نُشر هذا الموضوع في العدد 51 من مجلة الإنساني الصادر في العام 2011
ما الذي تفكر فيه عندما تولد في أرض ليست أرضك، وتعيش في وطن ليس وطنك؟ كيف تتكون صورة الوطن الأصلي في وعيك؟ أي حنين يمكن أن يباغتك عندما ترث ذكريات بلا أرض، هي ليست ذكرياتك أنت؟ ما الوطن لديك؟ ما صورته؟ ما كنهه؟ وأي مستقبل تتخيله لنفسك في أرض لم تطأها قدماك مطلقا؟ هذه الشهادة تحاول الإجابة على تلك الأسئلة:
جمعني لقاء اجتماعي في مدينة أبو ظبي، حيث أعيش وأعمل منذ 8 سنوات، بخمسة أوروبيين من جنسيات مختلفة ممن يعملون في مجال النشر، وحين عرف هؤلاء أنني فلسطيني بدأوا يستذكرون تباعاً ذكرياتهم في فلسطين التي زارها بعضهم سائحاً، وعمل فيها بعضهم الآخر لمدة من الزمن. صدمتني مفارقة أنني، بين هؤلاء، الوحيد الذي لم يرَ فلسطين في حياته، وشعرت بشيء من الأسى إذ تلمّست في ردود أفعال هؤلاء العفوية حين صارحتهم بهذه الحقيقة، والتي تعاملت مع الأمر بوصفه شيئاً عادياً بل بديهياً، ما دمتُ بالنسبة إليهم “لاجئاً” عشت ونشأت في لبنان، مما يضعني ضمن “فئة” مختلفة من الفلسطينيين؛ فهناك فلسطينيو “أراضي السلطة” وهناك “فلسطينيو غزة” وهناك “فلسطينيو الداخل”، أما “فلسطينيو الخارج” من أمثالي فإنهم يختزلون إلى ما يعرف سياسياً وحتى قانونياً بـ “ملف اللاجئين”.
تجد نفسك في مثل هذه الحالة مضطراً إلى خوض نقاش لغوي اصطلاحي يميّز بين “اللجوء”، على الأقل كما يُروّج له، وبين “التشرد” أو “الطرد”، وهذه الأخيرة هي المفردة التي أؤثرها شخصياً على لفظ “اللجوء” الذي ينطوي على شيء من “الاختيار”، وإن جاء ذلك تحت ظروف ضاغطة قاهرة.
كلاجئ فلسطيني منذ أكثر من ستين عاماً، أي منذ ما قبل ولادتي بعقدين ونيف من الزمن، من البديهي أن أكون أكثر ارتباطاً من الناحية الإنسانية ببلد اللجوء، أي لبنان في حالتي، ففي هذا “الملاذ” ولدت ونشأت، وفي مدارسه تعلمت، وبين مدنه تنقلت، وأناسه صادقت وعاشرت… تبقى فلسطين فكرة للحنين أو نقاشاً سياسياً يفتح من وقت لآخر، وفي أغلب الأحيان خارج منطق “العودة”، على الأقل بالمعنى الذي كنا نفهمه صغاراً – وأعني بمرحلة الطفولة هنا البراءة الجماعية والفردية في آن معاً، حين كانت قضية فلسطين ما زالت “ثورة” تجعل “الوطن” الفلسطيني على مرمى حجر منا.
فلسطين في حال اللجوء تزداد بعداً يوماً بعد يوم، مع تجذّر الأمر الواقع الذي بات أفقه بالنسبة إلى بعضهم لا يتجاوز فكرة “التسوية” أو “التعويضات” أو حتى “الاعتذار التاريخي” الذي يتضمن القبول بمعنى الملاذ/ الوطن البديل، لا الإقامة المؤقتة التي تعقبها “عودة” إلى أرض الآباء والأجداد.
أما “كمطرود فلسطيني” فإن الوطن – كما الملاذ – يتخذان معنى مختلفاً تماماً، ومعه تختلف حكماً النظرة إلى ما يسمّى الصراع الفلسطيني (أو العربي) الإسرائيلي، وأعترف أنني احتجت زمناً طويلاً لكي أنحاز تماماً إلى هذا التوصيف، بعيداً من “كل قلوب الناس جنسيتي” التي لطالما تغنينا بها صغاراً، وبعيداً من فكرة النضال لتحصيل “حقوق مدنية” في بلاد المنفى، رغم قناعتي التامة بأن فلسطين تصبح أقرب وأكثر احتمالاً، حين يحصل المطرودون على ظروف معيشية أفضل، إلا أن هذا لا ينبغي أن يكون منتهى أيّ نضال يتعلق بقضية المطرودين.
الحلّ الوحيد بالنسبة إلى من يعتبر نفسه مطروداً هو أن يعود إلى المكان الذي طرد منه، لا أن يتصالح مع المكان الذي طرد إليه، ما دام هذا الأخير ليس ملاذاً حقيقياً ولا ملتجأ بل “ملجأ” على نحو ما نصف الملاجئ في أزمنة الحرب: تلك الأمكنة تحت الأرض التي نختبئ فيها تفادياً للقصف، والتي نسارع إلى الخروج منها ما إن يتوقف القصف.
أطلت في شرح هذه النقطة فقط لكي أقول إن “الوطن” ليس فكرة ولا ينبغي أن يكون كذلك، ذلك أن الأفكار في حدّ ذاتها مغرية أحياناً إلى درجة أن تكتسي بعداً تجسيدياً مادياً، فتصبح هي الملجأ والملتجأ والملاذ، تماماً كتلك المفاتيح القديمة التي ما زال بعض المطرودين يحتفظون بها، دلالة رمزية على تلك العودة القريبة المرتجاة، في الوقت نفسه على “أثرية” هذه العودة واستحالتها. وهذا ليس بنابع بدوره من “فكرة” أو تأمل حول الوطن والمنفى وما إلى ذلك، بل هو واقع مُعاش. ولا يحتاج الأمر إلى كثير تحليل؛ حين تولد وتترعرع وتكبر في “لا وطن” تبدأ تتشكّل لديك بالفعل قناعة ما، قناعة مادية ملموسة عن ما هو الوطن. في حالة المطرود، مجدداً، الوطن هو المكان الذي طردت منه، وليس سواه، سواء أكان هذا “السواه” فكرة أو قصيدة أو أغنية أو تعاطفاً أو بلداً بديلاً.
لقد تابعت، وأتابع، الثورات المتلاحقة بشعور مختلط من الفرحة والألم. الفرحة إذ أرى شعوباً بدأت تتحرر، معيدة الصلاحية لكلمة “الثورة” في زمن الواقعية السياسية الذي بتنا ننظر فيه إلى كلمة “الثورة” ومفهومها كنوع من “الأنتيكا” البالية؛ والألم حين أرى ما آلت إليه “الثورة الفلسطينية” وذلك الأفق المسدود الذي تترنّح فيه، عاجزة حتى عن استعادة المضمون المعنوي والعاطفي لكلمة “ثورة”.
لقد طلب مني أن أكتب هنا “شهادة” عن تجربة العيش خارج الوطن، بيد أنني – في خضم ما تشهده المنطقة من أحداث وملاحم تاريخية – أجد مثل هذه الشهادة – رغم ما يمكن أن تقدمه أيّ شهادة إنسانية من تبصّر واستبصار في أحوالنا الراهنة – أجدها إذن نوعاً من الترف أو على الأقل من التأمل الذي أحسب أننا كمطرودين فلسطينيين مارسناه كثيراً على مدى العقود الماضية. فقدرة الشعوب في تونس ومصر، مثلا، على تقديم كل هذه التضحيات من أجل صنع حاضرها ومستقبلها و”وطنها”، يجب أن تعيد إلينا الأمل كمطرودين في استعادة حاضرنا ومستقبلنا، كما يجب أن تعيد إلينا الكلمة التي اشتقنا إليها كثيراً، والتي أبعدتنا عنها ضروب الواقع وسياسات الواقع وبراثن الماضي القريب المثقل بالندوب: الثورة، التي تعني في حالنا شيئاً واحداً: فلسطين.
نُشر هذا الموضوع في العدد 51 من مجلة الإنساني الصادر في شتاء 2011
تعليقات