من الأرشيف: هل تحمل سلاحا؟ نعم، … أحمل قلما

العدد 54

من الأرشيف: هل تحمل سلاحا؟ نعم، … أحمل قلما

رسم لطلاب في مكتبة بيت الحكمة مستوحاة من كتاب مقامات الحريري للرسام يحيى الواسطي، بغداد 1237

يقال إنه لا أساس معقولا لأي حرب أو نزاع مسلح. والكارثة الأكبر هي التأثيرات التي تخلفها النزاعات المسلحة، والتي لايسلم لا الأفراد ولا المجتمعات من آثارها السلبية الكثيرة. ابتليت مدينتي التي أعيش فيها بنزاع مسلح بين طرفين، يعتبر كل منهما نفسه على حق، وأنه لابد أن ينتصر. وكانت وجهة نظري ككاتب أن الجانبين كانا خاسرين، وأن الخاسر الأكبر هو نحن، المدنيين الذين لاحول لهم ولا قوة.

كان ذلك النزاع المسلح قد وصل الى ذروتة، وإحدى الجهتين المتنازعتين كانت تنوى شن هجوم كبير وحاسم على آخر معقل مستمر في المقاومة للطرف الآخر في المدينة. ومن سوء حظي أن منزلنا كان قريبا جدا من ذلك المعقل الذي كان مقررا شن الهجوم عليه. كانت الشمس قد بدأت بلملمة أشعتها وتستعد للغروب، في ما أخذ الظلام، الذى بدأ يغطي المدينة بجناحه، يدق طبول الحرب شيئا فشيئا، أما فى الساحة الكبيرة التي كانت تتوسط المدينة فلم تكن تسمع سوى أحاديث عن الحرب والقتال.

ومضى ذلك اليوم أيضا بدون صدور الصحيفة اليومية، في ما كان الكتاب يبيعون كتبهم فى المزاد، وعدد لابأس به من الموسيقيين والملحنين منشغلون بوضع الألحان للأناشيد الحربية. وكنت ترى الرسامين يبيعون اجمل وأغلى لوحاتهم بأثمان زهيدة، أما شاشات التليفزيون فلم تكن ترى فيها غير عرض كئيب لمناظر الجثث المحروقة وأسرى حرب لاتعرف ما إذا كانوا على قيد الحياة بعد أخذ صورهم أم لا، ناهيك عن مشاهد لأطفال حفاة بعيون دامعة.

فى هذه الأثناء كنت أسير باتجاه منزلنا بخطىً متثاقلة، وكانت الأفكار المشوشة تزدحم في تفكيري ومخيلتي. وفي ما كنت أسير ببطء، استوقفني مسلحون، وبصوت خشن مليء بكراهية شديدة بادروني بالسؤال: “هل تحمل سلاحا؟” أجبتهم بهدوء:” نعم”.

صاح بي أحدهم: “ضع سلاحك”، فمددت يدي إلى جيبي وأخرجت القلم الذي كان فيه، وقلت: “تفضل”. استشاط المسلح غضباً وبدأ بالصراخ علي، ولكن بصوت أعلى من السابق: “هل تسخر منا؟ من أنت؟ وماهو عملك؟”

– أنا كاتب.

أحد المسلحين قال لآخر بدا مسؤولا عنهم: هل أقتله؟

أجابه: تمهل

سألوني ثانية: إلى أين تذهب؟

– المنزل

– ولماذا تأخرت فى العودة.

– وهل تحتاج العودة إلى المنزل وقتا محددا؟

– نعم، إنها أوقات حرب.

كانت الحرب شيئا مهما، بل ومقدسا بالنسبة لهم، وعرفت السبب فيما بعد، فللحروب أيضا تجارها، وما لا قيمة له لدى تاجر الحرب هو الإنسان وحياته.

هذه المرة نظروا إلي بسخرية واستخفاف، وقال أحدهم: “هرب أغلب المقيمين في هذه المنطقة وتركوا منازلهم، فلماذا لم تهرب؟”. أجبتهم مبتسما: “أهرب من مدينتي؟ إلى أين؟”؟ وربما كان من حسن الطالع أنني فجأة لم أعد أثير اهتمامهم، فصاح بي كبيرهم بغضب، وبصوت عال: “إذهب من هنا بسرعة، هيا تحرك”. وليتهم ظهري،غير مطمئن، فربما يقرر أحدهم اطلاق النار علي من قبيل التسلية والمرح.

لم يستغرق وصولي إلى المنزل وقتا طويلا، وبدت ساعات الليل الطويلة كئيبة، وما إن آوى الأطفال إلى الفراش، وبدأ الوقت يقترب من منتصف الليل، حتى هزت أصوات القذائف والانفجارات أنحاء المكان، وعلت أصوات مختلف الأسلحة لتكسر صمت ليل المدينة الكئيب وتملأ سماءها بالدخان الأسود الذي تفوح منه رائحة الموت.

إنها الحرب، وفى ليالي الحروب تطغى أصوات الجدَات وهن يقصصن للأحفاد قصص ما قبل النوم، ويجوب القتلة الشوارع الفارغة إلا منهم، يزرعون الموت والدمار.

بدأ الوقت يقترب من الفجر، حاصرنا الرصاص والقذائف، فلم تكن تسمع غير صياح القتلة وصراخهم، وعويل الأطفال والنساء. إنها سيمفونية حزينة جدا ومخيفة في آن….

آه من هذه الليلة الطويلة!

بدأت أشعة الشمس تغسل وجه الصباح وأطل قرصها المتوهج علينا في الأفق البعيد. إنه ليس صباحا عاديا بالتأكيد، حاله كحال الليلة التي قضيناها في الخوف والقلق وانتظار المجهول. وبالفعل، كشف النهار عما حدث في الليل من جرائم: جيراننا يرتفع صراخهم وعويلهم على ابنتهم الوحيدة التي قضت على شبابها قذيفة طالت بيتهم. أما المنزل الذي كان يقع خلف منزلنا مباشرة، وكان أهله قد تركوه في اليوم السابق، للنجاة بأنفسهم، فقد تعرض للنهب والسرقة. منزل ثالث قريب من منزلنا تحول إلى أنقاض… ذلك العجوز الذي كان يسكن قريبا من منزلنا، وبقي وحيدا فى المنزل منذ يومين توفي في غرفته بصمت لعدم تلقيه دواءه… والدة أحد أصدقائي كانت قد خرجت تنتظر مجيئه قريبا من باب الدار، فبترت قذيفة يديها، وآخر…… مآس و مآس لا تحصى.

وسط هذه التراجيديا، كان هناك طفل يحمل مذياعاً، وصوت المذيع يأتي مزمجرا، وهو يقرأ بحماسة بياناً يردد فيه ما حدث من معارك في الليلة الماضية، واصفا إياها بالانتصار الكبير لقواتهم.

واليوم وبعد أن سكتت البنادق، وبعد أن بات أعداء الأمس أصدقاء على مائدة المصالح، لم نعد نسمع من طرفي ذلك النزاع المسلح الدامي من يذكرون قتلاهم أو يتذكرونهم حتى، لكن الأم التي خسرت وحيدتها مازال الاْلم يعصر قلبها.. والعجوز الذي مات في صمت لم يعد احد يتذكره.. والمنزل الذي تحول إلى أنقاض وقع ضمن الأراضي التي خصصت لمشروع سياحي… ووالدة صديقي التي بُترت يداها باتت تعتمد على حفيدتها الصغيرة لقضاء حاجاتها.

ماحدث في تلك الليلة من مآس لم يكن سوى صفحة سوداء من صفحات الحرب التي غالباً ما تكون الحقيقة أولى ضحاياها.

نُشر هذا الموضوع في العدد 54 من مجلة الإنساني الصادر في ربيع/ صيف 2012، ضمن محور العدد «عزيزي الأديب: إنها الحرب

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا