تشهد فرق اللجنة الدولية للصليب الأحمر يوميًا آثار التقاطع بين رصاص الحروب وضربات المناخ، وبين القانون الدولي الإنساني وسياسات المناخ العالمية، وبين الوعود الدولية والواقع الميداني المرير. فمنذ أكثر من ثلاثة عقود، أطلقت قمة الأرض في ريو نداءً تاريخيًا، أكدت فيه على حق الإنسان في «حياة صحية ومنتجة في انسجام مع الطبيعة». اليوم، يقف هذا الحق على حافة تحدٍ وجودي. لم يعد تغير المناخ تهديدًا بيئيًا مستقبليًا، بل أصبح واقعًا عالميًا، يقتل الملايين ويفكك أسس الاستقرار الإنساني. يحلل هذا المقال جذور هذا التحدي. ويكشف كيف تتحول فجوة الحوكمة في ما يتعلق بتطبيق القرارات البيئية إلى «هاوية» في سياقات النزاعات المسلحة. ويستعرض أهمية الحلول العملية التي يمكن أن تنقذ الأرواح إذا توفرت الإرادة السياسية.
ترسم الأدلة ملامح أزمة وجودية. فتلوث الهواء، النتاج المباشر لحرق الوقود الأحفوري، هو «الخطر البيئي الأكبر على الصحة». تسبب هذا التلوث وحده في 8.1 مليون حالة وفاة عالميًا في عام 2021. أرجع تقرير لمجلة «لانسيت» الطبية 2.52 مليون من هذه الوفيات مباشرة إلى انبعاثات الوقود الأحفوري. كما أضاف دخان حرائق الغابات 154 ألف حالة وفاة في عام 2024 وحده.
في موازاة ذلك، تحولت موجات الحر إلى «قاتل صامت». ارتفعت الوفيات المرتبطة بالحرارة المفرطة بشكل حاد، فوصلت إلى متوسط 546 ألف حالة وفاة سنويًا خلال العقد الماضي. هذا الهجوم المناخي يعيد هندسة انتشار الأمراض. إذ تخلق الظروف المتغيرة بيئات مثالية لنواقل الأمراض. فقد ارتفعت مثلاً القدرة العالمية على انتقال فيروس حمى الضنك بنسبة تصل إلى 49 في المئة منذ الخمسينيات.وتتواتر البلاغات حول حالات تفشي للكوليرا، وهي مؤشر على انهيار أنظمة المياه، في البلدان التي تواجه أزمات إنسانية معقدة فضلاً عن تغير المناخ الذي زاد الوضع سوءًا. حتى آب/أغسطس 2025، أُبلغ عن أكثر من 409 آلاف حالة.
هذه الأزمة مدفوعة بمثلث «النزاعات، والفقر، وتغير المناخ» ليست سوى العرض، أما المرض، فهو «تصدّع» عميق في الحوكمة العالمية. فبالرغم من توالي الاتفاقيات، من اتفاق باريس إلى خطط منظمة الصحة العالمية، لكنها تبدو «فسيفساء من الإيقاعات المتضاربة». إذ تُستحضر الصحة بقوة في الخطاب وتغيب تمامًا عند التنفيذ.
فجوة القانون
جذر الأزمة يكمن في مفارقة أساسية؛ الالتزامات القانونية لاتفاق باريس صارمة، بينما الالتزامات الصحية المنبثقة عن مؤتمرات الأطراف طوعية وغير ملزمة. تُنفَّذ السياسات البيئية بقوة القوانين. وتُدار السياسات الصحية بجهد المناصرة. واتفاق باريس (COP21) هو معاهدة دولية «ملزمة قانونًا». هدفه حصر ارتفاع الحرارة العالمية بأقل من درجتين مئويتين، والسعي لحصره في 1.5 درجة. عصب الاتفاق هو «المساهمات المحددة وطنيًا»، وهي خطط إلزامية يجب على كل دولة تحديثها كل خمس سنوات. توضح هذه الخطط كيف ستخفض الدولة انبعاثاتها. يضمن الاتفاق المحاسبة عبر «التقييم العالمي». هذا الهيكل يمنح وزارات البيئة أدوات تنفيذ واضحة. ويُقاس النجاح أساسًا بـ «الأطنان الكربونية المخفضة».
في المقابل، فإن الأطر الصحية طوعية. وقد أقرت جمعية الصحة العالمية «خطة عمل عالمية بشأن تغير المناخ والصحة (2025-2028) ». وهي «خارطة طريق» ممتازة لبناء أنظمة صحية مرنة. لكنها تفتقر إلى آلية تمويل ملزمة خاصة بها. كذلك، أُطلقت «خطة بيليم الصحية» في مؤتمر الأطراف الثلاثين (COP30). وهي أيضًا «إطار طوعي» يتضمن 60 بندًا محددًا. والدول «تؤيد» الخطة، لكنها غير ملزمة قانونًا بتحقيق أهدافها.
التباين في القوة القانونية هو سبب غياب التنفيذ. إلى ذلك فإن آليات تمويل المناخ مصممة هيكليًا لخدمة اتفاق باريس الملزم. وتُعامل الأطر الصحية كـ «فائدة مشتركة» مرغوبة، ولكنها ليست هدفًا أساسيًا للتمويل. وهذا يفسر التجارب الميدانية. في تشيلي، استثنى التمويل المتاح «التكيّف الصحي كليًا». وفي كينيا، «أقرت الحكومة فوائد الصحة العامة من دون تخصيص موارد لها». ما يعني أنه نظام يترك وزارات الصحة بلا أدوات سوى الإقناع.
المناخ كمضاعِف للتهديدات
تظهر التكلفة البشرية لهذه الفجوة بشكل أكبر في مناطق النزاع. فتغير المناخ هنا ليس مجرد تهديد إضافي، بل «مضاعِف للتهديدات». المفهوم الأساسي هو أن النزاع يدمر «القدرة على التكيف». يؤكد تقرير أصدرته اللجنة الدولية للصليب الأحمر عام 2020، ومن خلال عملها الميداني في أكثر من 100 دولة، على نتيجة صادمة، فغالبية الدول العشرين الأكثر عرضة لتغير المناخ تشهد حروبًا ونزاعات مسلحة. وهذا التقاطع ليس مصادفة – بل نمط منهجي تواجهه فرقنا يوميًا.
كما يكمن الخطر في أن النزاع يشل قدرة المجتمع على مواجهة الصدمات المناخية. ففي شمال مالي، كان الرعاة يتكيفون مع الجفاف عبر تغيير مسارات الرعي. الآن، يغلق النزاع هذه المسارات بسبب انعدام الأمن أو الألغام. نفس الجفاف الذي كان يمكن إدارته سابقاً، يصبح الآن كارثة مميتة.
وفي منطقة الساحل، نرى دوامة مميتة من الجفاف (المناخ) وانعدام الأمن (النزاع)، تؤدي إلى ندرة الغذاء. النتيجة المباشرة هي «سوء تغذية حاد». تشير منظمة أطباء بلا حدود إلى أن الجهاز المناعي للطفل المصاب بسوء التغذية ينهارما يجعله أكثر عرضة للأمراض مثل الملاريا. وبالتالي قد تُسجل الملاريا كسبب للوفاة، لكن السبب الجذري هو سوء التغذية الناجم عن الجفاف والنزاع معًا.
وفي قطاع غزة يظهر هذا التفاعل الخطير بوضوح بين موجات الحر الشديدة (المناخ) وتدمير البنية التحتية (النزاع). إذ لا توجد مياه نظيفة للتبريد، ولا كهرباء للمستشفيات ما يؤدي إلى اانهيار القدرة على علاج ضربات الشمس مثلاً. وفي الوقت نفسه، يخلق تدمير شبكات الصرف الصحي ظروفاً مثالية لتفشي الكوليرا. كما تشكل أزمة النزوح الدليل الأكبر على هذا الفشل مع انتقال آلاف العائلات سنويًا بسبب أحداث الطقس المرتبطة بالمناخ لينتهي بهم المطاف غالبًا في مخيمات للنازحين تفتقر للخدمات. ما يزيد بشدة من مخاطر الأمراض المعدية، كما يفاقم النزوح الضغط على المجتمعات المضيفة. تشهد اللجنة الدولية هذه الدوامة في جميع سياقات عملها. من الصومال إلى اليمن، من جنوب السودان إلى أفغانستان، يتفاعل الجفاف والفيضانات مع تدمير البنية التحتية الصحية لإنتاج أزمات إنسانية مضاعفة. وفيما يفرض القانون الدولي الإنساني حماية المرافق الطبية، لكن المناخ المتطرف يحول هذه الحماية القانونية إلى عبء تشغيلي هائل.
فجوة التمويل المناخي المزدوجة
الحلقة الأضعف في المعادلة هي التمويل. إذ لا تتجاوز حصة الصحة واحد في المئة من التمويل المناخي العالمي. لكن الكارثة أعمق. هذه الحصة الضئيلة نفسها “تفشل في الوصول» إلى مناطق النزاع. تكشف بيانات لجنة الإنقاذ الدولية (IRC) عن فجوة عميقة. سبع عشرة دولة متأثرة بالنزاع وضعيفة مناخيًا. هذه الدول تضم 70 في المئة من الاحتياج الإنساني العالمي. لكنها تتلقى 12 في المئة فقط من تمويل التكيف المناخي.
وتظهر الفجوة بشكل أوضح عند مقارنة الأفراد. إذ تتلقى الدول الجزرية الصغيرة (المستقرة نسبيًا) أكثر من 100 دولار أمريكي للفرد سنويا لتمويل التكيّف. بينما تتلقى العديد من البلدان المتأثرة بالنزاعات «أقل من دولار واحد للفرد». والسبب «عيب تصميمي» في بنية التمويل المناخي، فهذا التمويل «غير مصمم» للعمل في بيئات النزاع؛ أولًا، تتجنب الصناديق الكبرى المخاطرة مفضلة المشاريع الكبيرة في «بيئات تشغيل آمنة». وتتجنب بطبيعتها المناطق غير المستقرة أمنيًا. ثانيًا، وهو العيب القاتل، التمويل «مركزي». يتطلب موافقة الدولة المركزية (مثل خطابات عدم الممانعة). هذا يجعل تمويل المشاريع الصحية الحيوية في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة مستحيلًا عمليًا. ثالثًا، يُقدّم جزء كبير من التمويل المناخي كـ «قروض». ما يجعل الدول المثقلة بالديون والمتأثرة بالصراعات غير قادرة على تحمل «ديون إضافية»، وتجعلها بحاجة ماسة إلى «تمويل مرن وقائم على المنح».
هندسة حلول المناخ والصحة
على الرغم من هذا المشهد الحرج، بدأت الحلول بالظهور. التحول من «توصيف المشكلة» إلى «هندسة الحلول» ممكن عبر التركيز على النتائج الإيجابية الملموسة للنماذج التي بدأت في تحقيق الدمج. أحد تلك النماذج هو الإطار التشغيلي «الصحة العامة الذكية مناخيًا»، وهو إطار «يعتمد على البيانات» لكسر الصوامع التقليدية، ويهدف لربط بيانات الأرصاد الجوية ببيانات الصحة العامة. النتيجة الإيجابية المتوقعة هي التحول الجذري عبر الانتقال من «الاستجابة» بعد الكارثة، إلى «التوقع» قبلها، فبدلًا من انتظار امتلاء أقسام الطوارئ، يمكن إصدار إنذارات مبكرة فعالة.
ونرى كيف يبدو هذا الحل عمليًا في نماذج رائدة. في البرازيل، يُستخدم نظام (SISAM-Clima). أظهرت النماذج أنه باستخدام توقعات المناخ، كان يمكن «التنبؤ بنجاح بـ 81 في المئة من أوبئة حمى الضنك» قبل أشهر من حدوثها. هذا التنبؤ يوفر «رؤى قابلة للتنفيذ». يسمح بتوجيه الموارد المحدودة (مثل حملات مكافحة البعوض) إلى المناطق الأكثر خطورة قبل بدء الوباء. في إثيوبيا، يؤدي ارتفاع الحرارة لدفع بعوض الملاريا إلى المرتفعات. طور الخبراء أنظمة تربط بيانات الأقمار الصناعية (الحرارة والمطر) مع البيانات الوبائية من العيادات. النتيجة هي «توقعات متكاملة». يمكن للسلطات توجيه الناموسيات وأدوات التشخيص بشكل استباقي إلى هذه المناطق الجديدة.
في فيجي، يدمج مرفق المناخ والصحة التمويل والبيانات معًا. أدى ذلك مباشرة إلى تقييم للمخاطر لـ 204 مرفق رعاية صحية. حدد التقييم أكثر من 50 مرفقاً صحيًا عالي الخطورة (مثل العيادات الساحلية المعرضة للفيضانات). ويسمح ذلك بتحديثها أو نقلها لمواقع آمنة. ويحول النظام الصحي من ضحية سلبية للأعاصير إلى بنية تحتية قادرة على الصمود. النتيجة الإيجابية الكبرى تأتي من خفض الانبعاثات نفسه. تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن خفض الانبعاثات يؤدي إلى «مكاسب كبيرة جدًا للصحة». الانتقال عن الوقود الأحفوري سيؤدي إلى تجنب ما يقدر بـ 2.52 مليون حالة وفاة سنويًا من تلوث الهواء الخارجي وحده. هذا يربط «المناصرة» الصحية الضعيفة بـ «القانون» المناخي القوي.
وتعمل اللجنة الدولية على سد هذه الفجوة من خلال نهج متكامل. ففي العراق، تدمج برامج المياه والصرف الصحي تقنيات مقاومة للمناخ – من الطاقة الشمسية لمحطات المياه إلى أنظمة جمع مياه الأمطار المصممة لتحمل الجفاف الممتد. وفي الصومال، تربط برامج سبل العيش بين دعم الرعاة النازحين بسبب الجفاف وبين بناء أنظمة إنذار مبكر محلية. لكن هذه الجهود تصطدم بالحاجز نفسه: غياب التمويل المناخي المخصص للسياقات الإنسانية. فاللجنة الدولية تنفق ملايين الدولارات سنويًا على برامج تكيف فعلية في مناطق النزاع، لكن هذا التمويل يأتي من الموازنات الإنسانية، ليس من صناديق المناخ.
نحو عقد جديد
أزمة الحوكمة المناخية ليست في «تعدد الأطر، بل في غياب الإيقاع الذي يوحدها». ما يزال العالم يقيس النجاح المناخي «بالأطنان الكربونية المخفضة، لا بالأرواح التي يمكن إنقاذها». والفجوة أصبحت أعمق، إذ تفصل بين العالم المستقر والسياقات الهشة. إخفاقات الحوكمة التي ناقشناها ليست مجرد إخفاقات بيروقراطية. التمويل المناخي الذي «يتجنب المخاطر» والأنظمة التي تتطلب «موافقة الدولة المركزية». هذه العيوب تعني أننا نتخلى بشكل منهجي عن 70 في المئة من الحالات الإنسانية الأكثر إلحاحًا.
ردم هذه الفجوة يتطلب إعادة هندسة جذرية. أولًا، يجب أن يتحول التمويل المناخي في المناطق الهشة من «قروض متجنبة للمخاطر» إلى «تمويل مرن وقائم على المنح». ثانيًا، يجب على الصناديق العالمية إنشاء آليات تمويل مباشر. آليات تسمح بتمويل المنظمات الإنسانية والجهات المحلية الفاعلة. يجب «تجاوز» حاجز «موافقة الدولة المركزية» الذي يشل الاستجابة. ثالثًا، يجب نشر أنظمة الإنذار المبكر المتكاملة (مثل نماذج البرازيل وإثيوبيا) أولًا في الدول الأكثر هشاشة.
من ريو إلى بيليم، ظل الوعد واحدًا: حماية الإنسان هي جوهر السياسات المناخية. لكن بالنسبة للملايين الذين يعيشون تحت نيران الحرب وضربات المناخ معًا، هذا الوعد يبقى بعيد المنال. اللجنة الدولية، بحكم ولايتها الإنسانية المحايدة وقدرتها على الوصول إلى ضحايا النزاعات تؤدي دورا هاما في دعمهم في مواجهة تلك التغيرات المناخية وآثارها، غير أنها لا تستطيع أن تحل محل المسؤولية الجماعية للمجتمع الدولي. ويجب أن يُقاس النجاح المناخي ليس فقط بالأطنان الكربونية المخفضة، بل أيضًا بالأرواح المحمية في أكثر السياقات هشاشة.


تعليقات