في خضم عالم تتصاعد فيه النزاعات المسلحة وتتعقد أشكالها، أصدرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر تقريرها السادس حول “القانون الدولي الإنساني وتحديات النزاعات المسلحة المعاصرة”، وثيقة محورية تأتي بالتزامن مع الذكرى الخامسة والسبعين لاتفاقيات جنيف. ولا يشكل التقرير مجرد سرد للتحديات، بل هو يقدم مجموعة من التوصيات العملية والمحددة لمعالجة تلك التحديات في وقت يشهد العالم 120 نزاعاً مسلحاً، تشارك فيها أكثر من 60 دولة و120 جماعة مسلحة من غير الدول.
أطلق هذا التقرير في المؤتمر الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر الذي عقد في جنيف أواخر العام الماضي وتزامن مع مشاهد مروعة من غزة وأوكرانيا والسودان، حيث يدفع المدنيون ثمن نزاعات لا يد لهم فيها. ففي السودان، ثمة أكثر من عشرة ملايين نازح داخلياً ومليوني لاجئ، وفي جمهورية الكونغو الديمقراطية، يتجاوز عدد النازحين 7 ملايين شخص، أما في إثيوبيا، فقد أزهقت النزاعات أرواح مئات الآلاف.
يحذر التقرير من خطر الأسلحة النووية، حيث تشير اللجنة الدولية إلى أن “خطر استخدام الأسلحة النووية وصل إلى أعلى مستوياته منذ أحلك لحظات الحرب الباردة” مشددًا على أهمية معاهدة حظر الأسلحة النووية التي دخلت حيز النفاذ في 22 كانون الثاني/يناير 2021. وتؤكد اللجنة الدولية بوضوح أنه “من المشكوك فيه للغاية أن يعتبر يوماً ما استخدام الأسلحة النووية استخداماً متفقاً مع مبادئ وقواعد القانون الدولي الإنساني”، معتبرة أن الحل الوحيد “لحماية البشرية من تهديد الأسلحة النووية هو القضاء عليها”.
ويتصدى التقرير للمفاهيم المستجدة في الخطاب السياسي والعسكري مثل “المنافسة” و”الحرب الهجينة” و”الحرب بالوكالة” و”المناطق الرمادية”. ويوضح أن هذه المصطلحات لا تغير من طبيعة القانون الدولي الإنساني أو معايير تصنيف النزاعات. إذ يحذر التقرير من أنه لا ينبغي للسرديات السياسية أن تحجب التصنيف القانوني للنزاعات المسلحة وتطبيق القانون الدولي، مشدداً على أن تقييم النزاعات يجب أن يتم “بطريقة موضوعية فقط على أساس الحقائق على أرض الواقع، وفقاً للمعايير المنصوص عليها في القانون الدولي الإنساني”.
يولي التقرير اهتماماً خاصاً للمحرومين من حريتهم في النزاعات المسلحة، والعائلات المشتتة، والمفقودين، والموتى. حيث تشير إحصائيات اللجنة الدولية إلى تسجيل أكثر من 65,000 حالة اختفاء جديدة في عام 2023 وحده، ليصل إجمالي عدد هذه الحالات إلى 240,000 حالة.
ويحذر التقرير من محاولات بعض الدول “استبعاد فئات أو أشخاص بعينها من نطاق الحماية” التي يوفرها القانون الدولي الإنساني، مؤكداً أن “الحماية التي يوفرها القانون الدولي الإنساني في النزاعات المسلحة غير الدولية لا تتوقف على هوية المحتجز أو ملابسات احتجازه”.
وفي قضية انفصال الأطفال عن عائلاتهم، يشدد التقرير على أن “إبقاء الأطفال مع عائلاتهم هو الإجراء الافتراضي” وأن فصل الطفل عن عائلته “لا يكون قانونياً إلا في ظل ظروف محدودة ومنصوص عليها في القانون”.
التوازن بين الإنسانية والضرورة العسكرية
من أبرز القضايا التي يناقشها التقرير امتداد رقعة النزاع المسلح إلى المدن، حيث يدعو إلى “تحقيق التوازن القائم على حسن النوايا بين مبدأ الإنسانية ومبدأ الضرورة العسكرية في سير الأعمال العدائية”.
ويولي التقرير أهمية خاصة لمسألة استخدام الأسلحة المتفجرة الثقيلة في المناطق المأهولة بالسكان، والتي تسبب دماراً هائلاً. ويشيد بـ “الإعلان السياسي بشأن تعزيز حماية المدنيين من العواقب الإنسانية الناجمة عن استخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة بالسكان” الذي تم اعتماده في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 من قبل 87 دولة لحماية السكان المدنيين. ويدعو التقرير إلى إحداث تغيير عاجل في طريقة التفكير بشأن استخدام الأسلحة المتفجرة الثقيلة، مشيراً إلى أن “الإعلان السياسي” يبعث إشارة قوية مفادها أن الأطراف المتحاربة يتعين عليها تغيير طريقة تخطيط وسير الأعمال العدائية في المناطق المأهولة بالسكان”.
كما يتناول التقرير بالتفصيل مسائل حماية المرافق الطبية، والأمن الغذائي، والبيئة الطبيعية، معتبراً أن “تفسيرات القانون الدولي الإنساني القائمة على استبعاد فئات معينة تمثل مشكلة لا تقتصر على النزاعات المسلحة غير الدولية”.
تحديات التقنيات الحديثة
يستعرض التقرير التحديات التي تطرحها تقنيات الحرب الجديدة مثل العمليات السيبرانية، ومنظومات الأسلحة الذاتية التشغيل، والذكاء الاصطناعي، والعمليات العسكرية في الفضاء الخارجي.
وفيما يتعلق بالأسلحة الذاتية التشغيل، يشدد التقرير على مبدأ أساسي: “يجب على البشر تحديد مدى مشروعية الهجمات”، محذراً من أن “منظومات الأسلحة الذاتية التشغيل ستستخدم القوة مع القليل من القيود، وتتخذ قرارات تتعلق بالحياة أو الموت دون سيطرة بشرية”.
يتناول التقرير أيضاً العمليات السيبرانية ومخاطرها، خاصة عندما تستهدف البنى التحتية المدنية الحيوية. ويشير إلى أن القانون الدولي الإنساني ينطبق على هذه العمليات عندما تُنفذ في سياق نزاع مسلح وترتبط به، ويحكم آثارها، حتى لو كانت هذه العمليات في حد ذاتها لا تؤدي إلى انطباق القانون الدولي الإنساني إذا نُفذت في أوقات السلم.
ويبرز التقرير أهمية حماية وتسهيل العمل الإنساني غير المتحيز في النزاعات المسلحة، مشيراً إلى أن “الشبكة المعقدة من الجزاءات وتدابير مكافحة الإرهاب تشكل عقبات خطيرة أمام عمل المنظمات الإنسانية غير المتحيزة”. وهو يدعو إلى “توفير إعفاءات إنسانية واضحة ومحددة تستثني الأنشطة الإنسانية التي تضطلع بها منظمات إنسانية غير متحيزة، وفقاً للقانون الدولي الإنساني، من نطاق الجزاءات وتدابير مكافحة الإرهاب”.
كما يتناول التقرير التهديدات الرقمية التي تواجه المنظمات الإنسانية، مثل العمليات السيبرانية التي تخترق وتعطل نظم تكنولوجيا المعلومات، والمعلومات المضللة التي تقوض سمعة المنظمات الإنسانية وعملياتها.
يختتم التقرير بالتركيز على ضرورة “إرساء ثقافة من الامتثال للقانون الدولي الإنساني”، معتبراً أن “عدم احترام القانون الدولي الإنساني يشكل التحدي الأهم أمام حماية الأشخاص في النزاعات المسلحة”.
وهو يقدم توصيات عملية تشمل التصديق على معاهدات القانون الدولي الإنساني الأساسية، واعتماد تدابير تنفيذ وطنية، والتحقيق في انتهاكات القانون الدولي الإنساني وقمعها، والاستثمار في تعليم القانون الدولي الإنساني.
ويشير أيضاً إلى أهمية “بناء الجسور للقانون الدولي الإنساني من خلال الحوار مع الأطر الثقافية والقانونية”، وضرورة “كفالة احترام القانون الدولي الإنساني أثناء نقل الأسلحة”، مؤكداً أن “احترام القانون الدولي الإنساني وتسهيل الطريق المفضي إلى السلام” مترابطان بشكل وثيق.
يتميز التقرير بتقديم صورة شاملة عن التحديات التي تواجه القانون الدولي الإنساني في عالم متغير، مع تقديم حلول واقعية وعملية. ويبرز فيه التوازن بين الجانب القانوني النظري والجانب العملي التطبيقي. وهو يرصد رصد الهوة المتزايدة بين النصوص القانونية والممارسات الفعلية للدول وغيرها من أطراف النزاعات المسلحة. فالتحدي اليوم ليس في نقص القواعد، بل في ضعف الإرادة السياسية للامتثال لها. فاتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني أنقذت، على مدى أكثر من 75 عاماً، أعداداً لا حصر لها من الأرواح رغم الآثار المدمرة للحرب. وبالتالي فالمطلوب اليوم هو إرادة سياسية حقيقية لتطبيق هذه القواعد والحد من المعاناة الإنسانية في النزاعات المسلحة.
للاطلاع على التقرير يمكنك تحميل نسخة إلكترونية من خلال الرابط التالي على موقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر
تعليقات