نورة مراد حامو: عراقية شجاعة تعيد الحياة إلى حقول الموت

قضايا إنسانية / من الميدان

نورة مراد حامو: عراقية شجاعة تعيد الحياة إلى حقول الموت

مايك خلف/ اللجنة الدولية

كل صباح، تودع نورة مراد حامو طفلتيها بقبلة دافئة وهمسة حب قد تكون الأخيرة. تضع خوذتها الواقية، ترتدي سترتها الثقيلة، وتحمل أدواتها الدقيقة متوجهة إلى حقول تخفي تحت ترابها الموت الصامت. بينما تمضي معظم الأمهات إلى وظائف تقليدية، اختارت هذه المرأة العراقية من سنجار طريقاً استثنائياً: مزيلة ألغام في أرض مزقتها الحروب وزرعت فيها القنابل الصامتة.

بخطوات متأنية ونفس ثابت، تتحرك نورة مراد حامو بين الحقول الخطرة وعيناها تبحثان عن أصغر إشارة قد تدل على وجود لغم مدفون. أصابعها التي تحتضن أطفالها كل مساء هي نفسها التي تفكك أجهزة الموت نهاراً. تعمل بدقة متناهية تحت ضغط نفسي هائل، إذ تدرك أن أي خطأ بسيط قد يكلفها حياتها. في أعماق المناطق التي كانت يومًا ما ساحات حرب، تعمل نورة بصمت لكنها تحمل في قلبها شجاعة لا توصف.

من مواليد العام 1990، نشأت نورة في مجمع جزيرة بقضاء سنجار في محافظة نينوى بشمال العراق، واليوم، كزوجة وأم لطفلتين، اختارت مواجهة أحد أخطر التهديدات التي تتربص بالمجتمعات المتأثرة بالنزاعات: الألغام الأرضية. لم يكن قرار نورة بالعمل في إزالة الألغام مجرد خيار مهني، بل كان تحديًا شخصيًا ومجتمعيًا. عائلتها انقسمت بين الفخر والقلق، بين الاعتزاز بشجاعتها والخوف على حياتها. لكنها، وبإصرار، وضعت أمامهم حقيقة هذا العمل: هو ليس مجرد وظيفة، بل رسالة إنسانية تنقذ الأرواح.

مع بزوغ الفجر، تنطلق نورة إلى الميدان حيث يبدأ يومها مع فريقها المتخصص. يرتدون معدات السلامة، يراجعون الخطط، ثم يبدأون في البحث عن الألغام التي تهدد حياة المدنيين. التركيز هنا ليس خيارًا بل ضرورة، فخطأ واحد قد يكون قاتلًا.

مايك خلف/ اللجنة الدولية

عند العثور على لغم، تتبع نورة إجراءات دقيقة للتعامل معه بأمان. بعد ساعات من العمل المتوتر، يأتي وقت مراجعة العمليات، حيث تتأكد مع فريقها من كل خطوة لضمان تنفيذ العمل بأفضل طريقة ممكنة. تقول نورا ” طوال اليوم، أحرص على التركيز والانتباه، وأعمل بتعاون مع الفريق لتحقيق الأهداف وضمان السلامة. “

 التوازن بين الأمومة والمخاطر

العمل في هذا المجال يعني مواجهة الخوف وجهاً لوجه. مرت نورة بلحظات صعبة، لكنها وجدت في دعم عائلتها، وخاصة زوجها، سندًا يمنحها القوة للاستمرار. كل تحدٍّ واجهته منحها مزيدًا من الثقة والقدرة على مواجهة المستقبل. إذ ليس من السهل الموازنة بين مسؤوليات الأمومة والمهنة، لاسيما عندما يكون العمل محفوفًا بالمخاطر. ساعات العمل الطويلة والضغط النفسي قد يكونان مرهقين، لكن بمساندة زوجها، تمكنت نورة من إيجاد التوازن بين دورها كأم ومحترفة في هذا المجال الحيوي.

تقول نورة: “أتواصل دائماً مع عائلتي وأطفالي بشكل مفتوح وشفاف حول أهمية إزالة الألغام. شرحتُ لهم أن عملي في هذا المجال يوفر دخلًا مستقرًا لعائلتي، ويساهم في حماية الأرواح”. تؤمن نورة بأن الوعي هو السلاح الأول في مكافحة خطر الألغام. فتخبر أطفالها وعائلتها بأهمية هذا العمل وتأثيره على المجتمع، وتشرح لهم أن إزالة الألغام لا تنقذ الأرواح فقط، بل تعيد الحياة للأراضي المدمرة، وتمهد الطريق للتنمية والسلام. تقول نورة “أوضحتُ لهم أن الألغام يمكن أن تسبب وفيات وإصابات خطيرة، لذلك فإن إزالتها تقلل من هذه المخاطر، كما تتيح استخدام الأراضي بأمان، مما يسهل الزراعة، والبناء، وممارسة الأنشطة الأخرى. هو عمل يعزز الاستقرار والأمان في المنطقة، ويقلل المخاطر التي قد تواجه الأطفال أثناء ذهابهم إلى المدرسة.”

لقاء مع الناجين: درس في الإنسانية

التعامل المباشر مع العائلات التي فقدت أحباءها بسبب الألغام، أو الناجين الذين تغيرت حياتهم إلى الأبد، منح نورة رؤية أعمق لمعنى عملها. هذه اللقاءات جعلتها أكثر التزامًا برسالتها، وزادت من عزيمتها لمواصلة هذا الطريق رغم مخاطره. تقول نورة: “عندما أنظر في عيون الأشخاص الذين فقدوا أحباءهم أو أجزاءً من أجسادهم بسبب الألغام، أدرك أن عملي ليس مجرد إزالة أجسام معدنية مدفونة، بل هو استعادة للأمل. كل لغم أتمكن من إزالته يعني حياة جديدة لأحدهم، خطوة إضافية نحو مستقبل أكثر أمانًا.”

وتصف نورة أكثر اللحظات تأثيرًا في حياتها فتقول “عندما رأيت طفلًا يعود للعب في أرض كانت مليئة بالألغام، بعد أن قمنا بتطهيرها! كانت فرحته لا توصف، وشعرت حينها بأنني أؤدي عملاً لا يقدر بثمن.”

مايك خلف/ اللجنة الدولية

لم تعد نورة ترى الحياة كما كانت قبل أن تخوض غمار هذا العمل. أصبحت أكثر وعيًا بقيمة السلامة، وأكثر إيمانًا بقوة الجهود الإنسانية في تغيير الواقع. أدركت أن كل لغم تُزيله ليس مجرد قطعة معدنية مدفونة، بل فرصة لحياة جديدة.

تقول نورة: “لم أدرك من قبل كيف يمكن لشيء صغير مثل لغم أرضي أن يغير حياة شخص بالكامل. بعد رؤية الأثر الذي تتركه هذه القنابل الصامتة على العائلات والمجتمعات، تغيرت نظرتي للحياة. أصبحت أقدّر الأشياء البسيطة، وأدرك أن كل يوم نعيشه بأمان هو نعمة لا تقدر بثمن.”

وتضيف: “العمل في إزالة الألغام علمني أن الأمل لا يموت أبدًا، وأن بإمكاننا دائمًا صنع التغيير، حتى لو كان بطيئًا وصعبًا. كل لغم أزيله هو خطوة جديدة نحو مستقبل أكثر أمانًا لنا جميعًا.”

في اليوم الدولي للتوعية بخطر الألغام، رسالة من نورة أن “الألغام ليست مجرد أسلحة صامتة، إنها تهديد مستمر لكل من يسير على هذه الأرض. يجب أن نعمل معًا، أفرادًا ومؤسسات، لمنع انتشارها ودعم الجهود الرامية لإزالتها. معًا، يمكننا إنقاذ الأرواح وإعادة الأمل إلى المناطق المتضررة.”

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا