تعد التقنيات الرقمية – كيف تُستخدم ومن يستخدمها ضد من – من بين الحقائق «الجديدة» التي تفرض تحديات على المنظمات الإنسانية، وفي القلب منها اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وخلال السنوات الماضية، أبدى العاملون في المجال الإنساني اهتمامًا ملموسًا بالتطورات التقنية عند تصميم الاستجابات الإنسانية في مختلف السياقات.

يمكن للتحول الرقمي الكبير في عالمنا المعاصر، لا سيما وسائل التواصل الاجتماعي، أن تحسِّن حياة الأفراد والمجتمعات المتضررة من الحرب والعنف وتيسِّر جهود المنظمات الإنسانية التي تعمل على حماية هؤلاء ومساعدتهم. لكن وعلى النقيض، يمكن أن تتسبب هذه التقنيات في ظهور نقاط ضعف جديدة أو تُفاقِم نقاط ضعف موجودة. ويشار إلى هذه الظاهرة وآثارها السلبية أحيانًا باسم «المخاطر الرقمية».

وتشمل المخاطر الرقمية المواقف التي قد يتعرض فيها أفراد لأذى قد يكون جسديًّا أو نفسيًّا أو اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا بسبب استخدام تقنيات رقمية. وتشمل هذه المواقف، على سبيل المثال، الهجمات السيبرانية التي تستهدف البنية التحتية التي لا غنى عنها لإنقاذ الأرواح، وأنظمة الاتصالات، واستغلال البيانات الشخصية، والمراقبة الرقمية، والتنميط الرقمي (profiling)، والاستخدام غير المسؤول للتقنيات الناشئة، والانتشار الضار للمعلومات على المنصات الرقمية، وما إلى ذلك.

 

وفي كانون الثاني/ يناير الماضي، أعلنت اللجنة الدولية أنها كانت ضحية لـ «هجوم سيبرانيٍّ معقد»، استهدف اختراق الخوادم التي تستضيف البيانات الشخصية والسرية لأكثر من نصف مليون شخص يُوصفون بأنهم «ضعفاء للغاية». وجاءت البيانات من أكثر من 60 جمعية وطنية تابعة للصليب الأحمر والهلال الأحمر حول العالم. ولا يوجد ما يشير إلى أنه تم تسريب البيانات حتى الآن، ولكن اللجنة الدولية للصليب الأحمر اضطرت إلى إغلاق النظام الذي تستخدمه للم شمل العائلات التي شتتتها الحروب.

أحد الأنواع الرئيسية للمخاطر الرقمية التي تهتم بها اللجنة الدولية اليوم هو الاستخدام المتزايد للتقنيات الرقمية التي تزيد من انتشار المعلومات الضارة في الأماكن المتضررة من جراء الحرب والعنف. إذ يشكل انتشار الشائعات الضارة والمعلومات المغلوطة والمعلومات المضللة وخطاب الكراهية والدعاية الموجَّهة على الإنترنت تحديًا متزايدًا في البلدان التي تعمل فيها اللجنة الدولية.

ومع أن هذه الظواهر ليست جديدة، إلا أن استخدام التقنيات في نشرها يحدث أثرًا كبيرًا على النطاق والسرعة التي تصل بها هذه المعلومات إلى جماهير مستهدفة متعددة عبر الإنترنت، هذا فضلًا عن حجم تأثيرها عليهم. وهذا أمر يدعو للقلق لا سيما في السياقات التي تعاني من أزمات كالنزاعات المسلحة أو أشكال العنف الأخرى، إذ يمكن أن تؤثر المعلومات على الديناميات والسلوك في الميدان، بالإضافة إلى أنواع المخاطر ونقاط الضعف التي يتعين على المجتمعات المحلية والمستجيبين في العمل الإنساني المعنيين معالجتها.

ويشار أحيانًا إلى انتشار هذه الظواهر عبر الإنترنت باسم «تسليح المعلومات». ومع ذلك، ينطوي هذا المصطلح على إشكالية بالنسبة للجنة الدولية؛ لأن «المعلومات الضارة» لا تعتبر وسيلة للحرب من الناحية القانونية، كما أن المعلومات المغلوطة والمعلومات المضللة وخطاب الكراهية لا تعتبر أسلحة تنطبق عليها قواعد محددة من القانون الدولي الإنساني. 

المعلومات الـمُسلَّحة والعواقب الإنسانية

تستخدم اللجنة الدولية مفاهيم «المعلومات المغلوطة والمعلومات المضللة وخطاب الكراهية» للإشارة إلى أبرز أنواع المعلومات «المُسلَّحة» كمصطلح عام يمكن أن يشمل، على سبيل المثال لا الحصر: المعلومات المغلوطة، والمعلومات المضللة، وخطاب الكراهية، بالإضافة إلى عمليات التأثير المعلوماتي، والمعلومات الملغومة والدعاية الموجَّهة. وهذه المعلومات يمكن أن تُتداول من خلال الوسائل الرقمية (عبر الإنترنت) وغير الرقمية (غير المتصلة بالإنترنت). ومع أن هذه الظواهر موجودة دائمًا، إلا أن مظاهرها على الإنترنت أفضت إلى مجموعة جديدة من التحديات والأضرار المحتملة.

أما اصطلاح «العواقب الإنسانية»، فيشير إلى موجات النزوح والموت والاختفاء وخسارة الممتلكات أو تدميرها وضياع مصادر الدخل، والأذى أو الضرر الجسدي والعقلي/النفسي والاجتماعي، والوصم وتشتت أفراد الأسرة، أو الحرمان من الحصول على الخدمات (التعليم، الصحة، المأوى، الغذاء).

ويمكن أن تشمل العواقب الإنسانية أيضًا ظهور أو تفاقم الاحتياجات إلى المساعدات الإنسانية، وهي الاحتياج إلى المأوى والغذاء والمواد الأخرى والرعاية الطبية والدعم النفسي والنفسي-الاجتماعي، والدعم الاقتصادي والحصول على الخدمات والحصول على المعلومات المناسبة على المستوى المحلي وفي الوقت المناسب، والدعم والمشورة القانونيَّين والوصول إلى الإنترنت.

ويقدم «الدليل العملي بشأن المعلومات المغلوطة والمضللة وخطاب الكراهية» الذي وضعته اللجنة الدولية مرشدًا إلى معالجة بعض التحديات الرقمية التي تواجه العمل الإنساني في الميدان.

بالنسبة للجنة الدولية، فإن تداول المعلومات المغلوطة والمضللة وخطاب الكراهية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أو عبر الإنترنت عموما، في البلدان المتضررة من النزاعات يتسبب في دق جرس الإنذار حول أضرار محتملة على السكان المدنيين.

ففي كثير من الأحيان، يشير ذلك إلى وجود خطر جديد أو متزايد على سلامة وأمن السكان المدنيين وموظفي ومتطوعي المنظمات الإنسانية. و«إمكانية» الإضرار هذه قد تتجسد في انتشار المعلومات الضارة التي قد تتفاقم مخاطرها بسبب الديناميات الاجتماعية والثقافية والتاريخية الكامنة، مثل عدم المساواة والتمييز، والحكم غير الرشيد، وافتقار الناس إلى التعليم أو الأمية الرقمية، أو النظم المعلوماتية المتدهورة/ المتغيرة.

نماذج من استخدامات محتملة للمعلومات الـمُسلَّحة

• المعلومات المغلوطة: معلومات زائفة ينشرها عن غير قصد أفراد يعتقدون بصحتها أو لم يأخذوا الوقت الكافي للتحقق منها. ويمكن أن تنتشر المعلومات المغلوطة عبر الشائعات، أو عبر سلسلة من المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي ونحو ذلك.

مثال: شخص يعمل في مجال العمل الإنساني يدفع مالًا لبائع متجول مقابل زجاجة مياه. يرى أحد المارة العامل يسلم المال للبائع لكنه لا يرى زجاجة الماء بيد العامل. ويعرف هذا الشخص المارُّ أيضًا أن هذا البائع المتجول معروف بأن له صلات بجماعة مسلحة موجودة في المنطقة ويبيع المخدرات نيابة عنها. يلتقط الشخص صورة للبائع والعامل في المجال الإنساني ويرسلها إلى أقرانه، فينتشر خبر بأن العاملين في مجال العمل الإنساني يتعاملون مع بائعي مخدرات مرتبطين بجماعة مسلحة.

العواقب الإنسانية: يؤدي تدهور سمعة العاملين في مجال العمل الإنساني إلى تعرض بعضهم للمضايقات والاعتداء. ويُتهم بعضهم بدعم الجماعة المسلحة المشار إليها ويتلقون تهديدات أو يواجهون عقوبة السجن. في نهاية المطاف، يُطلب من المنظمة مغادرة البلاد وتتوقف جميع الخدمات الأساسية التي كانت تقدمها للمجتمع.

• المعلومات المضللة: معلومات كاذبة متعمدة تلفَّق و/أو تنشَر بنوايا خبيثة. ويمكن أن تندرج تحتها مصطلحات مثل الدعاية الموجَّهة و«عمليات التأثير المعلوماتي».

مثال: جماعة مسلحة ترغب في الاستئثار بنقطة توزيع مياه معينة. تعثر الجماعة عبر الإنترنت على صور قديمة لأشخاص عانوا من تسمم بسبب المياه. فتُدخِل بعض تعديلات على هذه الصور ومن ثم تنشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المراسلة وتؤكد أن هذه الصور التقطت في الوقت الحاضر في محاولة لإيهام الناس بأن المياه من هذه النقطة بعينها مسمَّمة ويجب الابتعاد عنها.

العواقب الإنسانية: يترك أفراد المجتمع المحلي نقطة توزيع المياه، لكنهم يضطرون الآن إلى تقسيم المياه المتاحة من مصادر أخرى، بل قد ينشب قتال من أجلها أحيانًا. ويقرر البعض السفر مسافات أبعد من أجل الحصول على الماء، فيصبحون عرضة للهجمات والمضايقات على طول الطريق. كل هذا يؤدي إلى تفاقم التوترات داخل المجتمع، ويؤدي إلى مشاكل في النظافة والصحة، لا سيما بين الفئات الأكثر ضعفًا.

• المعلومات الملغومة: معلومات صحيحة ولكنها تُنشَر بقصد إحداث ضرر (على سبيل المثال، تشويه سمعة شخص ما أو محاولة تأجيج التوترات الاجتماعية الموجودة بالفعل).

مثال: بعد عشر سنوات من النزاع، تجري مفاوضات على وقف إطلاق النار بين طرفين في نزاع مسلح وبدء عملية سلام. تُنظَّم انتخابات وطنية، ولكن قبل جولة الإعادة مباشرة ينشر أحد الأطراف صورًا عنيفة على وسائل التواصل الاجتماعي لمقاتلين ومدنيين أصيبوا وقتلوا أثناء الحرب. الصور حقيقية، ولكن توقيت إصدارها اختير بغرض إحداث أقصى قدر من الضرر للطرف المعارض من خلال تهييج مشاعر الناس. تؤدي الصور إلى تفاقم التوترات الاجتماعية بين مؤيدي الجانبين.

العواقب الإنسانية: تنتشر تهديدات بالعنف عبر الإنترنت، ما يدفع الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كانت الانتخابات ستُجرى أم لا. تندلع أعمال عنف على الأرض، ما يؤدي إلى إلحاق ضرر بالممتلكات المدنية وتدميرها.

• الشائعات: معلومات تنتقل بسرعة من شخص إلى آخر، غالبًا من دون التحقق من صحتها.

ربما تكون نقطة انطلاق الشائعات معلومات مغلوطة أو معلومات مضللة. وما يميزها عن غيرها هو مدى انتشارها، ما يجعل من المستحيل تتبع مصدرها والتحقق منه من أجل تقييم المصداقية.

مثال: يعتقد أشخاص في مرفق احتجاز أن مياه الشرب التي تُقدَّم للنزلاء تحتوي على مهدئات.

تُلقى هذه المعلومة على مسامع جميع الوافدين الجدد إلى مرفق الاحتجاز فور وصولهم، لكن لا أحد يعرف من أين صدرت المعلومة في المقام الأول.

العواقب الإنسانية: يحاول المحتجزون تقليل كمية المياه التي يشربونها، ما يسبب معاناة البعض من مشاكل صحية. ومع تزايد عدد المحتجزين الذين يودعون المستشفى، يبدأ آخرون في إثارة أعمال شغب، فينتقم موظفو السجن من المحتجزين بعنف شديد، ما يؤدي إلى وقوع عدد من الإصابات، بعضها خطير بل يهدد الأرواح.

أسلحة مستجدة تستلزم تطوير أساليب حماية مستجدة

تقعُ مهمة «حماية الأشخاص» المتضررين من النزاع المسلح وحالات العنف الأخرى – أي الاضطلاع بأنشطة لمصلحة الأشخاص المستحقين للحماية بموجب القانون الدولي الإنساني – في صميم مهمة اللجنة الدولية للصليب الأحمر. فقد تعيَّن على اللجنة الدولية طوال تاريخها أن تتأقلم مع الأنواع الجديدة من النزاعات وصور العنف، فضلًا عن الأسلحة ووسائل الحرب وأساليبها الجديدة، فكان عليها أن تعدِّل باستمرار أنشطتها وأساليبها حتى تستجيب للاحتياجات المتغيرة لمختلف فئات المتضررين من جراء عواقب الحرب والعنف.

هذه الاستجابة المستمرة من قبل اللجنة الدولية، أدت على الدوام إلى ظهور أنشطة حمائية جديدة، تتناسب مع أشكال التسلح الجديدة فضلًا عن التفكير والعمل المستمرَّين على تطوير وتطبيق القانون الدولي الإنساني وسياسات العمل الإنساني وبرامج العمل الإنساني والمعايير العملياتية.

ويبدو اليوم، ونحن نقف إزاء نوع مستجد من «التسلح المعلوماتي»، أنه على اللجنة الدولية أن تطور أدواتها وأساليب تدخلها لإنفاذ مهمتها التي تقع حماية الأشخاص المستحقين للحماية في قلبها.

*عرض لـ «الدليل العملي بشأن المعلومات المغلوطة والمضللة وخطاب الكراهية» الذي وضعته اللجنة الدولية مرشدًا إلى معالجة بعض التحديات الرقمية التي تواجه العمل الإنساني في الميدان. وقد نُشر في العدد 70 من مجلة «الإنساني». للاطلاع على محتويات العدد، انقر هنا. للاطلاع على العدد كاملًا، انقر هنا