البعد عن الأهل، والتواصل بلغة أو لهجة جديدة مختلفة عن اللغة الأم، وتغير العادات اليومية وأسلوب الحياة، الميل للوحدة، والشعور بالعزلة والفقد، كلها – أو بعضها – سمات تميز من ترك وطنه وارتحل إلى بلد جديد، سواء كان سبب الاغتراب اختياريًّا، كالسعي وراء الرزق أو الدراسة، أو إجباريًّا بسبب الحروب والنزاعات المسلحة في بلده الأم.
أحيانًا يسعى هؤلاء المهاجرون إلى إيجاد معنى للوطن في مجتمعاتهم الجديدة، قد يكون المعنى في مطعم يقدم وجبات تقليدية ألفوها في بلادهم، أو ارتداء ملابسهم التقليدية، أو ممارسة الغناء والرقص المعروف لديهم، أو مجرد تجمع أبناء الجالية الواحدة لممارسة الرياضة أو حتى لتبادل الحديث بلغتهم أو لهجتهم.
«مطعم الخرطوم» .. ملتقى أهل السودان في قلب القاهرة
يوم 12 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1990 تاريخ له خصوصيته لدى بتول محمد أحمد، وهي سيدة سودانية، 50 عامًا، إذ إنه بمثابة النقطة الفاصلة بين حياتها في السودان وحياتها التي امتدت على مدار 28 عامًا بمصر.
حين وصلت العاصمة المصرية القاهرة، برفقة زوجها صلاح محمد البشير الذي عمل تاجرًا بين مصر والسودان منذ العام 1986، كانت في بدايات العشرينيات من العمر. خلال سنوات عمل زوجها الأولى، طالما بحث عن منفذ بيع طعام سوداني بالقاهرة، ولكنه لم يجده، ومن هنا جاءت فكرة تأسيس «مطعم الخرطوم» لكي يصبح ملتقى السودانيين الموجودين بالقاهرة للحصول على الأكلات الشعبية السودانية بأسعار مناسبة.
أُسس المطعم في وسط القاهرة على طراز المطاعم الشعبية بالخرطوم، وقدم أصنافًا سودانية مختلفة مثل القراصة والكسرة وغيرها. ورغم وفاة صاحب المطعم إلا أن زوجته وشريكته بتول تمكنت من الحفاظ عليه، وأصبح سفارة شعبية مصغرة للسودانيين، ونموذجًا للتكافل الاجتماعي بين رواده ومساعدة بعضهم البعض في حل مشكلاتهم اليومية.
«المطعم عبارة عن بيت للسودانيين، وليس مجرد مكان لتناول الطعام. السودانيون في الغربة ينسون خلافاتهم. هنا يأتي أبناء الجنوب والشمال واللاجئون» كما تقول صاحبة مطعم الخرطوم.
السودان موحدًا في ملعب كرة القدم
وفد ريال جوزيف، 30 عامًا، إلى مصر هو وأسرته في العام 1998، من مدينة واو بجنوب السودان، هربًا من حرب أهلية طال أمدها آنذاك. لا يتذكر ريال الكثير عن وطنه، فكل ما يربطه بمدينة (واو) هو صور له ولأسرته أمام منزلهم القديم. تعلم اللغة العربية وحصل على ليسانس الحقوق، حرص منذ الصغر على ممارسة الرياضة وخاصة كرة السلة وكرة القدم.
ريال شديد التواصل مع أبناء جنوب السودان المقيمين بمصر، وأثناء زيارته لأحد رفاقه شاهد أطفاله يلعبون في الشارع، وعرف أنه لا يوجد مكان مناسب يمكن أن يلعب فيه الأطفال، فجمع مبلغًا من المال واستأجر ملعبًا لكرة القدم وجمع الأطفال ودعاهم للعب، ثم قرر تدريبهم علي مهارات اللعبة.
بدأ بعدد لا يتجاوز عشرين طفلًا، إلى أن أصبح لديه أكثر من مئة طفل من أبناء جنوب السودان وشماله، اختار أفضل العناصر وأسس بهم فريق المستقبل لكرة القدم للأطفال أقل من 18 عامًا.
«لا فرق بين شمال السودان وجنوبه. نحن نحاول أن نلعب وننسى الحروب. نحاول ترسيخ حب الوطن في أطفال لا تعرف ما هو السودان» هكذا يقول ريال.
فضفضة نسائية
حبات البن الممزوجة مع القليل من الحبهان تُحمص باستخدام موقد الفحم لمدة تتجاوز الساعة، حتى تنتشر رائحة القهوة السوداني تدريجيًّا في حجرة صغيرة لا تتجاوز أربعة أمتار، يجتمع عليها الفرقاء من أبناء الجاليات الأفريقية المختلفة في القاهرة سواء كانت سودانية أو جنوب سودانية أو إثيوبية أو إريترية.
في تمام الواحدة ظهرًا يومي الأحد والأربعاء من كل أسبوع، تستعد هذه الغرفة الصغيرة الكائنة بالمعادي، أحد أحياء القاهرة لاستقبال نحو عشرين سيدة وأطفالهن من مختلف الجنسيات والأعمار، حيث تجتمع السيدات في جلسة «للفضفضة» والتي تعد أحد أنشطة تمكين اللاجئات التابعة لجمعية تضامن المعنية بأوضاع اللاجئين.
«روز، ماجدة، أم فرح، بخيتة، أمل» وغيرهن، جميعهن لاجئات اجتمعن في جلسة الفضفضة في محاولة للبحث عن الحرية والعيش بالطريقة التي اعتدن عليها قبل اللجوء.
أبو عبيدة وأبناؤه… العاصي والفرات إلى جوار نهر النيل
بدور العليان ووائل السراقبي «أبو عبيدة»، جاءوا إلى مصر في العام 2012 بأبنائهم الثلاثة هربًا من الحرب الدائرة في سورية. كانت صورة الحرب هي آخر ما يذكره الأطفال عن الوطن.
محو الخوف ومساعدة الأطفال في الغربة هو الدافع الرئيسي لتأسيس مركز «مستقبلنا» التعليمي، الذي يقدم خدمات تعليمية ونفسية للأطفال السوريين وخاصة ممن تعرضوا لظروف قاسية أثناء الحرب، في المركز تعددت أساليب ترسيخ الهوية السورية من خلال صور دمشق القديمة، والمعالم الأثرية السورية التي يحرص المعلمون على التقاط صور للأطفال بجوارها، وتحيتها بقَسَم الطفولة كل صباح في الطابور.
«أطفال سوريون شبوا في مصر. يعرفون النيل أكثر من معرفة العاصي والفرات. مهمتنا أن نعيد لهم الوطن الأم، ونكرس في نفوسهم الأمل في العودة».
العراضة الشامية… من دمشق إلى القاهرة
علاء قصار، شاب من دمشق القديمة، ترك سورية مع اندلاع الحرب عام 2012 وانتقل إلى لبنان ثم إلى تركيا، واعتاد سابقًا على تأدية فنون العراضة الشعبية بسورية. قرر أن يؤدي هذا الفن المتوارث في كل بلد يقيم به، لتذكير أبناء جاليته بتراثهم، ولكن سرعان ما تحولت الهواية إلى وسيلة لكسب الرزق وأسس فرقة للعراضة الشعبية في تركيا، وقدم حفلات في عدد من الدول منها الإمارات العربية واليونان، إلى أن جاء إلى مصر منذ عام وأسس فرقته التي ينتمي جميع أعضائها لسورية، مقيمين وطالبي اللجوء بمصر.
العراضة الشامية هي أحد فنون الأداء المتوارثة التي يؤديها الشباب في حفلات الأعراس والمناسبات الدينية الإسلامية، فهي عبارة عن أبيات شعرية تُلقى بمصاحبة موسيقى الدفوف والطبول، بصحبة راقصين يستخدمون الأعلام والمشاعل والسيوف والمزمار البلدي لإكمال العرض، ويرتدي أصحاب فرقة العراضة ملابس خاصة مستوحاة من التراث الشامي.
اختار علاء أعضاء فرقته من الشباب لم يكن لهم معرفة سابقة بكيفية أداء العراضة، فدربهم وصمم معهم رقصات خاصة تميزت بها فرقته، واستطاع إحياء حفلات وأعراس مصرية وسورية في جميع المحافظات المصرية، بالإضافة إلى إحياء حفلات الأفراح والمناسبات الخاصة بالسوريين اللاجئين والمقيمين في مصر.
«العراضة فيها رائحة الشام وتذكرني بوطني. عندما أمارسها أنا والفرقة، أشعر أني في الشام، لأنها تحمل كل تراثنا» هذا ما يعتبره علاء سر نجاح فرقته.
تصفيف الشعر على الطريقة الإثيوبية
جاءت إلى مصر منذ ثلاثة أعوام هي وأبناؤها الخمسة بعد رحلة طويلة. إيناس أحمد، سيدة من إثيوبيا تنتمي إلى قبيلة الأورومو، تجاوز عمرها الأربعين عامًا، تركت موطنها بعد أن تزوجت وأقامت هي وأسرتها بالمملكة العربية السعودية طوال 16 عامًا، ثم عادت إلى إثيوبيا مرة أخرى. لكنها في نهاية المطاف ارتحلت إلى مصر طالبة اللجوء هي وأولادها بعد الاضطرابات التي اندلعت في إثيوبيا في العام 2014. سكنت إيناس في منطقة عرب المعادي على أطراف القاهرة حيث يسكن الكثير من المهاجرين.
استغلت إيناس معرفتها الجيدة باللغة العربية التي تشربتها من أمها اليمنية، فتعرفت إلى مصريين ساعدوها في افتتاح صالون لتصفيف الشعر. واختارت شارعًا معروفًا بكثرة الإثيوبيين فيه لتفتتح فيه الصالون. صار هذا الصالون ملتقى لفتيات الأورومو. تأتي الفتيات إليها لتصفيف شعورهن أو لتجهيز العرائس وتأجير الملابس الأوروموية التقليدية التي يحرص الأورومو على ارتدائها في مناسباتهم الخاصة.
«الصالون ده بيت تاني لبنات الأورومو، وخصوصًا أني باعرف أتكلم معاهم بنفس اللغة وده صعب يلاقوه، وباعملهم اللي هما متعودين عليه في إثيوبيا، وكمان باجهزعرايس وباساعدهم يأجروا فساتين الأفراح التقليدية، المحل ده بيتي الإثيوبي في مصر». إيناس عن الصالون.
إثيوبيا حاضرة بملابسها
الأبيض والأحمر والأخضر، هذه الألوان الثلاثة هي أشهر الألوان المستخدمة في الملابس التقليدية الإثيوبية، وتتنوع بين فساتين وقمصان وبناطيل، وتتنوع تصميمات الملابس الإثيوبية وفق كل قبيلة، تحتوي منطقة عرب المعادي، وخاصة شارع الجمهورية بمتاجر ملابس يديرها مقيمون ولاجئون ينتمون إلى قبائل إثيوبية مختلفة، حيث اختاروا السكن والعمل في هذا الشارع بجوار بعضهم البعض، حيث تخصصت هذه المتاجر في بيع الملابس التقليدية الإثيوبية على اختلاف ألوانها، حيث يتردد عليها سكان الشارع من الأثيوبيين لشراء أو تأجير الملابس لحضور مناسبات خاصة مثل الأعراس، وإحياء الأعياد التقليدية الإثيوبية التي تجمعهم في مصر.
هذه المحال افتتحها أصحابها لكي تكون وسيلة لكسب الرزق لأبناء الجالية الواحدة حيث يحيكها خياطون من إثيوبيا تخصصوا في حياكة الملابس التقليدية، بالإمكانيات المتاحة وعرضها في المحال للبيع أو التأجير، حتى يتسني لأبناء إثيوبيا إحياء مناسباتهم الخاصة على الطريقة التقليدية التي تربوا عليها في بلدهم الأم.
من بائع متجول إلى مدرس يعلم أطفال السودان بالقاهرة
«مستر أسامة» كما يحب أن يناديه طلابه، لم يكن في اختياره ترك مدينة دارفور بالسودان والمجيء إلى مصر، ولكن ظروف الحرب اضطرته للخروج من بلده إلى مصر وذلك عام 2004، عندما جاء إلى مصر توقع أن فترة تواجده لن تطول، وفور الحصول على بطاقة لجوء سيتمكن من السفر إلى الخارج إلا أن ذلك لم يحدث، ولم يتمكن من إيجاد فرصة سفر جيدة.
عمل أسامة – 45 عامًا- بائعًا متجولًا لإعالة أسرته، إلى أن قرر تغيير حياته، وكانت البداية مع دراسة اللغة الإنجليزية، فعلم نفسه بنفسه ثم تعرف على مؤسسة «سانت أندروز» وعلى خدمات تعليم اللغة الإنجليزية للكبار لديهم، فالتحق بالدورات التدريبية واستطاع في أقل من عام إتقان اللغة الإنجليزية، عام 2009 كانت نقطة التحول في حياته حيث عمل في تدريس اللغة الإنجليزية للأطفال بمدرسة «سانت أندروز» المخصصة لأطفال اللاجئين، ولم يكتف بتدريس اللغة الإنجليزية بل درس التاريخ، والرياضيات، والعلوم.
ولأن أغلب الطلاب من السودان وجنوب السودان، والمنهج الذي يدرسه هو المنهج السوداني فشعر أسامة أنه يخدم بلده، وأن مكانه الصحيح مع أبناء بلاده ممن اضطرتهم الظروف إلى الخروج بسبب الحرب.
«أنا محظوظ لأني أعلم الأطفال. لقد غيروا حياتي. أشعر معهم أنني في السودان. أصبحوا أهلي الذين تركتهم هناك وانقطع الاتصال بيني وبينهم منذ سنين طويلة». – أسامة يتحدث عن عمله.
تعليقات