«يوم في حياة اللجنة الدولية للصليب الأحمر» هي سلسلة حوارات مع العاملين في بعثات اللجنة الدولية حول العالم. في هذه الحوارات نتعرف عن قرب على ظروف العمل الإنساني في مختلف بقاع الأرض، والتحديات التي يواجهها العاملون في الصليب الأحمر.
نلتقي في هذا الحوار مع أنور عباسي وهو يعمل في مكتب اللجنة الدولية في القدس منذ واحد وثلاثين عامًا.* حدثنا عن نفسك قليلًا؟
اسمي أنور عباسي، ولدت في الكويت عام 1965 لعائلة فلسطينية تنحدر من القدس، أنا الابن الأول للعائلة. جاء جدي لزيارتنا في الكويت وطلب من أبي أن يصطحبني لزيارة مدينتي والتعرف على عائلتي الكبيرة، في العام 1967 أغلقت الحدود بعد الحرب وبقيت في رعايته وقامت عمتي بالاعتناء بي. مرت أربع عشرة سنة قبل أن أرى أمي ثانية، أما أبي فرأيته بعد ستة عشر عامًا، كانت عائلتنا قد كبرت ورزقت بثلاثة من الإخوة والأخوات في غيابي. استمرت زياراتي لهم إلا أنني لم أترك القدس. حصلت على الثانوية العامة في العام 1982.
عملت في مجال صيانة التدفئة المركزية والأدوات الصحية في شركة خاصة في المدينة. اشتريت بعدها ثلاث سيارات نقل، وكانت النواة لعملي الخاص الذي أسسته وعملت كسائق لإحدى هذه السيارات. أنا متزوج ولديَّ من الأبناء أربعة، ابنتاي نور ونرمين وولداي قدري ومحمد، وكنيتي المحببة التي يناديني بها الجميع أبو قدري.
ما الذي دفعك للعمل في المجال الإنساني؟
يعرفني الأصدقاء بحب مساعدة الآخرين حتى أولئك الذين لا أعرفهم، أو أولئك الذين أختلف عنهم أو معهم. رأيت بأم عينَي كيف يمكن أن تؤثر المساعدة التي تقدمها اللجنة الدولية والمنظمات الإنسانية الأخرى على حياة الناس، وهذا كان دافعي للعمل في اللجنة الدولية.
كيف التحقت ببعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر ؟
مع اندلاع الانتفاضة الأولى في نهاية العام 1987 وبداية 1988 تأثرت البلاد، وساءت الأوضاع الأمنية، وتدهورت الأوضاع الاقتصادية، اضطررت لإغلاق شركتي وقمت ببيع السيارات الثلاث. وقتها كان لديَّ أصدقاء يعملون في اللجنة الدولية، وعرفت أنهم بحاجة إلى سائق فتقدمت للعمل لديهم وتم اختياري. عملت كسائق وأعمل الآن كمسؤول لسائقي اللجنة الدولية في مكتب بعثتها في القدس.
هل كنت تعرف طبيعة الأنشطة التي تضطلع بها اللجنة الدولية قبل التحاقك بها؟
كانت لديَّ فكرة عامة وكأي فلسطيني تأثرت كثيرًا ببرنامج الزيارات العائلية، وكنت أعرف أن اللجنة الدولية هي حلقة الوصل بين المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وذويهم. كما كنت أرى أثناء تجوالي تواجد طواقم اللجنة الدولية في أماكن الاحتكاك بين الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية للتوثيق أو لتقديم المساعدة للمدنيين.
متى بدأت اللجنة الدولية العمل في بلادك؟
بدأت اللجنة الدولية بالعمل في البلاد منذ العام 1948، ولكنها تواجدت بشكل دائم في العام 1967 بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية.
كيف تبدو الحياة في المدينة التي تعمل بها، ومنذ متى وأنت تعمل فيها؟
أنا محظوظ كوني أعمل في القدس الشرقية، حاضنة ذكرياتي وذكريات عائلتي، ففيها قضيت طفولتي بعيدًا عن والديَّ وكان أهلها بمثابة عائلتي . فيها تعرفت على زوجتي، ورزقت بأول فرحة (ابنتي نور). ولو حدثتكم عن القدس لقلت لكم إنها العالم مجتمعًا في بقعة صغيرة، والتاريخ تختصره حجارتها وأزقتها، والعطر يفوح من بهارات وعطارة بلدتها القديمة. لقد ترعرعت في هذه المدينة، بدأت في البحث عن عمل وبمبادرة مني في سن الرابعة عشرة، وبدأت بالفعل بعد إنهاء الثانوية العامة.
ما هو أكثر شيء تستمتع به في عملك؟
عندما أشعر أنني أعمل من أجل الناس، فأكثر ما أستمتع به مثلًا إرسال سيارة محملة بالمساعدات، لأنني أعرف الفرق الذي ستحدثه هذه المساعدة – وإن كانت قليلة – في حياة من سيتلقاها.
ما الشعار الذي تتخذه في حياتك؟
يقول المثل الفلسطيني «اعمل خير وارميه في البحر»، وهذا ما أظن أنه يجلب المحبة بين الناس.
ما هي أكثر تجربة خالدة في ذهنك خلال عملك في اللجنة الدولية؟
في أحد الأيام، طُلب مني الذهاب إلى مدينة نابلس في الثالثة فجرًا لأخذ عائلة لتزور الأب في سجن نفحة، الأم كان لديها 7 أولاد، وكان الزوج قد خضع لعملية جراحية، لن أنسى هذا اليوم ما حييت اختلطت فيه مشاعر الفرح والحزن في نفس الوقت. عملت لفترة طويلة على شاحنات اللجنة الدولية التي تقوم بحمل الأدوية إلى المستشفيات في الضفة الغربية حين اندلعت أحداث العام 2000 على مدار أكثر من 5 سنوات.
ما هي أكثر مسألة إنسانية أثرت فيك في بلادك؟
لقد عملت على مدار سنوات كسائق لشاحنات اللجنة الدولية، طفت شوارع المدن في الضفة الغربية وغزة، كنا نحمل الأدوية للمستشفيات في الضفة مع بداية الأحداث في عام 2000، والمساعدات الإنسانية لغزة، ما يؤلمني الآن رؤية شوارع القدس فارغة خاصة في ساعات المساء حيث لا يستطيع الكثيرون من الضفة وغزة المجيء إلى هنا. يؤلمني حين يسألني أبنائي كيف تبدو غزة؟ فلم يتمكن أي من أولادي من زيارتها.
ما هو أصعب يوم مر عليك خلال عملك؟
حياتنا كلها صعبة، في أحد أيام العام 2002 ذهبنا إلى نابلس لتوزيع طرود غذائية، كان يومًا شديد البرودة، غزير المطر. لاحظت سيدة طاعنة في السن تجلس على الرصيف وبجوارها الطرد الذي تسلمته. غادر الجميع وعادوا لمنازلهم قبل دخول منع التجوال حيز التنفيذ. اقتربت منها وسألتها عن سر انتظارها فقالت لي إنها نسيت عنوان منزلها، كنت أسابق الوقت وأنا أطرق الأبواب لأسأل إن كانوا يعرفون عنوانها، أوصلناها لبيتها وتأكدنا بأنها تذكرته. عدنا يومها للقدس، القيادة على الطرق الجبلية تحت المطر ليست بالأمر السهل.
نُشر هذا الموضوع في العدد 65 من مجلة «الإنساني» الصادر في ربيع وصيف 2019، للاطلاع على محتويات العدد انقر هنا ولتصفح العدد إلكترونيا انقر هنا
Comments