عانى العراق عقودًا من النزاع. وبينما لم تغب البلاد عن صدارة عناوين الأخبار، فإن معاناة العراقيين المستمرة غالبًا لا تجد طريقها إلى دائرة الضوء. يُطلعنا «جيمس ماثيوز» على تجربته في العمل في بغداد مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر (اللجنة الدولية) على مدى العامين ونصف العام الماضية.
تشير الإحصائيات إلى حجم الأزمة، لكنها لا تعبر أبدًا عن القصة الكاملة أو مشاعر الحزن البشري المجردة. فمنذ العام 2017، عاد 4.7 مليون شخص إلى ديارهم في العراق. هذا أمر يدعو إلى التفاؤل بالطبع، بيد أن هناك 1.4 مليون شخص ما زالوا نازحين من جراء القتال.
ولا يزال الكثير من العائدين يواجهون كفاحًا مضنيًا من أجل البقاء؛ فالكثير من المنازل استحالت ركامًا، وباتت الرعاية الصحية والمرافق الأساسية وحتى التعليم ترفًا لا يحلم به كثير منهم. وفي الواقع، واحد من كل عشرة عراقيين لا يزال يعتمد على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة.
وراء كل إحصائية هناك حكاية إنسان. والقصص الفردية هي التي تعلق في الأذهان. ربما كان أكثر جانب يثير دهشتي طيلة مدة مهمتي في العراق هو التنوع الواسع في أنماط تضرر الناس من جراء النزاع، وكيف أن هذه الأنماط قد لا ترصدها العين مباشرةً. وجانب آخر هو مدى استمرار هذه التداعيات حتى بعد عقود من انطفاء جذوة القتال.
هي مجرد كلمات تروم تقريب الصورة إلى الأذهان، فما من أحد يستطيع أن يحيط علمًا بحقيقة ما مر به شخص ما أو بالمعاناة لا يزال يكابدها.
الموصل
كانت معاناة سكان الموصل أكثر من غيرهم. إذ أصبحت المدينة بعد المعركة الطاحنة التي دارت عام 2017 للسيطرة عليها أثرًا بعد عين. كان حجم الدمار مروّعًا، تنطق بذلك مشاهد الكتل الخرسانية المفتتة، وبقايا المعادن الملتوية والمتفحمة، في مدينة كانت تنبض بالحياة. لن يغيب عن ذاكرتي أبدًا قيادة السيارة في شوارع خاوية على عروشها واحد تلو الآخر، وأتعجب كيف يمكن لأحدٍ أن ينجو من هذا الدمار.
أتذكر أيضًا أنني تحدثت إلى نجار من سكان البلدة القديمة، يصنع الأسرّة والطاولات والأبواب والإطارات الخشبية. اضطر في أثناء النزاع إلى بيع أدوات النجارة لشراء الطعام. وقد دُمرت ورشته بالكامل في القتال، ولم يعد بإمكانه إعالة أسرته.
المفقودون
لقد شهد العراق عقودًا من النزاع. وعادة ما تكون الندوب الجسدية التي تخلّفها الحرب مرئية، ولكن الجراح العاطفية تظل مستترة في غياهب النفس الإنسانية.
تقطّع الحرب أوصال العائلات؛ فهي تقتل وتشوه البشر وتعصف بحياتهم. ويذهب الناس في عداد المفقودين في خضم الفوضى والمعارك. وعدد الذين لا يُعرف مصيرهم في العراق من بين النسب الأعلى في العالم. إذ خلفت أربعة عقود من القتال المتتالي مئات الآلاف من المفقودين، وبالكاد توجد عائلة لم تتضرر.
لن تدرك مدى الألم وراء كل رقم إلا عندما تتحدث إلى أولئك الذين فقدوا عزيزًا لديهم.
التقيت بعائلات من جميع أنحاء البلاد تشتت شملها من جراء القتال. الرجال عادة هم من يذهبون في عداد المفقودين، وعلاوة على الألم العاطفي الهائل الذي يخلّفه فقدهم، فثمة عبء إضافي يثقل كاهل الأسرة وهو العبء المالي، إذ غالبًا ما يكون الرجل هو العائل الرئيسي للأسرة.
أخبرتنا إحدى النساء أنه بعد سنوات من اختفاء زوجها، لا تزال تجد عينيها معلَّقتين بالباب منتظرة قدومه، وكأنه سيهلّ عليها في أي لحظة.
بوادر أمل
على الرغم من الدمار الواسع، فقد رأيت أيضًا بوادر تبعث على الأمل والانتعاش. فها هم الناس يرفعون أنقاض المباني المدمّرة، والأنشطة التجارية تنهض من عثرتها، والأراضي الزراعية تعود إليها الروح من جديد.
تمكن ذلك النجار من الموصل في نهاية المطاف من إحياء ورشته بمساعدة اللجنة الدولية، بل وتوظيف بعض جيرانه. فجهود إعادة الإعمار في الموصل زادت الطلب على مهاراته في النجارة.
العراقيون من بين أكثر الشعوب التي قابلتها قدرة على الصمود. تحدثت مع أرامل يتولين إعالة ستة أو سبعة أطفال رغم كل الصعاب. والتقيت عائلات تسهر على رعاية أيتام أو تكفلهم. هذا النسيج المجتمعي الذي لا تنفصم عُراه حقًا يثير الإعجاب!
ومع ذلك، يمكن أن تهدد التداعيات الاقتصادية لجائحة كوفيد-19 بوادر الانتعاش هذه.
في دراسة مسحية أجرتها اللجنة الدولية مؤخرًا، أخبرنا 98 بالمائة من الأشخاص الذين تحدثنا إليهم أن سبل كسب رزقهم تضررت أثناء الجائحة.
وعلى الرغم من ضرورة حظر التجوال المطبق لاحتواء انتشار الفيروس، فإنه يحول دون وصول الناس إلى متاجرهم أو تزويدها بالسلع، أو زراعة أراضيهم.
ولقد واءمت اللجنة الدولية طريقة عملها لمواصلة دعم العائلات بينما تمنع انتشار الفيروس بشكل أكبر.
فعلى سبيل المثال، بدلًا من حشد الناس لتوزيع الطعام وأدوات الطهي الأساسية، أصبحنا نسلمها الآن مباشرة حيثما يقيمون.
التعافي والمصالحة
أشعر بالتفاؤل بأن العراق سيتمكن يومًا ما من التغلب على العواقب طويلة الأمد للنزاع.
ومع ذلك، ليس هناك شك في أنها ستكون عملية طويلة وشاقة. ولا شك أن إعادة الإعمار المادي والتعافي الاقتصادي شرطان أساسيان للنهوض، ولا بد من أن يحصل العراقيون على خدمات مستدامة في مجالات الرعاية الصحية ومياه الشرب، والصرف الصحي المُحسَّن والتعليم، فضلًا عن فرص كسب العيش.
بيد أن الاستقرار المستقبلي للبلد يعتمد على تحقيق المصالحة الاجتماعية ومعالجة الجراح النفسية الغائرة التي خلفها النزاع، بما في ذلك – بشكل حاسم – تقديم إجابات شافية لعشرات الآلاف من العائلات التي فقدت أقاربها.
أنا محظوظ لأني قضيت وقتًا طويلًا في العراق. لن أنسى جمال هذا البلد، ولن أنسى الشعب العراقي المضياف وحفاوة استقباله. أتذكر، وأنا أستدعي روح المؤرخ الكامنة في أعماقي، تلك الفرصة التي حظيت فيها بزيارة متحف بغداد الأثري، أحد الخيارات الترفيهية المعدودة الممكنة في المدينة، وأدهشني ثراء المعروضات الفنية التي تنتمي إلى حضارات بلاد ما بين النهرين الرائعة.
ربما في يوم من الأيام سأتمكن من العودة في أوقات أفضل.
كُتب هذا المقال في الأصل بالإنجليزية وقد نقله عبد الله حبيشي إلى العربية.
اقرأ أيضا:
كورونا تزيد من حدة المحن في عراق اليوم – تقرير
Comments