من الأرشيف: تجربة أديب عراقي في عالم المراسل الحربي

العدد 52

من الأرشيف: تجربة أديب عراقي في عالم المراسل الحربي

 

– 1 –

تماما كالتمايز الطبقي بين الفقراء والاغنياء؛ هو حال “المراسل الحربي ” في البلدان “النامية” عن نظرائه من مراسلي الدول “المتقدمة”.

وخير دليل على ذلك هو المعدات التي رأيناها بصحبة الصحفي الأجنبي الذي جاء مع القوات الأمريكية لتغطية وقائع الحرب على العراق ؛ أو الذي سبقها توقعا لما سيحدث ؛ فقد كانت تشمل كل ما يحتاجه من أبسط المعدات الى أكثرها تعقيدا وأهمها تحفيزا على الإنجاز؛ من جهاز الحاسوب إلى وثيقة ” لتأمين على الحياة” مثلا ؛ ولا حاجة لأن أذكر ما كنا نفتقد إليه في التغطية من أبسط شروط السلامة مثل” الصديرية الواقية ” أو الخوذة؛ إلى احتمال دفع كل مدخراتك للمسلحين في حالة اختطافك أو شراء سلامتك حين التهديد بالقتل .

-2-

قبل الحرب العراقية الإيرانية؛ لم تعرف الصحافة العراقية ماهو”المراسل الحربي” ومهماته في تغطية الحدث؛ وذلك لضآلة التجربة العراقية والعربية في هذا المجال بشكل عام ؛ وحتى الصحفيون العراقيون الذين قدر لهم أن يرافقوا القطعات العسكرية المشاركة في حرب تشرين؛ لم يكن لهم من دور مميز سوى نقل رسائل المقاتلين الى ذويهم أو نشر ما يقوله الناطق الرسمي عن “موجز عمليات هذا اليوم” .

ولذلك؛ حين خاض العراق حربه الطويلة مع إيران لم تكن ثمة “تقاليد صحفية” أو سوابق لمراسلين حربيين يمكن الإفادة منها ومنهم في متابعة أضخم حدث قتالي منذ الحرب العالمية الثانية؛ ولم يكن هناك مراسل حربي بالشكل الحرفي لهذا المصطلح؛ وإنما كان هناك مندوبو صحف أرسلوا الى “الجبهة” في مهمات تعبوية محددة. وكان ضباط الوحدات يتعاملون معهم بنوع من الريبة، ما يدفعهم الى محاولة إحتواء الضباط عبر كتابات تصوّر بطولاتهم ومعنويات جنودهم العالية .

أيامها كانت المؤسسة العسكرية تنظّم زيارات ميدانية للصحفيين والإعلاميين وبعض الأدباء؛ تشبه ما تنظمه الشركات السياحية من زيارات للمناطق الآثارية؛ فهي تهيّئ الدليل العسكري الذي يشرح للزائرين أهمية الموقع وتواريخ الأحداث التي جرت على أرضه؛ وبالتأكيد سيصفح عن ذكر المآسي الإنسانية التي شهدتها النفوس هنا .

– 3 –

قادني الأدب الى الصحافة؛ وكانت الحرب في ذهني حاضرة عبر كتابات الأدباء الروس أو الألمان أو الشعراء الإنجليز؛ أو أدب المقاومة الفرنسي ؛ وما زالت الصورة البشعة التي يقشعر لها البدن؛ والتي رسمها ريمارك في روايته الإنسانية الشهيرة “للحب وقت وللموت وقت” ماثلة أمامي إلى الآن : حين تذوب الثلوج وتظهر وجوه القتلى المدفونين تحتها ؛ يسيل الماء من العينين وكأنّ الجثث تبكي !!

عشرات الصور الشبيهة بهذه رأيتها من خلال تغطيتي لأحداث القتال في جبهة حربية تمتد الى أكثرمن ألف كيلو متر مربع هي الحدود القتالية بين العراق وإيران ؛ فحين تهب الرياح تظهر الجثث المنسية من حروب السنة الماضية أو التي قبلها (خصوصا تلك التي حدثت عبر اشتباك بالسلاح الأبيض)، فنجد القاتل والقتيل في لحظة عناق حميم ؛ وكأنّ الاخوة الانسانية في لحظات النزع تريد أن تأخذ صورة تذكارية أخيرة .

وما كان يحزنني – كشاعر وصحافي- أن جميع كتاباتنا لم تستطيع وقف عجلة الدم عن الدوران؛ وأن ناعور الدماء كان يدور ويدور وتدفعه رياح القتل الى ما لانهاية

وكل ما كنا نحاول أن ننقله من بشاعة وعنف وتجرد من الإنسانية ؛ لم يكن يصمد أمام نشيد حماسي أو أغنية تعبوية تجند لها المؤسسة ماكينتها الإعلامية.

من الموجع أننا نكتب وفي ذهننا الأمهات فقط ؛ ومن الموجع أكثر أن أغلبهن لا يعرفن القراءة أو الكتابة ؛ وليس لهن من مصدر إخباري يثقن به سوى قطار الجرحى الذي كانت تسيّره الدولة الى العاصمة حاملا فلذات أكبادهن .. شهودا على ما دار من همجية ورعب .

بمحض مصادفة وجدت نفسي “مراسلا حربيا” في حرب اعتقد الجميع أنها ستكون سريعة؛ بل إن أكثر المتشائمين قال إننا سنقاوم حتى لو استمرت الحرب عامين لكنها امتدت إلى ثماني سنوات ؛ قطعت التاريخ الإنساني في المنطقة وأشعلت الاقتصاد العالمي وغيرت الجغرافيا وهدمت البنيان الاجتماعي لعموم الشعب العراقي والشعب الايراني بالتأكيد ؛ لأن ليس هناك من طرف رابح في أية حرب ؛ حتى لو كانت الحرب معركة أطفال بالعصي أو الحجارة ؟

– 4 –

نجح “الادباء الصحفيون” في رسم خارطة التغطيات الصحفية أكثر من زملائهم “الصحفيين” فقط؛ لأنهم كانوا يستعينون بالقصة وبالسرد الروائي حين يريدون التحايل على الرقابة الأمنية التي تحكم قبضتها على تغطية وقائع الحرب .

سأزعم أن أول رسالة صحفية من ال”جبهة” كانت لي ؛ وقد نشرتها جريدة الجمهورية التي رافقنا مصوروها في الدخول الى منطقة نفط خانه على الحدود بين العراق وإيران من جهة ديالى ؛ لأنتقل بعدها الى الكتابة في مجلة “فنون” الأسبوعية، وأنشر فيها رسائلي الحربية طوالما يقرب من سنتين( 1980-1982) لتختار منها هيئة التحرير- فيما بعد – بحدود عشرين رسالة وتنشرها في كتاب وضعت له عنوان “إنه الوطن .. إنه القلب”.

هذه الرسائل الحربية تطورت فيما بعد إلى سلسلة مقالات أخذت بنشرها طوال السنوات من 1985 إلى 1988: “يوميات فندق ابن الهيثم” وشكلت كتابا صدر في بغداد ؛ قال عنه النقاد إنه أسس للأدب التسجيلي في العراق .

صعوبة التغطية التي عشتها ؛ وعاشها كذلك المراسلون الحربيون الذين كانوا مجندين أساسا ؛ هي افتقارنا إلى وثائق معتمدة يمكن أن تحميك في حالة التنقل بين القطعات ؛ لذلك كان علينا أن نعتمد على اسمنا أو صورنا التي تنشرها الصحف أو المجلات ؛ وكانت الأمور تزداد صعوبة في المعارك الكبرى التي تتداخل فيها قطعات الطرفين ؛ فتصدر غرف العمليات تحذيرا من الجواسيس الذين يندسون خلف الخطوط ؛ ويعرفون اللهجة المحلية وعناوين المدن والطرق الرئيسية ؛ وهكذا تعرضت للاعتقال والشك في أكثر من قاطع ؛ لحين التحقق من شخصيتي ومن أني فلان الفلاني .

– 5 –

من تجربتي الشخصية أن الكثير من الحقائق لم تكتب لحد الآن ؛ ولم يكن لأي مراسل حربي أو صحفي حرية ذكرها ؛ ولو نشرت لشكّلت عالما غرائبيا دونه عالم ماركيز أو كوابيس إدغار ألان بو. ولئن كان أكثر من 350 صحفيا قد دفعوا حياتهم ثمنا لتغطيتها، لكن قدر الكلمة أن تظل تحلم بعالم آمن يمكن أن تهتدي إليه البشرية ذات يوم.

نُشر هذا المقال في العدد 52 من مجلة الإنساني الصادر في 2011. لمطالعة العدد كاملًا، انقر هنا

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا