ضاعفت جائحة كوفيد -19 معاناة السكان في اليمن، وظهرت الأعباء واضحة على النساء، إذ أصبحن يتحملن وطأة الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي بنسب مضاعفة مقارنة بالرجال.
في نهاية نيسان/ أبريل 2020، لم يشغل بال نسمة ع.م، 29 عامًا، سوى كيفية الذهاب إلى الطبيبة التي تتابع حالة حملها. كانت الحياة في اليمن قد دخلت في منعطف جديد مع إعلان البلاد تسجيل أول حالة إصابة بكوفيد-19 في محافظة حضرموت شرقي البلاد في الـعاشر من أبريل/ نيسان. وبعد أيام، وصل الوباء المميت إلى محافظة عدن، المدينة التي تتخذها الحكومة اليمنية عاصمة مؤقتة لها منذ قرابة ست سنوات.
نسمة، وهي سيدة شابة من المدينة الساحلية المطلة على البحر العربي، اضطرت للبقاء في منزلها رفقة زوجها وأولادها لبضعة أسابيع قبل الذهاب إلى عيادة طبية للكشف عن حالة جنينها. ولما لم تتمكن من الذهاب إلى الطبيبة التي تتابع حالتها في مديرية المعلا، على بعد حوالي 30 كيلومترًا من مقر سكنها غربي المحافظة، لجأت إلى طبيبة أخرى في الحي نفسه.
لم يُسمح لها باصطحاب زوجها أو أي من عائلتها هذه المرة، إذ فرض التباعد الاجتماعي أسلوبًا جديدًا لم تألفه حياة اليمنيين. اضطرت نسمة إلى ارتداء الكمامة وإلى الانتظار طويلًا حتى أمكنها الاطمئنان أن حالة جنينها بخير. وضعت نسمة وليدها – بعد معاناة – في أكتوبر/ تشرين الأول 2020 في خضم العودة الثانية للفيروس التاجي.
سارة
عانت سارة، 28 عامًا، هي الأخرى في حملها، كانت في شهرها الثامن. مكثت في منزلها لا تبارحه، ومن عزلتها المنزلية في محافظة لحج، شمالي عدن، تواصلت مع أكثر من طبيب. وبينما التزمت بالوقاية المنزلية وفقًا للنصائح الطبية إلا أنها لم تكن في معزل عن الاحتكاك بالمجتمع عن طريق زوجها الذي كان لا بد أن يخرج كل يوم بحثًا عن لقمة العيش.
غزة
أكملت غزة، 29 عامًا، تعليمها الجامعي في كلية الطب، وحددت موعد الزواج في النصف الأول من 2020. خطيبها ظل مغتربًا في المملكة العربية السعودية. فما إن حل الوباء بالعالم، حتى اضطربت استعدادات الزفاف. منع الفيروس العريس من القدوم إلى اليمن، كما أدت الإجراءات الاحترازية إلى إغلاق قاعات الأعراس في محافظة تعز التي تنتمي إليها. فقررت تأجيل قرانها لمدة عام. أخبرتنا أنها حزمت أمرها هذه المرة بالسفر إلى مقر إقامة زوجها في مدينة جدة السعودية، مكتفية بحفلة عائلية دون الحاجة إلى تجهيزات حفل أكبر.
حنين
ومثلها تمامًا حنين، 22 عامًا، التي حجزت تراتيب العرس قبيل كورونا. ألغيت كل الحجوزات وخسرت جزءًا من نقودها. ولما أجلت موعد زفافها إلى أجل غير مسمى رأت أن المدة طالت، وبعد أشهر قررت الاكتفاء باحتفال عائلي مصغر بمدينة عدن، وزفت إلى عريسها في محافظة مجاورة دون مظاهر الفرح المعهودة في المجتمع اليمني.
نسمة
تنقل نسمة عن طبيبتها المختصة والعاملة لدى مرفق حكومي وآخر خاص، أنها قلصت كثيرًا من دوامها إلى ثلاثة أيام فقط في الأسبوع مع السماح لعدد محدود من المرضى بتلقي الاستشارات الطبية، وتأخير مواعيد البعض الآخر. حتى في منزلها كان لديها مكان مخصص تظل فيه بعيد وصولها لأخذ التدابير اللازمة، قبل أن تلتقي أسرتها. كانت الدكتورة انتظار، وهذا اسمها، من الأطباء النادرين الذين ظلوا على حضور نسبي إبان اشتداد الجائحة التي أدت إلى انخفاض كبير في عدد العاملين في المجال الصحي.
أرقام صادمة
على امتداد زمني ما بين نهاية أبريل/ نيسان إلى يونيو/ حزيران 2020، عاشت اليمن أسوأ مراحلها الصحية التي أضيفت إلى أعباء الحرب التي لا تزال مستمرة للعام السادس على التوالي. في مدينة عدن وحدها جاءت أرقام الضحايا صادمة. ذكرت مصلحة الأحوال المدنية التابعة لوزارة الداخلية أن ما لا يقل عن ألفين ومائتي حالة شيعت إلى مثواها الأخير بفعل حميات وضيق في التنفس في إشارة ضمنية إلى الوباء.
ربع المصابين نساء
الدكتورة إشراق السباعي، وهي الناطق الرسمي باسم الهيئة العليا لمجابهة فيروس كورونا التابعة للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا، أكدت أن النساء اللاتي أصبن بالفيروس يمثلن 25 في المائة من إجمالي الأرقام المعلنة عن أعداد المصابين في المحافظات التي تسيطر عليها حكومة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي.
وأضافت لـ«الإنساني» أن الحرب المستمرة للعام السادس على التوالي أثرت كثيرًا في البنية التحتية للمنظومة الصحية في البلد، متطرقة إلى ما عانته النساء في مدينة عدن على وجه التحديد، وهي المدينة التي تتخذها الحكومة اليمنية عاصمة مؤقتة لها منذ مارس/ آذار 2015، إلى جانب عديد محافظات أخرى جراء الجائحة التي أضيفت إلى الوضع المأساوي الموجود سلفًا.
السباعي، وهي أيضًا وكيل مساعد بوزارة الصحة العامة والسكان، أوضحت أن محافظة عدن كانت الأكثر تضررًا، لا سيما في ظل الاضطراب السياسي والتحديات العميقة في إدارة الأوضاع في اليمن.
وأشارت إلى أن 70 في المائة من الكوادر والعاملين في القطاعات الصحية اليمنية هم من النساء، مؤكدة في الوقت نفسه أن وزارة الصحة عملت على تجهيز تسع عيادات نسائية لتقديم الخدمات الصحية للحوامل في الأحياء السكنية بمدينة عدن وعيادات أخرى في المحافظات، إلى جانب تعزيز مراكز الولادة بعدد من القابلات على الرغم من شحة الظروف.
وفيما تحدثت السباعي عن استطاعتهم تأمين وسائل الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة والعمليات القيصرية بدعم أممي، إلا أنها شددت على أن المرأة اليمنية باتت بحاجة إلى دعم نفسي وتمكين اقتصادي بعد أن واجهت العديد من الجوائح كالانهيار الاقتصادي والنزاع الدامي وفيروس كورونا إلى جانب بعض الحميات كالشيكونغونيا والضنك، وجائحة الأمطار غير المسبوقة التي أدت بالحكومة اليمنية إلى إعلان عدن مدينة منكوبة، نهاية أبريل/ نيسان 2020.
أسوأ أزمة
لا يزال اليمن يمثل أسوأ أزمة إنسانية في العالم، وذلك نتيجة خمس سنوات من الصراع الدامي والمرض والانهيار الاقتصادي وانهيار المؤسسات وتدمير البنى الأساسية. ويحتاج 80 في المائة من سكان البلاد – نحو 30 مليون شخص نصفهم من النساء – إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية والحماية، بما في ذلك أكثر من 12 مليون طفل، يعانون العنف والحرمان من التعليم، علاوة على معاناة مَن دون سن الخامسة منهم، من تدني خدمات علاج سوء التغذية.
وتحذر منظمات دولية من أن البلاد على شفا مجاعة بسبب التداعيات القاسية لكوفيد-19 مضافًا إليها استمرار النزاع المسلح في بلد يعتمد على الواردات بنسبة 80 في المائة من طعامه، وحيث يعيش أكثر من 70 في المائة من السكان في المناطق الريفية ويعتمدون على الزراعة لكسب عيشهم.
وفي هذا المشهد، تظهر النساء بوصفهن الخاسر الأكبر، إذ يتحملن وطأة الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي بنسب مضاعفة مقارنة بالرجال، على ما يقول خبراء.
وترسم الدكتورة هدى باسليم، وهي متخصصة بارزة في طب المجتمع والصحة العامة في جامعة عدن، صورة قاتمة لمشهد النساء في اليمن. تقول إن تأثير كوفيد-19 كبير على «المرأة اليمنية التي تعاني مرارة الحرب والنزوح، والضائقة الاقتصادية المتفاقمة. وقد أسهمت الإجراءات الاحترازية مثل إغلاق المنافذ البرية والبحرية والجوية أمام المسافرين وتقليص عدد الموظفين في القطاع العام والخاص والمختلط في ضعف المردود الاقتصادي للأسر، وعدم قدرة بعض المغتربين للسفر والعودة لأعمالهم. وقد انعكس هذا على الاستقرار المادي والنفسي للأسر، وزيادة احتمالات العنف الأسري. كما أن دور المرأة خلال هذه الأزمة قد تراجع اقتصاديًّا، بسبب تركيزها على كيفية المحافظة على أسرتها قبل كل شيء».
تحديات صحية
تضيف باسليم أن «انتشار فيروس كورونا أدى إلى عدم قدرة المستشفيات الحكومية على استقبال حالات الولادة، حيث أغلقت بعض المستشفيات أقسامها؛ نتيجة نقص الكادر الطبي؛ بعد انتشار الفيروس، حيث التزم بعض الأطباء والعاملين الصحيين منازلهم؛ خوفًا من الإصابة؛ لعدم توفر أدوات ووسائل الوقاية في مقار أعمالهم. لذا لم يكن أمام الكثير من النساء الحوامل في اليمن بعد إغلاق بعض أقسام المشافي الحكومية والخاصة، وعيادات الأطباء الخاصة؛ نتيجة كورونا، والارتفاع الباهظ للأسعار في المستشفيات الخاصة؛ سوى الاكتفاء بالولادة المنزلية؛ رغم المخاطر التي قد تتعرض لها المرأة؛ نتيجة مضاعفات الولادة والتي قد تصل إلى الوفاة».
وتابعت باسليم: «الكثير من المرافق الصحية تدمرت بتأثير الحرب وما يعمل منها ما زال يعاني الكثير من النقص في الكادر البشري والأدوات الطبية، والأدوية الخاصة بأقسام الولادة؛ مما يؤدي إلى أن الأسر تدفع تكاليف كل شيء مما يجعلهم لا يلجأون إلى المستشفى عند شعور الأم بألم المخاض على أمل أن تلد بالبيت، وفي حال تعسر الولادة يذهبون بها إلى المستشفى، وربما يصلون متأخرين فتصبح الأم أو طفلها ضحية، وتفقد الأم حياتها، أو حياتهما معًا».
والنتيجة الكارثية لهذه الأوضاع هي أن اليمن الآن مكان تموت فيه «امرأة كل ساعتين بسبب مضاعفات الحمل والولادة، ناهيك عن مخاطر الإصابة والعدوى والإعاقة»، حسبما تقول باسليم نقلًا عن تقارير أممية.
وكان صندوق الأمم المتحدة للسكان قد وثق العام الماضي الوضع الصحي الكارثي للنساء في اليمن، إذ يتعرضن لمخاطر صحية حرجة بسبب الحمل وانعدام خدمات الصحة الإنجابية الكفيلة بإنقاذهن وأطفالهن. ولتغيب «الإمكانات والمعدات والأدوية في عيادات مناطقهن الريفية، تضطر بعض النساء إلى السفر لساعات طويلة، للوصول إلى العاصمة لتلقي العناية الصحية أو لإجراء عملية ولادة قيصرية». **
مخاطر حادة
بحسب منظمة الصحة العالمية فإن «القطاع الطبي يعمل بنحو نصف طاقته، وثلث المرافق الصحية العاملة فقط تقدم خدمات الصحة الإنجابية بسبب نقص الموظفين والإمدادات وعدم القدرة على تلبية تكاليف التشغيل أو تلف المعدات بسبب الصراع»، مشيرة في بيان على موقعها الإلكتروني إلى أن «ما يقدر بـ 6 ملايين امرأة وفتاة في سن الإنجاب (15 إلى 49 سنة) يحتجن للدعم حسب تقدير صندوق الأمم المتحدة للسكان. وقد أدى ارتفاع معدلات نقص التغذية إلى إصابة أكثر من مليون امرأة حامل ومرضعة بسوء التغذية اللواتي يواجهن خطر إنجاب أطفال يعانون من توقف النمو الحاد».
غير أن المنظمة الأممية كانت أعلنت نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 أنها وشركاءها في المجال الصحي باتوا غير قادرين على مواصلة دعمهم المالي للكوادر الصحية في اليمن، بسبب النقص غير المسبوق في التمويل، وهو ما سيؤثر سلبًا على ما يصل إلى 10 آلاف عامل صحي، حسبما تضمنته تغريدة للمنظمة في حسابها على تويتر.
رقم قياسي
وقد أدى تفشي فيروس كورونا في اليمن إلى تسجيل رقم قياسي كأعلى معدل للوفاة في العالم من بين الحالات الإيجابية. فبحسب اللجنة الوطنية العليا للطوارئ لمواجهة كورونا كوفيد-19 التابعة لوزارة الصحة العامة والسكان، أصيب حتى الخامس من ديسمبر/ كانون الأول 2020: 2077 شخصًا، تُوفي منهم 606، أي ما نسبته 29%. ***
إلا أن الأعداد المعلنة لم توضح الحجم الحقيقي لانتشار الفيروس. ففي مايو/ أيار 2020 كانت الحكومة اليمنية قد أعلنت عن 85 إصابة فقط بـ كوفيد-19، تُوفي منهم حينها 12 حالة، ما دعا منظمة أطباء بلا حدود إلى القول في تغريدة لها على تويتر «نظرًا لأن القدرة على إجراء فحوصات كشف كوفيد-19 في اليمن محدودة للغاية، فمن المستحيل معرفة المدى الكامل لانتشار الفيروس».
هوامش
** صندوق الأمم المتحدة للسكان، وفاة امرأة يمنية كل ساعتين: بسبب مضاعفات الحمل والولادة وتراجع التمويل، 6 أيلول/ سبتمبر 2019، الرابط https://bit.ly/3mMdH4Y
*** الإحصائيات لا تشمل كل المحافظات اليمنية.
نُشر هذا الموضوع في عدد مجلة الإنساني رقم 67 الصادر في خريف/ شتاء 2020
تعليقات