الغياب يبدّل تفاصيل البيت: كرسيٌّ بلا صاحب، وبابٌ ينتظر طارقًا. بالنسبة لسعاد وابنتيها، دام ذلك ستّ سنوات. لم ينقطع السؤال ولا الأمل، من ليبيا إلى مصر. ثم جاءت مكالمةٌ واحدة أعادت الصوت إلى الأسماء. رتّبت خدمة إعادة الروابط العائلية إجراءاتِ التواصل، فصار اللقاء ممكنًا. هذه حكايةُ أمٍّ وابنتين أبقاهنّ الأملُ معًا رغم الفراق.
«لم أنم تلك الليلة. تمددت وأختي كالأطفال في حضن أمنا. تحدثنا وضحكنا. استعدنا الذكريات السعيدة فقط. عُدت طفلة، كأني لم أكبر قط». هكذا بدت الليلة الأولى لعهود أبو بكر، البالغة تسعة عشر عاما. التقت وأختها بوالدتهما سعاد محمد بعد فراقِ دام ست سنوات، انقطعت خلاله كل سبل التواصل، منذ الرحلة من ليبيا إلى مصر. قالت عهود وهي تبتسم وتمسح دموعها: «في الصباح شربنا الشاي معًا، ومنذ ذلك اليوم لم نفترق. نفعل كل شيء معا».
بداية الرحلة
عاشت سعاد، وهي من أصول سودانية، أربعين عامًا في ليبيا. هناك تزوجت وأنجبت أبناءها الثلاثة. عام 2018 تصاعدت التوترات الداخلية وأٌصيب ابنها الأكبر. لم تجدا بدًا من مغادرة ليبيا بحثا عن الأمان، فقررت السفر إلى مصر مع ابنتيها، عهود ودالينا. كانت الرحلة طويلة ومحفوفة بالمخاطر. توافر لديها ما يكفي لتحمل نفقات الرحلة. كانت تأمل قدرا من الأمان بعيدا عن العنف والخوف المستمر.
تقول سعاد بصوت متهدج، متذكرة يوم الرحيل: «لم نتمكن من جمع شيء. ليلًا اتخذنا القرار، وصباحًا غادرنا. استيقظت، وأوصلت ابني المصاب إلى المستشفى. عدت وأخدت بعض الضروريات، ثم تركت منزلي». كان ذلك المنزل الذي عاشت فيه أكثر من نصف عمرها.
لم يكن بحوزة الأم وبناتها سوى بعض الوثائق الشخصية والقليل من الملابس، ومستلزمات بسيطة للحياة. وكان نصيبهن قليلًا من الماء، كنزا وجب الحفاظ عليه طوال أيام الرحلة في الصحراء.
استمرت الرحلة أيامًا عدة. اضطرت الأم وابنتاها إلى السير طويلا على الأقدام. كانت البنتان في السابعة والثانية عشرة من العمر. واجتزن الصحراء بين ليبيا ومصر. قالت عهود متذكرة الرحلة: «كنا نسير ليلا، ونتجنب إظهار الضوء أو إصدار الصوت كي لا نلفت الانتباه».
تحول أسوأ كوابيس الأسرة إلى حقيقة حين سمعوا دوي طلقات نارية قريبة في الظلام. اندفع الجميع ركضًا في اتجاهاتٍ متفرقة. قالت عهود متذكرة تلك اللحظة «كانت أمي مرهقة. أمسك بعض الناس بيدي، وآخرون بيد أختي. فجأة ركضنا في اتجاهات مختلفة». كانت تلك آخر مرة اجتمعت فيها الأم وابنتاها. ليبدأ فراقٌ دام أكثر من ست سنوات.
ست سنوات عجاف
تفرقت الأسرة في أرض مصر الواسعة. بحثت سعاد عن ابنتيها بلا كلل. كما لم تكف الفتاتان عن البحث عن أمهما. ومع مرور السنين، خبا الأمل تدريجيا لدى الجميع.
تقول سعاد: «كنت أجلس فأقول لنفسي: أيمكن أن أضيع بناتي؟ وأتساءل كل مرة: هل أكلن أم جائعات؟ أهن في بيت أم في الشارع؟ لم أكن أنام ليلًا. كانت الأسئلة تلاحقني».
ومضت الليالي على الأختين بالأسئلة نفسها.
عملت عهود نادلةً في مقهى بالقاهرة يرتاده سودانيون كثر. كانت تسأل كل قادم عن أم تدعى سعاد فقدت ابنتيها في رحلتها إلى مصر. قالت: «كنت أسأل الناس، وفي كل مرة أسمع: لم نرها. حتى خِفت أن تكون أمي قد ماتت».
أما سعاد، فطافت أرجاء مصر بحثًا عن خيط يدلها على ابنتيها. قالت: «سافرت إلى السلوم والإسكندرية وأسوان. أقمت في كل مدينة أشهرًا. أبحث عن عمل أعتاش منه، وأبحث عن ابنتي في الأحياء. لكني لم أصل إلى شيء. كان بعض الناس يظنني مجنونة، ولا يصدقني أحد».
تضيف سعاد: «بعد ست سنوات، كدت أفقد الأمل في العثور عليهما. وصارت دعواتي أن يجمعني الله بهما في الجنة».
لم الشمل في 15 دقيقة
بعد أشهر قليلة من استقرارها في القاهرة، قدمت عهود طلبَ بحث لدى الجنة الدولية للصليب الأحمر بشأن والدتها. فهي ظلت تبحث عن منظماتٍ يمكن أن تعينها على معرفة مصير أمها. لكنها مع مرور الأيام والسنوات، فقدت هي أيضا الأمل في تلقي جواب.
وبعد استقرار الأم في القاهرة، اقترح عليها أحدهم مراجعة اللجنة الدولية أيضا، كمحاولة أخيرة. تقول سعاد ضاحكة: «ظننته في البداية مستشفىً. قلت لنفسي: لمَ أبحث عن ابنتي في مستشفى؟ بالنسبة لي كانت محاولةٌ أخيرة». لم تكن سعاد تتوقع نتيجة تذكر لكنها تضيف والابتسامة تعلو وجهها: «بحثت عنهما ست سنوات، ولأجدهما في خمس عشرة دقيقة!».
إعادة الروابط العائلية: المكالمة المنتظرة
حين رن هاتف عهود ليظهر رقم غريب على الشاشة، لم تتوقع أن تكون تلك المكالمة المُنتظرة منذ سنين. فقد تمكن فريق اللجنة الدولية من خلال قاعدة البيانات التي يملكها من ربط الطلبين. تماسكت عهود طوال الطريق من بيتها إلى مقر اللجنة الدولية في القاهرة. قالت لنفسها: «لا تفرحي مبكرا، قد يكون مجرد تشابه أسماء، أو خطأ في البيانات. أمك ربما ليست هناك الآن». كانت تلك طريقتها لحماية نفسها من التعلق بأمل هش . وصلت فرأت أمها. تقول عهود: «رأيتها! كانت هي أمي! تغير شكلها كثيرا، لكنها أمي!» غمرت الدموع وجه عهود، واحتضنتها سعاد طويلا حتى تصدق أن المحنة وسنوات الحرمان الطويلة قد انتهت.
خدمة إعادة الروابط العائلية
تعمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر على مساعدة العائلات التي تشتت أفرادها على البحث عنهم وتيسير الاتصال ولمّ الشمل حيث أمكن. تضطلع بهذا العمل «الوكالة المركزية للبحث عن المفقودين» التي أُنشئت عام 1870 وتشكّل هيكلًا دائمًا داخل اللجنة الدولية.
وتُقدَّم اللجنة الدولية خدمة إعادة الروابط العائلية عبر شبكة تضم بعثات اللجنة الدولية و192 جمعية وطنية للصليب الأحمر والهلال الأحمر حول العالم. وهي تيسر الاتصال بين الأفراد عبر المكالمات الهاتفية أو المرئية عند تعذّر اللقاء، وإيصال رسائل الصليب الأحمر لتبادل الأخبار، وتسجيل الوقائع مبكرًا للفئات الأكثر استضعافًا، والبحث الميداني والرقمي، والتعاون مع السلطات، والدعم المتخصص في الطب الشرعي لتحديد الهوية في حالات الوفاة.
في النصف الأول من 2025، ساهمت بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في مصر في تواصل حوالي 180 شخص مع أحبائهم المفقودين في مختلف الدول. كما أسهمت اللجنة الدولية في استمرار تواصل آلاف من مختلف الأشخاص من مجتمعات المهاجرين في مصر، في البقاء على إتصال مع ذوييهم عبر أكثر من عشر آلاف مكالمة هاتفية.
* العنوان بيت شعر من قصيدة للشاعر قيس بن الملّوح


تعليقات