يستمر تردي الآثار والتداعيات الإنسانية للأزمة في سورية منذ عام 2011، حيث تخيم الانتهاكات المتكررة للقانون الدولي الإنساني على النزاع وتميزه، متراوحة بين هجمات عشوائية على المناطق الحضرية واستهداف للمدنيين والخدمات الأساسية كإمدادات المياه والرعاية الصحية إضافة إلى استخدام الأسلحة المحظورة، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
كل ذلك له عواقب وخيمة على السكان السوريين المحاصرين بين مطرقة الأطراف المتنازعة وسندانها. فالنزاع ليس قنابل وقذائف فحسب، بل أيضًا ظروف معيشية قاسية ونزوح وشح في المواد الغذائية والمياه والدواء، وغموض يخيم على مصير الأقارب المفقودين أو المحتجزين وتوقف جميع أوجه الحياة بما في ذلك تعليم جيل كامل من الأطفال السوريين. وبينما فر الكثيرون، اختار آخرون المكوث محاولين البقاء في خضم فوضى الحرب.
وأمام الاحتياجات الإنسانية الهائلة الناتجة عن النزاع، تسعى المنظمات الإنسانية كاللجنة الدولية للصليب الأحمر (اللجنة الدولية) جاهدة من أجل تقديم استجابتها. فاللجنة الدولية تمد يد المساعدة لمن هم بحاجة لها، داخل سورية حيث يعيشون في ظل ظروف شديدة الصعوبة بسبب النزاع، وخارجها لمئات آلاف اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان والعراق وغيرها. فهي توزع المواد الغذائية والمواد الأساسية الأخرى وتعيد إمدادات المياه وتدعم الخدمات الطبية في إطار شراكتها مع الهلال الأحمر العربي السوري.
وفي هذا اللقاء الذي أُجري مع السيد بيتر ماورير رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، يتحدث عن مدى تعقد النزاع المسلح في سورية وصعوبة تقديم استجابة إنسانية تتسم بالحياد وعدم التحيز في هذا السياق، وأهمية وفاء أطراف النزاع بالتزاماتها حيال السكان المدنيين.
لقد زرتم سورية عدة مرات منذ اندلاع النزاع، ماذا تقولون في ضوء مشاهدتكم هناك؟
كلما جلست إلى سلفي، يدهشني دومًا كيف كانت أهم شواغله على مدار فترة رئاسته في الفترة بين 2000 و2012 تنصب على كيفية التأقلم مع عالم القطب الواحد، تضع فيه الولايات المتحدة تفسيرًا للقانون الدولي الإنساني في العمليات القتالية التي تشارك فيها.
ومن الأمور التي قد تبدو رمزية ذات دلالة هي أن يأتي إعلان المنظمة تصنيفها للنزاع في سورية على أنه نزاع مسلح غير دولي، بعد تقلدي منصب رئيس اللجنة الدولية بأسبوعين فقط. وارتبط العديد من تجاربي في السنوات المنصرمة ارتباطًا وثيقًا بهذا النزاع. فهو البلد الذي زرته كثيرًا، والنزاع الذي تعين عليَّ متابعته عن كثب وأعرف الجهات الفاعلة فيه معرفة جيدة جدًّا. وهو أيضًا النزاع الذي مررت فيه ببعض التجارب التي لا تنسى، تراوحت بين الوقوف في وسط المنازل المهدمة والحديث مع المجموعات المسلحة، مرورًا بالاستماع إلى السكان المدنيين من رجال ونساء وأطفال لفهم معاناتهم.
وما زلت أتذكر أولى تجاربي في سورية في عام 2012 عندما تحدثت إلى نازحين داخل مبنى جديد تحت الإنشاء. قالوا لي آنذاك إنه قبل بضعة أشهر كانت سورية تشهد آفاقًا حقيقية للتنمية، صاحبتها مجموعة كبيرة من عمليات البناء المستمر. وكان التناقض صادمًا، فهذه المباني تحت الإنشاء في ضواحي دمشق أو الغوطة أو حمص قد باتت منازل مؤقتة للنازحين بدلًا من أن تكون بريق أمل في مستقبل أفضل. وكان ذلك رمزًا لما يعنيه النزاع بالنسبة للسوريين.
أزور بصفتي رئيسًا للجنة الدولية بلدانًا في حالة حرب في أنحاء العالم، وفي نهاية المطاف أقارن حتمًا بين السياقات المختلفة. ومن تجربتي في سورية خرجتُ بملاحظتين:
الأولى أن آثار المعارك الحربية الضارية كانت أكثر وضوحًا بكثير منذ بداية النزاع في سورية. وفي كثيرٍ من السياقات التي أزورها، لا يرى المرء على الفور علامات واضحة على وقوع حرب، لأن العمليات القتالية في أحيان كثيرة ليست على هذه الدرجة من الوضوح، وتكون محدودة بعض الشيء من حيث مكان وقوعها ومجالها، ومن ثمَّ، عليك أن تُمعن النظر حتى ترى آثار النزاع المسلح على الناس. على سبيل المثال، في أفغانستان التي كانت إليها رحلتي الأولى كرئيس للجنة الدولية، مظاهر الفقر واضحة جلية، لكن لا يبدو أثر واضح لمعارك واسعة النطاق. أمَّا في سورية فالوضع مختلف اختلافًا كبيرًا. فمنذ زيارتي الأولى هناك في أيلول/ سبتمبر 2012، كانت علامات النزاع المسلح وآثاره واضحة جلية من حيث الدمار الذي أصاب البنية التحتية، ونزوح السكان، وتعطُّل الخدمات الاجتماعية، والصعوبات المتزايدة في تقديم المساعدات الإنسانية.
وبالنسبة لاستجابة اللجنة الدولية في الميدان، كان التحدي الناشئ أمامنا بمرور الوقت هو كيفية تطويع مساعدتنا الإنسانية لكي تلبي احتياجات الشعب السوري بشكل أكبر. وفي زيارة أخرى للبلد أجريت في عام 2017، التقيت مع اثنين من المعلمين، وجاءت كلماتهما عن احتياجات مجتمعاتهما مليئة بالحماس. فقد قدما الشكر لي على المساعدات الغذائية التي قدمتها اللجنة الدولية، بيد أنهما أكدا على أن الأهم فعليًّا بالنسبة لهما هو إعادة فتح أبواب المدارس. كان ذلك اللقاء بمثابة تذكرة واضحة بأن الإصغاء باهتمام إلى السكان المتضررين من الحرب لفهم احتياجاتهم بشكل كامل يجب أن يكون في صميم عملنا. وبالتالي، قمنا بإدراج هذه الأولوية في الاستراتيجية المؤسسية الجديدة للجنة الدولية.
وذكَّرتني زيارة حمص بالغوطة الشرقية وغيرها من الأحياء المتضررة بالمعارك التي دارت رحاها بين الحكومة والمعارضة، ربما في منعطف حرج في قطاع العمل الإنساني هناك بسبب أبعاد الاحتياجات والقيود التي تعوق استجابتنا. ففي آذار/ مارس 2018، عندما زرت الغوطة الشرقية خلال فترة القصف الشديد، كان الدمار كاملًا. كان السكان يلوذون بالطوابق السفلية لأسابيع حاملين معهم القليل من الطعام والمياه والدواء. عجز المرضى عن الحصول على العلاج، وحرمت العائلات من تناول وجباتها والخوف من القنابل المميتة كان يقع في قلب الجميع طوال الوقت.
وتتصل ملاحظتي الثانية بالقطاع الطبي. فأثناء زياراتي الكثيرة للمنطقة أزور دائمًا تقريبًا المستشفيات أو العيادات الطبية. وفي مثال واضح على درجة الاستهانة بالقانون الدولي الإنساني في أنحاء المنطقة، رأيتُ كيف أن العيادات الطبية كانت تُضطر إلى نقل عملياتها تحت الأرض طلبًا للحماية. أول عيادة رأيتها في مثل هذا الوضع في المعضمية بالغوطة الشرقية وكانت مؤشرًا مبكرًا يبعث على القلق إلى أن مهاجمة المستشفيات لم تعد تعتبر أمرًا محظورًا.
ما هي التحديات الرئيسية التي تواجهها اللجنة الدولية من حيث استجابتها في سورية؟
التحديات بالطبع كثيرة. وأحدها هو أن كل الأطراف تمارس الأعمال الحربية على نحو ينتهك مرارًا القانون الدولي الإنساني ومبادئ التناسب والحيطة والتمييز. والنتيجة هي آثار هائلة وعميقة على المدنيين، ويُشكِّل الحجم الهائل لهذه التداعيات تحديًا جسيمًا لأي مستجيب في مجال العمل الإنساني.
نعم توجد أوضاع أزمات أخرى في العالم، ربما يكون عدد من يعانون فيها من أجل البقاء أكبر مما هو في سورية، لكن حجم الدمار هناك يجعله استثنائيًّا خارقًا للعادة. فمستويات معيشة الناس تدهورت بشدة عما كانت عليه قبل الحرب، وقد تهدَّمت مرافق البنية التحتية المادية للبلاد، بل وتمزَّقت أيضًا أوصال النسيج الاجتماعي. ما من عائلة في سورية إلا وقد تأثَّرت بهذا النزاع. وهكذا، يجب على الفاعلين في مجال العمل الإنساني أن يسألوا أنفسهم: ما هي المشكلة الحقيقية التي يجب معالجتها؟ إن ضخامة آثار الحرب والعنف هائلة لا ريب، لكن يأتي وقت يصبح فيه إحداث تغيير نوعي في أسلوب معيشة الناس أكثر أهمية من القضايا المتعلقة بحجم آثار الحرب. ومع أن الفاعلين في مجال العمل الإنساني تعوَّدوا على مواجهة أعداد كبيرة من الناس الذين نزحوا – متابعة أعدادهم وتقديم خدمات اجتماعية أساسية لهم- فإنهم واجهوا تحديات إضافية في سورية بسبب زيادة مرات فشل النظام.
فالنظام الصحي، على سبيل المثال في حالة انهيار، وأنظمة المياه والصرف الصحي والتعليم تعاني من أزمة عميقة. تعيش العائلات في حزن على ذويها المفقودين أو المحتجزين، ويشب الأطفال دون معرفة أن هناك حياة خالية من الحروب. وبحسب فرق اللجنة الدولية، فإن من بين الآثار التعيسة للحرب على أطفال سورية التوتر النفسي والعنف والقسوة والإصابات وبتر الأطراف. سيحتاج هؤلاء الأطفال إلى رعاية طويلة الأجل لاستعادة صحتهم البدنية والعقلية. ودعونا لا نغفل أن أطفال وعائلات المقاتلين الأجانب الذين تزورهم فرقنا يستحقون إنسانيتنا.
ويكمن تحدٍ آخر في حقيقة أنه منذ البداية، كان هذا واحدًا من النزاعات التي حظيت بأكبر قدر من الدعاية والتغطية الإعلامية وأكثرها تسييسًا التي عملت فيها اللجنة الدولية. ولذلك، كان من الصعب للغاية إجراء مفاوضات لإتاحة حيز محايد وغير متحيز للعمل الإنساني، يمكننا فيه العمل بالقرب من الناس، وتقديم المساعدات الإنسانية التي يحتاجون إليها. وذلك لأن كل نشاط إنساني في سورية كان مرتبطًا ارتباطًا مباشرًا بالأجندات السياسية للأطراف الفاعلة المنخرطة في النزاع – ليس الأطراف الفاعلة السورية وحدها، وإنما أيضًا أطراف إقليمية ودولية.
ومنذ أيامه الأولى، أثار هذا النزاع أزمة سياسية دولية كبيرة، وكانت له آثار وتداعيات إنسانية هائلة، وينطوي على تحديات مُعيَّنة للأطراف الفاعلة في مجال العمل الإنساني: تحديات فنية بسبب اتساع نطاق الحرب، وقوة تأثيرها على السكان السوريين، وتحديات تتعلق بالاتصالات بسبب وضوح أبعادها، وتحديات سياسية بسبب الترابط الفريد بين القضايا الإنسانية والسياسية ذات الصلة. وكان المفهوم التقليدي للفصل بين الأبعاد الحيادية والإنسانية والسياسية يصعب كثيرًا تحقيقه والتحكُّم فيه في سياق تكون فيه القضايا الإنسانية مطروحة في نفس الوقت على جدول أعمال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والاجتماعات الثنائية للقوى الكبرى في جنيف والآستانة.
إننا نواجه الآن التحديات التالية: سيتعيَّن على المجتمع الدولي أن يجيب على أسئلة عن إعادة إعمار سورية على الأمد الطويل، وما يترتب عليه من انعكاسات وتداعيات سياسية، وفي الوقت ذاته سيكون على الأطراف الفاعلة في مجال العمل الإنساني الاستجابة للاحتياجات الملحة للناس، ومساعدتهم على العيش في كرامة وهم يحاولون إعادة حياتهم إلى مسارها الطبيعي. وأكثر احتياجاتهم إلحاحًا وهم يحاولون أن يفعلوا هذا، لا يمكن أن تنتظر حتى التوصل إلى توافق سياسي. ولذلك، فإننا نعمل لدعم السكان في سعيهم لإعادة بناء منازلهم ومرافق بنيتهم التحتية الأساسية، وفي إيجاد وظائف وفرص اقتصادية، وفي البحث عن ذويهم وأقاربهم المفقودين، وفي تذكير السلطات بواجباتها نحو مواطنيها.
وسيتعين علينا معالجة التبعات الإنسانية الناجمة عن بعض الآثار المدمرة للحرب الحضرية في سورية – على غرار ما قمنا به في كل من الموصل وصعدة وغزة. ولن تكون الاعتبارات السياسية هي المحرك لعملنا بل سيستند إلى تقييم مستقل ونزيه للاحتياجات الإنسانية للأفراد والمجتمعات.
يقودنا هذا إلى مبادئ الحياد وعدم التحيز والاستقلال في العمل الإنساني. لقد تعرَّضت اللجنة الدولية فيما مضى لانتقادات لعملها انطلاقًا من أراضٍ تسيطر عليها الحكومة. فكيف يمكنكم التوفيق بين الحاجة إلى التعامل مع الحكومة السورية من ناحية، والمبادئ الأساسية للجنة الدولية من ناحية أخرى؟
لقد ساعدت المبادئ الأساسية اللجنة الدولية على الحفاظ على حيادها في تعاملها مع المتحاربين، ولدينا سجل أداء موثوق به في سورية وخارجها. وفي الوقت ذاته، علينا أن ندرك أنه ليست كل الأطراف الفاعلة لديها الرغبة والاستعداد للتعامل مع اللجنة الدولية، على الرغم من نهجنا القائم على المبادئ في التعامل مع كل الأطراف المعنية. ومن الواضح أننا عجزنا عن التغلُّب على رفض التعامل معنا في كل الحالات.
وحيثما غابت الرغبة المتبادلة في التعامل، واجهنا مأزقًا: فإمَّا أن نفعل ما في وسعنا مع أولئك المتحاربين الذين يتعاملون معنا، أو أن نختار عدم التعامل على الإطلاق. وفي بعض الحالات الحرجة، ومن أجل إنقاذ الأرواح، قررنا مواصلة العمل مع أحد الأطراف في غياب الاستعداد من الطرف الآخر، ولكننا لم نتخلَّ قط عن جهودنا أو استعدادنا للتعامل مع جميع الأطراف، والفوز بـ”رخصة للعمل” في كل الأماكن التي تضرر فيها الناس من النزاع.
وتُبيِّن الأزمة السورية أيضًا البيئة القانونية للعمل الإنساني اليوم – اتفاقيات جنيف، وقرار الأمم المتحدة 46/182 بشأن “تعزيز تنسيق المساعدة الإنسانية التي تقدمها الأمم المتحدة في حالات الطوارئ” الذي يضع الأنشطة الإنسانية في سياق سيادة الدولة. وبموجب القانون الدولي الإنساني، لا يوجد حق غير مقيد في الوصول بالنسبة للمنظمات الإنسانية. ويجب عليها السعي للحصول على موافقة الدولة التي تنوي أن تنفذ على أرضها أنشطتها الإنسانية.
فالسيادة هي الإطار الذي قرر المجتمع الدولي أنه يريد أن تتحدَّد من خلاله الأنشطة الإنسانية. بيد أن القانون الدولي الإنساني يُقِيم توازنًا دقيقًا بين مصالح الأطراف والضرورات الإنسانية. فهو لا يُعلِي تمامًا سيادة الدولة حينما يتعلق الأمر بالأنشطة الإنسانية. ففي بعض الظروف يتعيَّن أن تعطي الدولة المحاربة موافقتها للمنظمات الإنسانية المحايدة – على سبيل المثال حينما لا يتم تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان، ولكن يجب إيضاح مضمون هذه الظروف ومداها.
وعلى الرغم من أن لدى اللجنة الدولية تفويضًا بأداء رسالتها على نحو يتسم بالحياد وعدم التحيز والاستقلال، وأن ذلك التفويض ممنوح لها بموجب اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، التي يجب على جميع الدول الالتزام بها، فإننا كمنظمة يجب علينا – مع ذلك – الحصول على موافقة الدولة إذا كنا نريد العمل في أراضيها، وأن يكون بمقدورنا تقييم أثر عملياتنا بوجه عام حيثما نقوم بها في مناطق خارج سيطرة الحكومة.
وكما نعلم، تمنح اتفاقيات جنيف اللجنة الدولية رخصةً للتعامل مع جميع أطراف النزاع، ومنهم فاعلون من غير الدولة في مناطق خارج سيطرة الدولة. ولكن في التطبيق العملي، مع أننا نسعى دائمًا للحصول على توافق الأطراف، فإن الواقع هو أنه في أغلب الأحيان لا يتحقَّق توافق الأطراف المعنية.
ومن الناحية النظرية، يمكنك دائمًا انتقاد النظام الذي لا تحصل فيه المنظمات الإنسانية بشكل تلقائي على حق الوصول بلا قيد، لكن هذا ما اصطلح عليه المجتمع الدولي. إنَّني أُدرِك جيدًا أن بعض المنظمات قررت العمل في أراضٍ تسيطر عليها مجموعات مسلحة من غير الدولة دون الحصول على موافقة الحكومة السورية، وأنها تقوم بأنشطتها انطلاقًا من بلدان مجاورة وبدون رخصة من هذه البلدان المجاورة. وندرك أيضًا أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بذل جهودًا للتخفيف من المشكلات في اتخاذ قرارات بشأن الإجراءات الخاصة بالعمليات عبر الحدود التي تنطبق على وكالات الأمم المتحدة وشركائها في التنفيذ وحدهم. ولكن في نهاية المطاف، لم يؤدِّ أي من هذه الجهود حقًّا إلى تغيير طبيعة التحديات التي نعمل في ظلها اليوم، والتي تجعل بعض السكان خارج نطاق الخدمات الإنسانية للجنة الدولية.
وقد أكَّدت السنوات القليلة الماضية أن خير سبيل ممكن هو التعامل مع الحكومة السورية، لأننا بذلك استطعنا على نحو متزايد عمل الكثير من أجل كل السوريين، ومنهم أولئك الذين يعيشون في الجانب الآخر من خطوط المواجهة، وكسبنا إمكانية الوصول إلى سكان يعيشون تحت سلطة وسيطرة المجموعات المسلحة، وفي الوقت نفسه حافظنا على موافقة الحكومة السورية وثقتها فينا.
وفي العامين الأخيرين، زدنا بدرجة كبيرة عملياتنا على جانبي خطوط المواجهة، ولكنها لم تصل بعد إلى الحد الذي نريده. وبهذا المعنى، أنا أعلم أن بناء توافق والتفاوض على جانبي خطوط المواجهة لنتمكن من العمل في الجانبين أمر يستغرق وقتًا طويلًا، ولكنه مفهوم ينطبق إلى حد كبير على اللجنة الدولية، مفهوم لا يمكننا بسهولة تجاهله واستبعاده.
لقد حاول المجتمع الدولي إيجاد حل لهذه المعضلة. وفي الخمسة عشر عامًا الماضية أو نحو ذلك، أُجرِي الكثير من المناقشات بشأن مفاهيم مثل المسؤولية عن توفير الحماية، وتنفيذ أنشطة إنسانية، ومحاولات تعريف الحد الفاصل الذي يتاح بعده للدول والمنظمات الدولية الاستجابة للأزمات الإنسانية المهمة دون الحصول على موافقة دولة الإقليم. وتكمن المشكلة في أن هذه المناقشات المفعمة بالحيوية لم تتبلور في شكل معايير قانونية معترف بها ومتفق عليها، وهو ما يُفسِّر غياب التوافق في هذه المسألة داخل المجتمع الدولي.
وأجبرت الأزمة في سورية وغياب استجابة كافية لاحتياجات السكان السوريين، الأطراف الفاعلة في مجال العمل الإنساني والساحة السياسية على التفكير مليًّا للوقوف على ما يعيب النظام في جوهره. ومع أن كثيرين يتفقون على أن النزاع وآثاره ألحقت بالمدنيين أضرارًا بالغة لا يمكن قبولها، فإنه لا يوجد قبول يذكر داخل المجتمع الدولي في الوقت الحالي للانخراط صراحةً في السبل الأخرى لتقديم مساعدات إنسانية في غياب موافقة دولة الإقليم.
تؤدي اللجنة الدولية الكثير من أنشطتها في سورية في شراكة مع الهلال الأحمر العربي السوري هل لكم أن تشرحوا أدوار جمعية الهلال الأحمر العربي السوري وغيرها من الجمعيات الوطنية التي قد تنشط في سورية، والاتحاد الدولي للجمعيات الوطنية للصليب الأحمر والهلال الأحمر واللجنة الدولية – لا سيما للذين هم أقل دراية بالحركة الدولية؟
كان أحد الجوانب التي تميَّز بها الوضع في سورية هو قرار الحكومة السورية أن تكون جمعية الهلال الأحمر العربي السوري مؤسسة تابعة للحكومة، ومُنسِّقًا للمساعدات الإنسانية الدولية لسورية في آنٍ واحد. كان ذلك قرارًا سياسيًّا.
بوسع المرء دائمًا أن يسأل هل كان قرارًا حكيمًا أم لا، لكن من ناحية كونه قرارًا سياسيًّا، فإنه ساهم في تشكيل واقع العمل الإنساني منذ بداية النزاع. لقد أعطى هذا الإطار جمعية الهلال الأحمر العربي السوري سلطة تنسيق جميع المساعدات الدولية التي تدخل البلاد، ومن ذلك ما يدخل عن طريق منظومة الأمم المتحدة والحركة الدولية والمنظمات غير الحكومية. وهكذا، ليس كوننا عضوًا في الحركة الدولية هو السبب الوحيد في أننا نعمل على هذا النحو مع الهلال الأحمر العربي السوري.
وما من شك في أننا نُفضِّل – كما هي الحال في أي مكان آخر في العالم – إعطاء أولوية للعمل مع جمعية وطنية قدر استطاعتنا. وعندئذ سنعمل لتقسيم العمل حتى تُغطِّي الجمعية الوطنية احتياجات مُعيَّنة، وأمَّا المكون الدولي من الحركة فيتولَّى تغطية بعض الأنشطة المهمة الأخرى. وبوجه عام، هذه هي الطريقة التي نعمل بها في معظم السياقات، ولكن لا أعرف سياقًا آخر كانت فيه الجمعية الوطنية بوصفها شريكًا في الحركة الدولية مؤسسة تابعة للحكومة، وأيضًا المُنسِّق الرئيسي للمساعدات الإنسانية الدولية.
ويخلق هذا وضعًا يجري فيه تقديم الكثير من مساعداتنا بالتعاون مع جمعية الهلال الأحمر العربي السوري، كما هي الحال في الكثير من مساعدات الأمم المتحدة. وفي التطبيق العملي، كان هناك أيضًا مستوى من الثقة أُرسِي بين اللجنة الدولية والهلال الأحمر العربي السوري، وبفضله كانت اللجنة الدولية قادرة على العمل وحدها في حالات مُعيَّنة، كما كان الهلال الأحمر العربي السوري قادرًا على العمل في قضايا مُعيَّنة. ويصدق هذا – على سبيل المثال – على أماكن الاحتجاز التي لا يكون فيها الهلال الأحمر العربي السوري حاضرًا.
ودور جمعية الهلال الأحمر العربي السوري كهيئة قائمة على تنسيق المساعدات الإنسانية في سورية هو جزء من التعقيد وكذلك من الطبيعة الخاصة التي يتميَّز بها الوضع السوري. وفي سياقات أخرى، تضطلع بدور منسق المساعدات الإنسانية، الدولة أو وكالة تابعة للدولة، أو يُترَك لمنظومة الأمم المتحدة. وفي سورية، اضطررنا للتكيف مع الوضع الخاص هناك. وفي الوقت نفسه، أصبحت اللجنة الدولية وجمعية الهلال الأحمر العربي السوري تعتمدان بعضهما على بعض: فكما لا يمكننا العمل بدون موافقة الهلال الأحمر العربي السوري، وقبوله، وتعاونه، فإن الهلال الأحمر لا يمكنه تغطية احتياجات الناس بدون التعاون مع منظومة الأمم المتحدة والحركة الدولية.
ويخلق هذا سلسلة من التحديات من حيث منْ له تعريف مضمون المساعدات الإنسانية المحايدة وغير المتحيزة على وجه الدقة، ويثير أسئلة أخرى مثل: هل قافلة المساعدات التي يسلمها الهلال الأحمر العربي السوري نيابة عن الأمم المتحدة – مع امتثاله لقواعد ومبادئ مختلفة – هل تختلف عن قافلة يقوم بتسليمها الهلال الأحمر العربي السوري بدعم من اللجنة الدولية.
لقد شهدت الحرب في سورية انتهاكات لبعض من أهم المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني مثل الهجمات على الهلال الأحمر العربي السوري ومنظمات إنسانية أخرى، وعلى الرعاية الصحية، واستخدام الأسلحة الكيماوية. فهل تستطيع اللجنة الدولية بصفتها الحارس للقانون الدولي الإنساني أن تستجيب؟ بصفتكم رئيسًا للجنة الدولية، ما رأيكم في هذه الظاهرة المأساوية؟
كانت الاستجابة في سورية لفترة من الوقت، تقتصر إلى حد كبير على حالات الطوارئ، ولذا لم يكن بمقدور اللجنة الدولية دائمًا تنفيذ أنشطتها للوقاية والحماية بالقدر الذي تريده.
يتمثَّل النهج المعتاد للجنة الدولية دائمًا في التواصل مع جميع حملة السلاح من أجل إتاحة تدريبهم في مجال القانون الدولي، واستعراض أنشطتهم وعملياتهم القتالية، وصولًا إلى تحسين سلوكياتهم الميدانية واحترامهم له في النهاية. هذه الجهود الإيجابية من أجل ضمان احترام القانون الدولي بشكل أفضل على الأرض لم تكن تسير بسهولة وسرعة كما كنا نتمنى، بالنظر إلى خطورة الأزمة. وعلى الرغم من هذا نجحنا في إيجاد مجالات يمكن فيها التواصل مع الأطراف في موضوع احترام القانون الدولي الإنساني. وكنا نزور المحتجزين في مراكز الاحتجاز المعتادة، وهو أمر ذو أهمية واضحة للتأكُّد من حصولهم على أشكال الحماية التي يكفلها لهم القانون الدولي الإنساني.
واستطعنا أيضًا الإسهام في إنشاء اللجنة الوطنية المعنية بالقانون الدولي الإنساني في سورية التي أصبحت مكانًا للتحاور مع القوات المسلحة السورية بشأن التدريب في مجال القانون الدولي الإنساني وتنفيذه. ومما يبعث على الأسف أنه بسبب الدرجة العالية من التسييس التي اتسم بها النزاع السوري، لم يتيسَّر حقًّا تحقيق تقدم كافٍ في شكل حوار فعَّال مستفيض وذي قاعدة عريضة ومتواصل بشأن القانون الدولي الإنساني والتحديات المتصلة بوظائفه الوقائية.
وما شهدناه هو استراتيجيات عسكرية مريبة لدى جميع الأطراف، في ضوء الالتزامات بموجب القانون الدولي الإنساني، وكذلك استخفافًا بمبادئ التمييز والتناسب والحيطة. فضلًا عن ذلك، كانت هناك استجابة غير كافية من جميع الأطراف في التعاون مع اللجنة الدولية لتعزيز الاحترام لهذه المبادئ. إن النزاع السوري واحد من سياقات عديدة تُبيِّن كيف أن تعزيز الاحترام يؤدي إلى تقليل الآثار والتداعيات السلبية على الناس. فلو أن الأطراف المسلحة استجابت في مرحلة مبكرة على نحو أكثر إيجابية لجهودنا من أجل التحاور معها لتحديد طرق قتال تكون آثارها أقل ضررًا على السكان المدنيين، لكانت سورية والسوريون في وضع مختلف اليوم.
ولا شك أنني – مثل كثيرين غيري – أشعر بقلق شديد من الاستخدام الواضح لأسلحة غير مشروعة، منها الأسلحة الكيماوية التي أضفت أبعادًا جديدة على انتهاكات القانون في هذا النزاع.
ونحن الآن في مرحلة حرجة: فالمعارك الكبيرة في قلب سورية يبدو أنها انتهت، وبدأت تظهر احتمالات جديدة لعودة البشر وموارد رزقهم إلى حالتهم الطبيعية. والآن يجب علينا إعادة تقييم الاحتياجات الإنسانية، وإعادة التركيز والصياغة والتفكير من جديد في أولويات أنشطة اللجنة الدولية، والتركيز بدرجة أكبر على ضمان أن يتم التقيد بالقانون الدولي الإنساني من حيث انطباقه على من نزحوا أو فُقِدوا أو احتجزوا. وإنني على اقتناع بأننا نمر بمفترق طرق آخر سيكتسب فيه الامتثال بالقانون الدولي الإنساني، والتغيرات الأساسية في سلوكيات المتحاربين، والحماية القانونية للسكان مزيدًا من الأهمية.
غالبًا ما يجري التحدث عن القانون الدولي الإنساني حينما يُنتهَك، وهو ما قد يخلق انطباعًا بأنه لا يتم أبدًا احترامه، وليس له تأثير. وفي سياقٍ مثل سورية، حيث تلقى انتهاكات القانون اهتمامًا كبيرًا، ما هو التأثير الذي سيتركه القانون الدولي الإنساني؟
من الخطأ – بل ومن الخطورة – الاعتقاد بأن القانون الدولي الإنساني يُنتهك دائمًا، ومن ثمَّ لا فائدة منه. وعلى الرغم من أنه توجد أيضًا تكاليف ومنافع سياسية ومادية وأخرى تتصل بالمصداقية قد تُحفِّز الدول على احترام القانون الدولي الإنساني، فإن هناك حقيقة لا يتم إبرازها بما فيه الكفاية وهي أن القانون يُحترَم أيضًا لأنه القانون، ولأن من الصواب احترام معايير القانون الدولي الإنساني، وليس فقط لأنه توجد عقوبات أو آليات مساءلة دولية في حالة عدم الالتزام بذلك. ومن المهم إيجاد توازن أفضل في كيفية تفسيرنا لانتهاكات القانون الدولي الإنساني وإبلاغنا عنها.
وتكمن الصعوبة في أنك حينما تبدأ المغالاة في التأكيد على الانتهاكات كما أشرت في سؤالك، فإنك في الواقع تنفي عن القانون الدولي الإنساني صلاحيته وجدواه لأنك تُركِّز على الانتهاكات فقط. وفي المقابل، حينما تتحدث فقط عن الحالات التي يتم فيها احترام القانون، فإنك تميل إلى إضفاء طابع مثالي على القانون الدولي الإنساني. وهكذا، فإن ثمة توازنًا ينبغي إيجاده، ويجب أن يكون ذلك التوازن قائمًا على أساس تحليل دقيق للمواضع التي يؤدي فيها القانون وظيفته، والمواضع التي لا يؤدي فيها وظيفته، وما هي أفضل الممارسات التي تكفل أن يؤدي القانون وظيفته.
وتتطلَّب الانتهاكات الممنهجة الواسعة الانتشار للقانون الدولي الإنساني في سورية مراجعة نقدية. وقد قمنا بجهد مثير للاهتمام في محاولة فهم ما الذي يؤدي إلى توخِّي ضبط النفس في سلوكيات الأطراف المسلحة ومراعاة القواعد بمرور الوقت. وتؤكِّد دراسة مهمة عن معايير ضبط النفس، صدرت حديثًا، على أهمية التشاور مع الشخصيات المجتمعية المؤثرة، وكبار رجال الدين، وقادة المجتمع المحلي من أجل تعزيز الاحترام للقانون الدولي الإنساني. وينبغي تشجيع المجتمعات المحلية على إيجاد استراتيجيات للتأثير على سلوكيات المجموعات المسلحة من غير الدولة، لا سيما عند مواجهة مجموعات مسلحة لامركزية ليس لها هيكل هرمي واضح.
وتوجد سبل كثيرة لتوسيع نطاق تطبيق القانون الدولي الإنساني، لكن ذلك لن يحدث من تلقاء نفسه. إننا بحاجة إلى استراتيجيات للتفاعل والتشجيع والتواصل لإظهار جدوى القانون الدولي الإنساني كأداة عملية لتنظيم سلوكيات الفاعلين في الوضع الشائك للحرب.
وبإيجاز، المطلوب هو قراءة متوازنة من أجل اختراق هذا النشاز العام الذي يأتي من النظر إلى الانتهاكات فقط. إن اتجاه المناقشات الدولية نحو التركيز بشكل حصري على الانتهاكات، وبالتالي في أغلب الأحيان نحو قصر مسألة احترام القانون على المساءلة الجنائية بعد الفعل، لهو نهج اختزالي. ومع أن المساءلة القانونية عن الانتهاكات مهمة، فإن الإيمان بأن لهذه القواعد قيمة أخلاقية ومعنوية وقانونية مهم أيضًا.
وفي أغلب الأحيان، ينتهي بنا المطاف بمناقشة المسألة الخطأ، والنظر إلى القانون الدولي الإنساني بوصفه مجموعة قوانين مجردة عفا عليها الزمن وانقطعت صلتها إلى حد ما عن التطورات الجديدة في الحروب. وهي نظرة يجافيها الصواب تمامًا.
والنزاع في سورية ذو دلالات مهمة. إنه يُجسِّد الكثير من المشكلات، التي سنعمل لبعض الوقت من أجل حلها، مثل القبول المستمد من معايير السلوك، والصعوبات في تنفيذ القانون، والجوانب العملية لفهم القانون. وتتجلَّى هذه الصعوبات في الأحداث والتحالفات السياسية التي لا تكاد تخفى على أحد وتكتنف النزاع السوري الذي يكون فيه اتخاذ موقف محايد أشد صعوبة مما قد يبدو في أماكن أخرى.
ما الذي يمكن عمله لتوفير حماية أفضل للمدنيين وتخفيف المعاناة التي تسببها الحرب في سورية؟
بالنظر إلى الوضع الحالي في سورية، أنا أكثر اقتناعًا من أي وقت مضى بأن اللجنة الدولية في وضع فريد بفضل التفويض الممنوح لها على الصعيد القانوني والميداني وفيما يتصل بالسياسة العامة. وعليه، وفي إطار ما يمكننا عمله، فإن بمقدورنا أن نعمل لضمان الالتزام بالمعايير القانونية الواجبة التطبيق، ومساندة الترتيبات العملية لتعزيز احترام القانون، وإقامة حوار بشأن السياسات يتيح حماية أفضل للمدنيين.
ولكن النزاع السوري لا يمكن حله عن طريق الفاعلين في الحقل الإنساني. فالديناميات السياسية الكامنة للنزاع تسببت في مشكلات إنسانية، واستجابة العاملين في الحقل الإنساني لا يمكن أن تحل تلك المشكلات الكامنة.
وثمة افتقار إلى الإرادة السياسية لحل إشكاليات السلطة في سورية، على الرغم من أن تكلفة النزاع يبدو أنها تدخل ببطء في الحسابات السياسية. وهناك أيضًا الكثير والكثير من المشكلات، والفاعلين، والتعقيدات، والكثير من التشتت والتفتت، وذلك كله يجعل هذا النزاع عسيرًا مستعصيًا. فكل شيء في سورية يرتبط دائمًا بالتجاذبات السياسية المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية. ويزيد هذا من صعوبة تنفيذ أنشطة اللجنة الدولية من حيث إنَّ محاولة حث الأطراف الفاعلة على اتباع السلوكيات الصحيحة تعد أكثر تعقيدًا مما هي في أوضاع أخرى، يمكنك فيها في نهاية المطاف إطلاق مبادرات محلية ثم رعايتها ودعمها. وهي أصعب بكثير في نزاع يتسم بأن ما يحدث فيه على الصعيد المحلي يؤخذ في الوقت ذاته بعين الاعتبار في الحسابات السياسية للقوى الكبرى والمؤسسات الدولية الكبرى.
هذا الوضع يجبر الفاعلين في الحقل الإنساني على العمل على مستويات أكثر تفاوتًا وتباينًا: تقوية السلطات المحلية، والعمل مع الشركاء المحليين، والتأثير على الشركاء الوطنيين، ومحاولة تحقيق اصطفاف المجتمع الدولي.
وأفضل ما يمكن للجنة الدولية عمله كمنظمة إنسانية محايدة هو توجيه انتباه المجتمع الدولي وكل الفاعلين الآخرين إلى التكاليف الإنسانية الهائلة لهذا النزاع، وعجز النظام بوجه عام عن الاستجابة. وفي ضوء التكاليف الفادحة غير المقبولة على المدنيين، يجب أن يكون المجتمع الدولي في نهاية المطاف قادرًا على خلق الإرادة السياسية وإعادة تفعيل الآليات السياسية اللازمة لحل بعض المشكلات الكامنة. وفي نهاية المطاف، ستدرك الأطراف الدولية الفاعلة المتورطة في سورية أن استمرار النزاع سيُسبِّب مشكلات أكثر من تسويته بالسبل الدبلوماسية. وفي الوقت الحالي نحن في وضع مًجمَّد يكتنفه الغموض. والآن في عواصم الأطراف الرئيسية الفاعلة في سورية يجري نوع من إعادة النظر في الحسابات. وهذا هو ما يتيح فرصًا للتحرك.
ولا أدري ما يخبئه المستقبل. ولكن من باب التفاؤل يمكن القول إن تركيا وروسيا وإيران والولايات المتحدة وأوروبا والسعودية وآخرين بما فيهم الدولة السورية والفاعلون من غير الدولة قد يخلصون فجأة إلى استنتاج مؤداه أن ثمة أسبابًا وجيهة لتغيير المسار. وثمة محادثات ومناقشات جارية، قد تكشف أن بصيصًا من الأمل يلوح في الأفق.
مهما يكن من أمر، فإنه لم يتضح هل سيغتنم هؤلاء الفاعلون هذه الفرص، ويدركون أن تكاليف الاستمرار في وضعهم الحالي مرتفعة بدرجة لا يمكن قبولها، ولذا سيشجعون على إيجاد تسوية سياسية. هل وصلت المعارك الكبرى حقًّا إلى نهايتها؟ ونحن في طريقنا إلى وضع تستقر فيه خطوط المواجهة، وتتفق فيه مناطق النفوذ، ويعاد فيه ببطء بناء المؤسسات، وتبدأ فيه الآليات السياسية عملها، وتتراءى آفاق المصالحة؟ أعتقد أن ما هو في مصلحة السكان السوريين والقانون والمبادئ الإنسانية واضح.
ولا يسعنا إلا أن نأمل أن يغتنم الفاعلون السياسيون الخيارات المطروحة على مائدة البحث. ولكننا كعاملين في الحقل الإنساني لا يمكننا في الوقت نفسه استبعاد احتمال أن يكون هذا مجرد تهدئة مؤقتة لبعض من أشد الأنشطة العسكرية وانتهاكات القانون الدولي تطرفًا وضراوة.
نُشر هذا الحوار في الأصل في العدد الأخير من المجلة الدولية للصليب الأحمر، وقد خُصص هذا العدد لتحليل أبعاد «النزاع في سورية». انقر هنا لقراءة مفصلة لمحتويات العدد باللغة العربية.
أجرى الحوار في جنيف في 11 حزيران/ يونيو 2018 فينسنت برنارد، رئيس تحرير المجلة الدولية وإلين بوليسنسكى، مديرة تحرير المجلة.
Comments