ في قلبِ أطفالها شيئًا من الأمان وسط العاصفة. لم تعدِ البطولةُ في سوريا تُقاس بالسلاح، وإنما بالقدرة على صنع وجبةٍ من لا شيء، أو بابتسامةٍ تُخفي خوفًا من غدٍ مجهول.
“في عيونهنّ أرى العالم مستمرًا، رغم كل شيء.” – إلينور روزفلت
في مدينتي في طرطوس لا نتحدثُ كثيرًا عن السياسة ولا عن أسبابِ الحرب، لأن الألمَ سبقَ كل التفسيرات. ما يشغلُنا هو الإنسان الذي يُدفن مرتين، مرةً تحتَ الركام، ومرةً في النسيان.
أكتبُ لأقول إننا لسنا مجردَ “ضحايا”؛ نحن أناسٌ نُصرّ على أنْ نعيش، أنْ نغني أحيانًا رغم انقطاع الكهرباء، أنْ نضيء بيوتنا بشموعٍ صنعتها الأمهاتُ من بقايا الشمع المستعمل، وأنْ نروي عطشنا بكؤوس ماءٍ نتقاسمُها كطقسٍ مقدس.
“الحياةُ هي أصغر الأشياء وأكثرها شجاعةً.” – باولو كويلو
أن تكون امرأةً في سوريا اليوم يعني أنْ تحمل العالم كله على كتفيك، الأطفالَ، والبيتَ، والحنين، والخوف الدائم من طرَقاتٍ ليلية على الباب. إنه يعني أيضًا أن تكتشفي في داخلك قوةً لم تظني يومًا أنك تمتلكينها؛ قوة تكتبُ من تحت الرماد حكايةً أخرى غير التي يرويها الموت.
أتجول بين أزقة مدينتي في الغمقة الشرقية والحمرات وحيّ الغدير، أرى الجدرانَ المتشققة وقد زُينتْ بألوانِ ذكرياتنا، صورٌ لبقايا فرحٍ سابق، رسومات أطفالٍ فَقدوا اليوم أبويهم، كلماتٌ محفورة على الحجر تُعيد للأحياء أسماءً لم يعدْ أحدٌ يذكرها. كلُّ زاوية تحكي قصة، وكلُّ صوتٍ يحملُ معنى.
“حتى في الجدران، ثمة ذاكرة لا تموت.” – توني موريسون
في الأوقات الصعبة، تعلمت أنَّ الإنسانية لا تحتاجُ إلى خطابٍ كبير؛ يكفي أنْ تتقاسمَ مع جاركَ كوب ماء، أو أنْ تمتد يدك لتعين من سقط، أو أن تكتبَ رسالة صغيرة لمن فقد الأمل. هذه التفاصيلُ الصغيرة فيما تبدو، هي التي تصنعُ الفرق.
الليل في سوريا ليسَ مجرد وقتٍ للاسترخاء، وإنما فترة اختبارٍ للصمود. أسمع أنينًا يخرج من جدارٍ متهالك، وكأنَّ المدينة نفسها تتألم، وكأن الحيطان تحفظُ كلَّ ألم عشناها. أحيانًا أفتح نافذتي لأشم الهواء، فتأتيني رائحةُ التراب والرماد، وتتسللُ إليها رائحة زهرة نبات بقيت صامدة في شرفةِ أحد البيوت المنهارة. تلك الرائحةُ الصغيرة تُعيد إليّ شعورًا بأن الحياة ما زالت ممكنةً، حتّى وسط الخراب.
“من قلب الدمار، تخرج الحياة بأضعف وأقوى ما فيها.” – مارجريت أتوود
أطفال الشوارعِ الذين يفترض أنْ يلعبوا ويضحكوا، أصبحوا ينظرون إليّ بعينين تحملانِ خبراتٍ أكبر من أعمارهم. أتحدث معهم، أبتسم، وأحاولُ أنْ أزرع فيهم شعورًا بأن العالم ما زال فيه مكان للطفولة، رغم كل شيء. هذه المحادثات الصغيرة تمنحني شعورًا بأنَّ الكلمة لا تموت، وأنَّ الصمت ليس الخيار الوحيد.
كلُّ يوم أتعلم شيئًا جديدًا عن الصبر، عن القدرة على الاستمرار، عن إمكانية خلقِ أملٍ من رماد الأحلام. أحيانًا وأثناء السيرِ في الشوارع، أجد كتابًا مهترئًا على الأرض، أرفعه وأقرأه، فتأتي الكلمات كإشارةٍ؛ حتّى في الخراب، يمكنُ للكلمة أنْ تنبت.
“الكلمةُ قادرة على إنبات الحياة حيث الظلام يسود.” – فريدريك نيتشه
أنا أكتب ليس من باب التباهي أو التظاهر، وإنما لأنَّ الكتابة هي ما يخلّف أثرنا بعد أنْ يمرّ الموت، ما يبقى منّا حين تغيب الأصوات. أنا أكتبُ لأني أؤمن أنَّ كلَّ قصة، مهما صغرت، تستحق أن تُسمع، وأن كلَّ تجربةٍ إنسانية تحمل قيمةً يمكن أن تُلهم الآخرين وتربطهم بإنسانيتهم.
في النهايةِ الحرب لم تُزل كرامتنا، وإنما أظهرت معدننا الحقيقي. كلُّ حجرٍ مكسور، كلُّ شارعٍ فقد ضوئهُ، كل جدارٍ يروي أثر يدٍ صغيرة رسمت عليه قلبًا، كلها شهاداتٌ ترفض الصمت، كلها دعواتٌ صامتة للحياة، كلها تذكير بأنَّ الإنسان قادرٌ على الصمود، على الحب، على العطاء، حتّى في أحلك الظروف.
“الإنسانيةُ لا تموت، حتى عندما يحاول الموت أنْ يبتلعها.” – آن فرانك
لهذا أكتبُ.
لأن الكلمة تستطيعُ أن تُقاوم النسيان، وأنْ تُعيد للإنسان بعضًا من كرامته المبعثرة.
في النهاية، لسنا مجردَ أخبار عابرة، نحن قصة إنسانية كاملة، لا تستحقُ إلّا أن تُروى بصوتٍ صادق.


تعليقات