لم يدُر في خَلدي وأنا أميل برأسي إلى الخلف، ليلقي بثقله على حافة المقعد، فيريح عنقي من عناء حمله طوال الوقت، ويرتاح هو من مذلة التبعية المطلقة له، واعتماده الكامل عليه في كل حركة أو سكنة، أن شعوري بالراحة والاسترخاء، في أول يوم لي كصحافية، لم يكن سوى ردة فعل عفوية لخروجي من عنق زجاجة عذابات ما بعد التخرج، بكل ما يطغى عليها من آلام وآمال مشقة البحث عن عمل، والتي تكللت بالنجاح في نهاية المطاف، وذابت مرارتها في حلاوة اللحاق بركب الموظفين في الأرض.
لكنني لم أكن أدرك بعد أنني قد وضعت قدمي على أول طريق اللا عودة، وأنني استلمت بطاقة سفر في اتجاه واحد، الذهاب فقط، إلى كوكب المتاعب والمخاطر، وكل أنواع القلق والمعاناة إلى حد المجازفة بالروح في نقطة ملتهبة جدًّا وباستمرار اسمها قطاع غزة، كوكب تحكمه صاحبة الجلالة، الصحافة، وتميزه عن غيره من ممالكها الممتدة في كل أصقاع الأرض برفع سقف المخاطرة فيه من مجرد المتاعب إلى حد الموت.
هل تختلف المرأة عن الرجل جسمانيًّا وبيولوجيًّا؟ هناك من ينسب للمرأة صفات نفسية لا أراها صادقة ودقيقة في معظمها، كرقة الحاشية، وشدة الخوف والقلق، وتحكيم القلب فيما ينبغي أن يقتصر على العقل، وغير ذلك مما يجعل المرأة في موازين المجتمع ضعيفة مترددة وغير قادرة على مواجهة المواقف التي تتطلب شجاعة وإقدامًا ومواجهة صلبة للمتاعب والأخطار.
لكن في اعتقادي فإن بعض ما يقال عن جوانب الاختلاف بين المرأة والرجل هو أمر لا يمكن دحضه أو إنكاره، والبعض الآخر لا يعدو كونه إشاعات وافتراءات، أو لنكن أكثر موضوعية ونقول إنه مجرد افتراضات جانبت الصواب بسحبها لنهج البعض على الكل. أنا امرأة وزوجة وأم، وعلى مدار اثنين وعشرين عامًا من العمل في مهنة المتاعب، لم أختلف في عطائي المهني عن الرجل بسبب خوف من مواجهة الخطر أو رهبة من الموت، رغم أنني كنت في قرارة نفسي غارقة في لجة الخوف، لكنني كتمت شعوري المرير هذا بتغليب ضرورات تسليط الضوء على الانتهاكات، وإعلاء صوت الفلسطيني المقهور المذبوح، ليس فقط لأنني صحافية ومهمتي هي نقل الحقيقة للعالم، بل القضية أعمق وتتجاوز حدود المهنة، كوني في البداية والنهاية فلسطينية ابنة هذا الوطن.
ما يضع على كاهلي مهام إضافية، ليس كأي صحافي يغطي منطقة ساخنة كقطاع غزة. فعندما يُراق الدم الفلسطيني على جوانب كلماتي، وتزكم رائحة الموت في جنبات غزة أنوف من يشاهدني، ومن يسمعني خلف المدى، وعندما تعربد إفرازات الحرب والحصار على قسمات وجهي؛ فتترقرق دموع غزة في عيوني، فأبكي ويبكي معي من يشاهدني، أكون قد أوصلت إلى حد كبير رسالة المحاصرين المعذبين، وما عساي أفعل وأنا لا أملك إلا الكلمة والصورة والعزيمة والإرادة.
لم يكن يمر يوم أو يكاد خلال العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، دون أن تترك الحرب بوحشيتها ولا إنسانيتها بصماتها القاتلة للروح، والمدمرة للنفس في وجداني، فكل مرة كانت مختلفة في آثارها الساحقة الماحقة، حتى لصلابة المراسل الإخباري المعتاد على تغطية الحروب. ذات مرة كنت في مستشفى الشفاء أغطي الأحداث، فإذا بأم تهرع باحثة عن فلذة كبدها، وتحسبه جريحًا، وبعد أن ساعدتها في العثور عليه، وجدناه قد ارتقى لبارئه.. بقيت هذه الأم المكلومة تمسك بيدي، وكان لا بد من الخروج في رسالة مباشرة، وبعد شد وجذب بيني وبينها، انتزعت يدي منها، فرمقتني بنظرة لم أتمالك نفسي حينها، وبكيت على الهواء مباشرة، وتمزقت روحي بين تلبية نداء الإنسان ونداء العمل. بعيدها وخلال هدنة بين الفصائل الفلسطينية وجيش الاحتلال، كنت أعد تقريرًا، فإذابرجل طاعن في السن، يوبخني ويلومني، لماذا بكيت وأبكيت من أبكيت.
«ليش تبكي» ألقاها في وجهي، والغضب يتملكه، وحينها أردف قائلًا: كنت أخفف من وطأة الحرب على عائلتي، وأقول لهم: «لنا شاهين تصول وتجول في الميادين فلا تخافوا وأنتم في المنزل».
استوقفتني كلمات الشيخ العجوز طويلًا، وأدركت كم أن الصحافي يمكن أن يلعب دورًا في تقديم الدعم النفسي لمن لا حول له ولا قوة. وعادت بي الذاكرة إلى طفل كنت قد أعددت عنه تقريرًا، وهو مريض بحاجة إلى الدواء، فوصل صوته من خلال كلماتي إلى مؤسسة أجنبية، تكفلت بعلاجه إلى أن أتم الله عليه الشفاء. لم ولن أنسى تلك الضحكة المزروعة على شفاهه ما حييت.
صوت الصحافي يصل إلى من يريد أن يهمه الأمر، إن أراد أن يسمع. عندما كنت في هافانا، هناك في غرفة صغيرة مظلمة، بكت نساء كوبا مأساة غزة، وترقرق الدمع في عيني من فرط إحساسي بالتأثر والتأثير، جاشت به نفسي والمرأة الكوبية تخرج من غرفة غزة في جناح القناة التي أعمل بها في مهرجان هافانا، فتضمني إلى صدرها بحنو أم أو أخت تشاطرني الأحزان بفاجعة الإنسانية، تبعثرت أشلاؤها على مذبح الحرب، والرجل الكوبي يشد على يدي بقوة وعزم من يسدد قبضته في وجه المعتدي، مؤازرة لشعب أبى الضيم والتفريط بحق هو الحق عينه إذا حصحص.
الصحافة هي عمل إنساني على كل المستويات، وفي مكان على صفيح ساخن كقطاع غزة، لا يمكن للصحافي أن يفصل بين عمله وإنسانيته. تدق طبول الحرب، فيرقص على وقعها قلبي، ليس فرحًا بالطبع، فالطير يرقص مذبوحًا من الألم، ما رأيته أمام عيني هو حرب، هل أقول إنها لم تقم وزنا لخطوط حمراء، ولم تعترف بممنوعات إنسانية أو محظورات على خلفية عمر أو جنس أو حالة مدنية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالقتال؟ هذا الشيوع في الاستهداف، والوقوع في بؤرة الخطر، يجعل كل الغزاويين سواسية أمامها، إلا أن الصحافي سرعان ما يجد نفسه خارج السرب، فما إن يشتعل أوار الحرب، حتى يجد نفسه مندفعًا في الاتجاه المعاكس، نحو دائرة الحدث بكل مخاطرها المميتة.
فعلى مدار ردح طويل من الزمن، وأنا أمتهن الصحافة، فإنه حسب اعتقادي، لا يوجد أي تناقض ما بين العمل المهني والعمل الإعلامي الإنساني، بل على العكس هناك تكامل واضح، ولولا صوت الصحافي لما وصلت معاناة ابن غزة المحاصر، إن كان خلال أي عملية عسكرية أو مؤخرًا في مسيرات العودة وكسر الحصار، فلقد حركت الصور والكلمات مجتمعًا دوليًّا كان صامتًا صمت القبور. آخر الكلام وفصل الخطاب هو أن الصحافة والإنسانية خطان متوازيان ودون خطوط العالم كلها دائمًا وأبدًا يلتقيان.
الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر إلا عن وجهة نظر أصحابها، ولا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي للجنة الدولية للصليب الأحمر.
نُشر هذا المقال في العدد 64 من مجلة «الإنساني» الصادر في كانون الأول/ ديسمبر 2018 ضمن ملف «حروب الصحافيين الخاصة» الصادر في عدد المجلة الخاص بذكرى مرور عشرين عامًا على انطلاقها.
تعليقات