كيف دخل الإسلام إلى أفريقيا-جنوب الصحراء؟ وكيف نجح في المواءمة بين تعاليمه والتقاليد الثقافية المميزة لهذه المنطقة؟ كيف أدي الامتزاج بين ثقافتين إلى نشوء ثقافة خاصة لا تمحو أسس الثقافتين الأصليتين؟ حول ذلك، حاورت “الإنساني”، في العاصمة السنغالية داكار، الدكتور بكاري سامبه المتخصص في العلوم السياسية والعلاقات العربية – الأفريقية والحركات الإسلامية.
كيف ترون العلاقة التي تربط بين الإسلام في بلدان المغرب العربي والإسلام في أفريقيا، خاصة جنوب الصحراء؟
الدين الإسلامي انتشر باعتباره دينا عالميا في العديد من بقاع المعمورة، واتخذ في تطبيقه أشكالا مختلفة، مع الحفاظ، بدافع الحرص، على ما لا يتعارض من الممارسات الاجتماعية المحلية مع تعاليم الدين الحنيف، حتى تلقى دعوته قبولا واسعا عند الناس. وتعتبر منطقة غرب أفريقيا خير مثال على ذلك، حيث بات الدين الإسلامي عنصرا مهما في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، إضافة إلى وجود العديد من الطرق الصوفية التي أصبحت همزة وصل بين الموروثات القديمة والعقيدة الإسلامية، وعملت على شرحها وتفسيرها لثقافات هيمنت عليها، لفترات طويلة، تقاليد وديانات الأجداد.
وهكذا، بات التوحيد هو الرابط التاريخي بين أفريقيا السوداء والعالم العربي. إلا أن الإسلام في أفريقيا، الذي أطلق عليه “الإسلام الأسود”، لم يقطع “الحبل السُري” الذي يربط بينه وبين “الأمة” أو “المجتمع الإسلامي”. وعلينا ألا نغفل الصلات التاريخية الفعلية التي طالما ربطت غرب أفريقيا ببلدان المغرب القريبة، عبر منطقة الساقية الحمراء وجنوب المغرب والجزيرة العربية النائية. ومنذ مطلع القرن الحادي عشر، نسجت بلاد السودان (وترجمتها الحرفية “بلاد السود”)، كما سمّاها المؤرخون العرب مثل “العمري” و”ابن بطوطة“، علاقات مع العرب من خلال التجارة، لاسيما تجارة الذهب والعبيد والصمغ العربي والملح. وربما مهد هذا “التبادل التجاري الصامت” طريق الإسلام إلى دخول غرب أفريقيا عبر جنوب المغرب.
فالإسلام انتشر إذًا من خلال التجارة التي ازدهرت أيضا بفضل الانتماء لمذهب واحد، وأصبح الدين من أهم عناصر التقارب بين جانبي الصحراء وقلص الفجوات الاجتماعية والثقافية الكبيرة بين أفريقيا السوداء والعالم العربي. والسؤال المطروح هنا هو ما إذا كانت المؤثرات القادمة من شمال الصحراء ساهمت في تغيير مصير أفريقيا- جنوب الصحراء؟ ألم يكن لها قبل الفتح الإسلامي تاريخها الخاص بها، المرتبط ببيئة محددة الملامح؟
ما الذي يميز الإسلام في جنوب الصحراء ؟
على عكس الصورة التي يعكسها المتطرفون اليوم من أن الدين هو مصدر للفرقة والخلاف، وأنه وراء نشوب الحرب، دعني أذكر أن كلمة “religion” في اللغة الفرنسية أي “دين” أصلها«religio» في اللغة اللاتينية، وتعني “ما يربط أو يمسك” الأشياء ببعضها البعض، لذا فالدين عامل مؤسس حقيقي للرباط الاجتماعي. فالتعاليم الأساسية للدين الحنيف، الذي يعتبر منذ بداياته دين المستضعفين، تحض على التكافل من خلال الزكاة والصدقة.
وترد رسالته الإنسانية في النص القرآني الكريم الذي لا يخاطب المؤمنين فحسب ولكن البشرية جمعاء، عند قوله تعالي: “يا أيها الناس” داعيا إياهم، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، إلى التضامن والتكافل، ومؤكدا على قدسية الإنسان التي تتجلى في تكريم الله له. ونحن نعرف جيدا كيف حافظ أول كيان سياسي إسلامي نشأ في المدينة المنورة على روح التعايش بين أصحاب الديانات الثلاث، المسلمين والمسيحيين واليهود، بفضل الدستور الإسلامي الذي كان بمثابة ميثاق اجتماعي يدعو إلى التسامح ونبذ العنف.
وعندما بلغت رسالة الإسلام أرض أفريقيا السوداء، كان سكانها مهيئين بالفعل لتبني قيمه، إذ لم تكن غريبة على القيم التي كانت تدعو إليها الموروثات الثقافية التي ألفوها منذ قديم الأزل. واستوعبوا رسالة الإسلام التي هي في الأصل رسالة عالمية، ساعين إلى مواءمتها مع ثقافتهم. وجاءت إعادة تفسير العقيدة الإسلامية لتعطي للثقافات الأفريقية معاني جديدة، وتكون أساسا لروح التكافل التي أضفت على الإسلام في أفريقيا جنوب الصحراء طابعا سلميا بالرغم من الأثر الذي أحدثه ظهور تيارات جديدة تنتمي لسياقات أخرى.
ويُشكل انتشار الطرق الصوفية خير مثال على التكافل الاجتماعي الذي عرفته الثقافات الأفريقية التقليدية من قبل. وهكذا لم يتبق الشيء الكثير على تلبية دعوة الإسلام لكفالة الحماية للأجنبي وقبول الاختلاف والتعايش بين الطوائف الدينية المختلفة في ظل توفر الأرضية الاجتماعية اللازمة التي تتفق والقيم التقليدية.
ومن هذا المنطلق، أقول في كثير من الأحيان، إنه لا ينبغي أن يكون للإسلام في أفريقيا دور ثانوي أو هامشي، ولكن عليه أن يوفر لبقية العالم الإسلامي بعض البدائل، لاسيما في المناطق التي تشهد العديد من الأزمات ويسكن العنف أنحاءها، في تعبير صارخ عن هزيمة إرادة السلام. ونحن نرى ذلك اليوم، عبر شبكات الجماعات الدينية التي تنشط في مجال تيسير الحوار والتقارب، والذي من شأنه أن ينعكس بالفائدة على الأزمات الحالية، مثل أزمة دارفور، حيث تقوم هذه الشبكات بدور مهم في تحقيق الوساطة. ويعد هذا شكلا من أشكال المساهمة الإيجابية التي ينبغي أن تأخذها المنظمات الدولية بعين الاعتبار لحل النزاعات وإدارة الأزمات الإنسانية.
كيف تناولت التقاليد الإسلامية في جنوب الصحراء المسائل المتعلقة بمصير أسرى الحروب، مثلا، وغيرهم من الفئات الضعيفة، كالأطفال والنساء والمسنين، في أوقات النزاعات المسلحة؟
لا تختلف روح الإسلام في جنوب الصحراء ورسالته عن تلك التي يحملها بشكل عام. لكن التقاليد الموروثة قد تضفي عليه صبغة محلية. غير أن الإسلام، بشكل عام، كفل حقوق غير المقاتل، منذ القرن السابع الميلادي، أثناء النزاعات بين سلطة الخلافة الوليدة والقبائل المجاورة، التي لم تكن تعترف به كديانة.
وبرغم ذلك، أصدر الخليفة أبو بكر الصديق أمرا لجيوشه بعدم التعرض للأطفال والنساء وكبار السن، وهي الفئات الثلاث التي يندرج تحتها غير المقاتلين والمدنيين، كما نشير إليها في عصرنا الحديث، وهذا يتفق تماما مع المبادئ المشمولة في اتفاقيات جنيف. كما أن الإسلام كان يحظر بشكل قاطع، على مستوى البيئة، تلويث المياه أو قطع الأشجار المثمرة، التي يعتمد عليها السكان في طعامهم. وأعتقد أن هذه الروح من شأنها المساعدة بشكل أفضل على ترسيخ هذه المبادئ التي لا تنتسب إلى الغرب أو الشرق، إذ إنها تحمل معاني إنسانية وعالمية، ولا يمكن لأي دين في أي ثقافة أن يدعو إلى عكسها.
نُشر هذا الحوار في عدد مجلة «الإنساني» رقم 50 الصادر في خريف 2010. للإطلاع على العدد انقر هنا
تعليقات